لِم سكت عن الغلوائيين حماة بيضة الدين الغضب أزاء إتفاق "العلمانية"؟ على غير المألوف والمتوقع برئت المنابر من نوبات التشنج كما خلت الشوارع من مظاهر التعنُف في أول جمعة أعقبت إتفاق علماننية الدولة . فهل استرد الغلاة الغلاظ رشدهم أم فقدوا قدراتهم اللوجستية على التجييش؟ أم هم على دين جنرالاتهم لايرون إلا مايروا؟ ربما يحق لنا استعادة إحدى حدودات شرلوك هولمز كما فعل "صديقنا عن بعد" ثروت قاسم". هولمز سأل دكتور واتسون عن رد فعل الكلاب ليلة دخول القتلة بيت القتيل. لّما أبان الدكتور إلتزام الكلاب الصمت ليلة الحادث خلُص هولمز إلى وجود علاقة إلفة بين القاتل والكلاب. تلك القرينة ساقت المحقق إلى القبض على القاتل. أو ليس إتفاق البرهان- الحلو في جوبا هو نفسه ما وقع عليه حمدوك- الحلو في أديس ابابا. الآن أعطى من يملك كل ما لديه لمن يستحق! فلم كل ذلك الضجيج ولم كل هذا الصمت ؟ *** ***
لكنما استعارة الصديق "الثروة" حدوتة شرلوك هومز لم تكن ذات علاقة بتداعيات "الجريمة"؛ إتفاق البرهان – الحلو . بل بخلفيات الحدث. ثمة طبخة سياسية خلف الكواليس تدخّلت فيها أيادٍ عديدة. ديفيد بيزلي مدير برنامج الغذاء تولى مهمة كبير الطهاة المشرفين على إدارة الطنجرة . الطبخة جرى التخطيط لها على نحو جعلها تبدو دسمة . طريقة العرض إشتملت على حلوى أغرت الأيادي المشمرة حول الطاولة بالتناول طوعا بنهمِ شره. الغموض ليس فقط في الإقبال السلس على التناول بل في الرضا التام حد الإشباع. تسليم البرهان بعلمانية الدولة لم يكن مغامرة فردية. مقابل ذلك التنازل عاد رئيس رأس الدولة إلى الخرطوم بوعد يؤمن جنرالات من ملاحقات دولية على جرائم متباينة. على الجانب الآخرتجاهل الحلو عمداً تشدده في شأن تقرير المصير.. وفق معايير سيسية عديدة فإن تقرير المصير مقابل علمانية الدولة مبادلة غير متوازنة إن لم تكن خاسرة. *** *** ***
ما كان ذلك التنازل المتبادل ليقنع الحراس المرابطين عند عتبة الدولة بغض البصر عما حدث تلك الليلة. فالوجبة ليست هانئة لمعسكر خصوم الثورة وأعدائها المتشبثين ببقاء الدولة داخل عباءة الدين بغض النظر عن صدقية ذلك التشبث. فمن الجلي للعيان إرتجاج المعادلة في الميزان السياسي ، إذ يبدو واضحا ثقل كفة الحلو على كفة البرهان . من ثم لابد لشرلوك هولمز من طرح مزيد من الأسئلة على الدكتور واتسون. حسب استعارة "صديقنا عن بعد" فما الذي دفع "الرئيس" على تقديم تنازل غير مجز أمام "قائد المتمردين" . ؟ الدكتور واتسون يشير إلى وعد شرط صريح سبق إعداد المائدة بتأمين إبعاد شبح الملاحقة الدولية عن جنرالات مقابل مساهمتهم في تيسير طي المرحلة الإنتقالية بدفع عمليات التحول الديمقراطي. تلك خطوة لا يمكن تحقيقها مالم يتم إخراج الدولة من تحت عباءة الدين وإنهاء ذلك التشبث الإنتهازي النفعي . *** *** ***
لكن إذا كسب الجنرالات البراءة من الملاحقة فهم رابحون . علمانية الدولة ليست بالفتح الجديد إذ نص عليها إتفاق جوبا الأول بعبارات مغايرة . الإتفاق الأول نص على فصل المؤسسات الدينية عن هيكل الدولة. إذاً الجنرال لم يخسر شيئأ .المشكل يبدو في دماغ الحلو إذ يصر في تلمذته على جون غرنغ على استنساخ تجربة الزعيم الجنوبي الراحل بكل مفرداتها .تلك ليست عثرة الحلو الوحيدة .لعل الحلو يخطئ مرة ثانية بوضع الإحتفاظ بجيشه على مستوى تقرير المصير. فهما ليس على نسق واحد وفق المعايير الإستراتيجية السياسية. كل منهما يخضع لموازين قوى وآليات عمل ووسائط تنفيذ متباينة. الدكتور واتسون يشير كذلك إلى وعد باسناد مهمة وزير الدفاع إلى الحلو بغية إطلاق يديه في مهمة إعادة هيكلة الجيش وفق منظور جديد يستنسخ فيها الحلو دروس أستاذه الراحل. تلك دروس نظرية لم يتح الأجل لغرنغ ترجمتها على الواقع. فهل ينجح التلميذ؟ وهل يتيح له المتربصون من نقضة الوعود تلك الفرصة؟ *** *** ***
أحد أخطر شطحات الحلو في الإهتداء بكراسة جون غرنغ هي المتصلة بمسألة الحكم الفيدرالي. هناك حلط مشوّش بين الحكم الفيدرالي ،الحكم الذاتي، الحكم المركزي والحكم اللامركزي. التشويش يذهب بالحلو حد المطالبة بالإستقلال المالي للولايات دون التركيز على خارطة كل ولاية ومافيها من إمكانات وقدرات . الوضع الإنمائي لكل ولايات السودان لا يحرّض البتة بالذهاب إلى ذلك البعد المأزوم. فما من ولاية سودانية مؤهلة للإعتماد على نفسها لتحمل تبعات ذلك الإستقلال دع عنك المساهمة في تغذية الخزانة المركزية. ربما يغري ميناء بورسودان أهل الشرق بالجنوح إلى ذلك الشعار البراق غير العقلاني. ربما تدفع الكثافة التشغيلية في العاصمة المثلثة أهل الخرطو لرهان أحمق مثلما خدعت الكثافة السكانية قيادات فصائل دارفور إلى حين. التوجه على هذا الدرب يبدأ بإعادة رسم أقاليم السودان بعيدا عن المؤثرات القَبَليًة . كلما احتكمنا إلى العصبية القبيلة كلما تقهقرنا إلى تفكيك بناء الدولة الهش. *** *** ***
استقلالية الأقاليم يستوجب ربما الرجوع إلى خارطة ولايات السودان الست – بعد الإنفصال- . لو أمعنا النظر لوجدناه حكما إقليميا متحررا من المركزية على نحو يوفر الخدمات لكل الناس. هو نظام غير مكلف من زوايا متعددة إذ يتحررمن بيروقراطية الدولة المصنعة بالترضيات .هو نظام يتيح للناس إدارة شؤونهم على نحو شعبي ديمقراطي يوقر الكبير ،يسند ظهر الصغير. ويغيث الملهوف. ذلك أفضل من يدخلنا العسكر وحلفاؤهم في متاهات تحت شعارات تفرّخ الخواء والعوز أكثر مما تعين على البناء والتقدم.