عرمان والفيل يا ملك الزمان

 


 

 

استلف عنوان المقال من مسرحية للكاتب المسرحي و الناقد السوري الراحل سعد الله و نوس بعنوان " الفيل يا ملك الزمان" و معروف كان ونوس مشغولا بالنقد السياسي عبر أدوات الفون وخاصة المسرح، و هذه المسرحية من روائع ما كتب كنص مسرحي يتكون من أربعة لوحات. و هي أقصوصة شعبية يحكى، أنه كان هناك ملك يملك فيلا، و كان دائما يخرج و يتجول في القرى القريبة من قصر الملك، و كان يهدم المنازل و يخرب الزرع و يقتل الاطفال بأقدامه، و كان أهل القرية يتزمرون لكنهم لا يحتجون بصوت عال خوفا من عقاب الملك لهم، حتى ظهر شخص يدعى ذكريا، و هو رجل ثوري، أخذ يعبيء آهل القرية ضد الفيل، و يطالبهم بالذهاب لشكوى الفيل عند الملك لكي يجد لهم حلا. و في أحدى الجلسات عندما كنا نتعرض لاعمال ونوس قال إلي الصديق الناقد المسرحي السر السيد أن الأقصوصة نفسها أخذها ونوس من حكاية كانت تحكى في دارفور و كان قد أعجب بها وحولها إلي مسرحية.
و مسرحية ونوس تعتمد على الرمز، و تتكون من أربعة لوحات؛ الوحة الأولي مرحلة التعبئة،عندما اقتنع آهل القرية بحديث ذكريا الثوري ليشكوا الفيل، و في هذه الوحة أجتهد ذكريا كثيرا حتى تم الاقناع، و في الوحة الثانية أخذ ذكريا ينظم آهل القري، و قال لهم يجب التدريب على الاحتجاج، و بالفعل أوقفهم صفوف عديدة، و هو يقول يا ملك الزمان الفيل و هم من خلفه يرددون قتل الطفل حرق الزرع هدم البيت و ظلوا يجرون البروفات حتى توحدت كلمتهم، الوحة الثالثة و هم أمام القصر حيث كان هناك جنود في كل مكان مدججين بالسلاح و عند دخولهم للملك مروا بممر طويل علي الجانبين جنود مشاة و فرسان علي الحصين حتى وصولوا مكان الملك، و انتظموا في صفوفهم التي تدربوا عليها. و قال لهم الملك ماذا تريدون قال ذكريا يا ملك الزمان الفيل و لم يردد خلفه آهل القرية، كررها عدة مرات و لم يجد من يردد ورائه كما علمهم. قال له الملك إذا لم تقول ماذا فعل الفيل سوف أغتالك، قال الفيل يشتكي من الوحدة و نريد أن نزوجه، قال الملك هذه فكرة صائبة، و وجه حديثه لذكريا أنت سوف تكون مشرفا علي الزواج و الحفل ثم بعد ذلك تكون سايسا لكليهما، و هنا يلتفت الممثلون للجمهور و يقولون الآن عرفتوا لماذا كثرت الفيلة في بلادنا. أي الخذلان يشكل عمودا فقريا للإنحراف نحو الديكتاتورية.
إذاً ما هي العلاقة بين هذه المسرحية و ياسر عرمان، أولا أن المسرحية من المسرحيات الجادة التي تعالج قضية الصراع ضد السلطة و الطغيان، و في نفس الوقت تؤكد أن الخذلان طريق ممهد للطغيان، و ثانيا تبين أن سكوت الناس هو الذي يمكن سطوة الشموليين، و العلاقة لبين المسرحية و عرمان لا تقال لكن تحس من خلال السرد و تتابع الحكاية و تبديل المواقف. كنت مراقبا لحديث عرمان أثناء الثورة، و بعد الثورة، و خاصة بعد التوقيع على اتفاق جوبا، جاء عرمان باعتباره رجل تمرس علي الصراع السياسي و يمتلك القدرة علي إدارته، و أيضا هو رجل يميل إلي الشغل بالذهن دون الآخرين، و كان يطلق مبادراته حول هل الأزمة بقوة و يجادل عليها " رغم أنه كان يستخدم جمل تبرئة الذمة كثيرا، مثل أنه يقول يجب مشاركة الذين لم يفسدوا و يرتكبوا جرائم بهدف توسيع دائرة المشاركة و فجأة يعتقد أن حديثه ربما لا يفهم بالصورة المطلوبة فيرجع لتبرئة الذمة " لكن يجب عدم مشاركة الدولة العميقة و عناصر النظام السابق" لا أدري رجل يعرف أن الصراع دائما يكون عرضة لشروط حزبية قاصرة لأنها لا تدرك متغيرات الواقع، لكنه يبقى متغيرا وفقا لحساب تخصه شخصيا، و لا يفهم كيف تؤثر التغييرات في الرؤى على ميكنزمات الفعل السياسي، فهو أصبح ينطلق من حسابات شخصية سوف تخسره كثيرا إذا لم يفطن لذلك، و الحسابات الشخصية تنتج من الصراع داخل منظومته " الحركة الشعبية شمال" التي تعددت واجهاتها، و كل مجموعة مهددة بالإنشطار، الأمر الذي يؤرق عرمان و يجعله يبحث عن البدائل، تظهر في مقالاته التي لا تستند لرؤية ديمقراطية، رغم أنه يعتقد أن تردد الثورية في الخطاب بشكل متواصل لا يكشف عمق الأزمة، أن العصى التي يلوح بها عرمان ليجعل منها فزاعة توقف عمليات النقد تكشف عن الثقافة المختزنة و مهما حاول الشخص إخفائها تظهر من خلال ردات الفعل، أو دفعات الهوى.
تتلون أشكال الثقافة الشمولية عند الأيدلوجيين أن كانوا يسارا أو يمينا، و أيضا أصحاب عقل البندقية، هؤلاء يريدون تشكل المشهد السياسي وفقا لرؤاهم الخاصة تحت شعارات ديمقراطية لا تشكل حضورا يقينيا في ثقافتهم. و هناك أيضا الذين يحاولون أن يجدوا لهم عدوا خارجيا لمنظومتهم الحزبية، لكي يشغلوا عضويتهم به حتى لا يتطرقوا للقضايا الفكرية و قضايا التغيير، خاصة أن الثورة قد خلقت مناخا إيجابيا لعمليات التغيير، إذا كانت متعلق بالدولة أو بالمنظومة الحزبية، لذلك الكل يحاول أن يحافظ علي مواقعه في ظل الثورية المنتشرة في جيل الشباب. فالثورية التي تتكرر بعد الثورة و الوثيقة الدستورية هي ثورية ليس لها علاقة بعملية التغيير السياسي و المجتمعي و البناء الوطني فيهي لها علاقة فقط بالحفاظ علي مواقع حزبية لا يريدون الشباب الالتفات إليها لكي يحصل التغيير. لكي ينجح مشروع الديمقراطية في البلاد يجب التغيير لا يطال الدولة لوحدها بل كل المؤسسات الحزبية حتى تتسق مع عملية التغيير، و عرمان من رواد المحافظ مهما حاول أن يخفي ذلك بتردد الثورية، الثورية ليست شعارات أنما هي أفعال في الواقع. و ظهرت في تكوين الآلية. أن دعاة التغيير لم يستطيعوا الخروج من الإرث القديم. و يبين ضعف الثورية عندهم لأنها لم تحقق واقعا مغايرا حتى في سلوكهم، فالديمقراطية الرفيق عرمان لا تقبل الفزاعات لوقف النقد بل تشجع النقد و المتظلم عليه الذهاب للقضاء. أسأل نفسك و رئيس الوزراء و رئيس مجلس السيادة لماذا لم تشكل مؤسسات العدل و محكمة الاستئناف و المحكمة الدستورية، و المجلس التشريعي، و ديسمبريين ياليت وقفت تنافح أن يعطوهم نصف مقاعد التشريعي لكي يحدث التغيير الحقيقي، بدلا عن الدفاع عن شخصيات لا تشكل لك حماية و ليس لها عطاء تقدمه لصناعة الديمقراطية في البلاد، الذين يفتقدون الثقافة الديمقراطية في مشروع التثقيف السياسي لا يصنعون واقعا جديدا مغايرا للشمولية. و الإنقاذ سقطت و لن تعود مرة أخرى، فالذي سقط بأمر الشعب لن يرجع مرة أخرى، لكن يمكن أن يستخدم شماعة لتبرير الفشل.
و أيضا أختلف عرمان بعد مبادرة حمدوك. هناك يتشتت القول....! أن هناك رجال خلف مبادرة رئيس الوزراء، و هو قول لا يستبعد، باعتبار أن المبادرة ليس الهدف منها إيجاد حاضنة جديدة، أنما محاولة من رئيس الوزراء بهدف تغيير في الواقع من خلال تغيير المضمون، أي أن يلفت الذهن للعديد من القضايا و يجعل كل يحاول أن يفهمها من خلال قدرته علي تحليل الأوضاع. و لا اعتقد أن عرمان يكون أحد مهندسي المبادرة لأنه كان منزعجا منها حتى أنه كان وراء الاجتماع الذي ضم الجبهة الثورية و المجلس المركزي، لكي لا يجعل رئيس الوزراء أن يذهب إلي نهاية الشوط بفكرته. لكن عرمان كان وراء تكوين الآلية لأنه لا يستطيع أن يخرج من دائرة الإرث السياسي القديم، و التفكير خارج الصندوق في ظل المتغيرات في الحركة الشعبية صعب. ذكريا خزله آهل القرية، و عرمان أضعف خطابه السياسي التشظي الحادث داخل منظومته السياسية، لذلك أصبح خطابه في البحث عن حاضنة. رغم أن عرمان يملك خاصية لا يملكها الأخرين أنه رجل فيه صفة المفكر. و من له هذه الصفة لا يبحث عن حاضنة بل يستطيع بفكره أثبات وجوده في الساحة السياسية، و يدير صراعه بفكر، لكن لكل خياراته الخاصة، في الختام أن الساحة السياسية في السودان مسرح يكشف عوراتها. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء