على حافة الغابة البدائية: الحلقة (1)

 


 

 

الفصل الاول
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (1)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الاستوائية
كتبها: ألبرت شفايتزر
نقلها من الانجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري - السودان
مقدمة:
تعرفنا الى كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة الاستعمارية التي تكالب فيها الاستعمار الاوربي على افريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل وسحل من المستعمر الابيض، ليفرض سطرته على انسان افريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت- ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الاوربي، بينما يرزح الافريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الامرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض ابنائها المتسلطين على اهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم - من قبل حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الامامي ليتسلل مرة اخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في افريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الاسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الالماني ( البرت شيفايتزر) وزوجه للانسان الافريقي في الجابون الحالية، ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين ، مما أهله في الحصول على جائزة نوبل مقابل هذا العمل الانساني الكبير. هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم (On the Edge of the Primeval Forest)
كيف أصبحت طبيباً في الغابة
• الأرض والشعب في أوجوي
غادرت منصبي، أستاذاً في جامعة ستراسبورغ، وتركت عملي الأدبي، وعزفي على الأورغن، من أجل الذهاب طبيباً إلى أفريقيا الاستوائية. فكيف حدث ذلك؟
كنت قد قرأت عن المآسي المادية المحسوسة للسكان الأصليين في تلك الغابات البكر، وقد سمعت عنها من المبشرين، وكلما فكرت في ذلك كلما بدا لي الأمر أكثر غرابةً. اذ يبدو لي، أننا نحن الأوروبيين لا نهتم كثيراً بالمهمة الإنسانية العظيمة التي تعرض نفسها لنا في تلك البلدان البعيدة. بدت لي حالنا أشبه بحال الغني والفقير في قصة ديفيس واليعازر التوراتية، وكأن الخطاب يعينينا بصورة مباشرة! اذ من خلال تقدم العلوم الطبية، صرنا نعرف الكثير عن المرض والألم، ولدينا وسائل لا حصر لها لمقاومتهما: مع العلم، باننا نتمتع بالطبع بالمزايا التي لا حصر لها والتي أتاحتها لنا هذه الثروات الجديدة! بينما يجلس هناك في المستعمرات اليعازر المعذب، ونقصد به الافارقة الملونين، الذين يعانون من المرض والألم بقدر ما نعاني، بل أكثر من ذلك، وليس لديهم أي وسيلة على الإطلاق لمحاربتهما. وكما أخطأ ديفيس في حق اليعازر الرجل الفقير، الذي كان يقبع عند بابه وياكل فتات طعامه، لأنه لم يضع نفسه في مكانه، ليدع قلبه وضميره يخبرانه بما كان ينبغي عليه فعله، فنحن نخطئ أيضاً ضد الرجل الفقير عند بابنا، كما أخطا ديفيس الغني في حق اليعازر الفقير.
* * * * *
فالأطباء الذين توفر الدول الأوروبية خدماتهم في العالم الاستعماري، ويبلغ عددهم المئات، لا يمكنهم تنفيذ سوى جزء ضئيل جدًا من المهمة الضخمة - (وكنت احدث نفسي) - حتى لو كانت الغالبية منهم ليست هناك الا بغرض خدمة تلك المجموعة من المستعمرين البيض والجنود، في المقام الأول. يجب على المجتمع بشكل عام أن يدرك أن هذا العمل الإنساني هو مهمته، ويجب أن يأتي الوقت الذي ينبغي أن يخرج فيه الأطباء إلى العالم بإرادتهم الحرة، لكن بتوجيه ودعم من المجتمع، وبأعداد تتناسب مع الحاجة اليهم، للعمل لصالح السكان الأصليين وحينها فقط، سنكون قد أدركنا وبدأنا الشعور تجاه هذه الجماعات البشرية الملونة، بالمسؤولية التي تقع على عاتقنا - كورثة لحضارة العالم.
• ملاحظة جانبية: القرار
حركتني هذه الأفكار لأقرر، وأنا بالفعل في الثلاثين من عمري، أن أدرس الطب وأضع أفكاري للاختبار هناك. تخرجت طبييباً في بداية عام 1913 ، وبدأت رحلتي في نفس الربيع مع زوجتي، التي كانت قد تأهلت هي الاخرى ممرضةً، نحو نهر أوجو في أفريقيا الاستوائية، للبدء في مهمتي الفعلية.
اخترت هذا الموقع لأن بعض المبشرين الألزاسيين الذين يخدمون في البعثة الإنجيلية الباريسية كانوا قد أخبروني أن هناك حاجة ماسة لطبيب بسبب انتشار مرض النوم المستمر. كانت البعثة مستعدة أيضاً لتوفير إحدى المنازل في محطتها في لامبارين والسماح لي ببناء مستشفى في أراضيها، مع وعد بتقديم المساعدة في العمل.
أما نفقات المشروع الفعلية، فكان علي أن أوفرها بنفسي، وقد كرست كل ما كنت كسبته من حفلات عزف على الأورغ، جنباً إلى جنب مع أرباح كتابي عن باخ، الذي ظهر باللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية. وبهذه الطريقة، ساعدني السيد يوهان سيباستيان، نفسه من لايبزيغ، في بناء مستشفى للسود في تلك الغابة البكر،كما تبرع أصدقاء خيرون في ألمانيا وفرنسا وسويسرا بالمال. وعندما غادرنا أوروبا، كان المشروع قد تم تمويله بالكامل وبصورة آمنة لمدة عامين، وكانت النفقات - باستثناء الرحلة ذهاباً وإياباً – قد بلغت حوالي 15،000 فرنك سنوياً، وقد تبين أن هذه الحسابات قد كانت تقريباً سليمة. تولى أصدقاء متفانون في ستراسبورغ إدارة الحسابات وتنظيم كل الأشياء اللازمة، وتم إرسال الحقائب عند تعبئتها إلى أفريقيا من قبل البعثة بوسائلها الخاصة.
كان عملي آنذاك - ولأستخدم مصطلحاً علمياً - يتماشى متوازناً مع أهداف البعثة الإنجيلية الباريسية، لكنه في حد ذاته، كان غير معترف به حسب التوجه الديني والدولي. وكان، ولا يزال، اعتقادي أن العمل الإنساني الذي يجب أن يُنجز في العالم؛ ينبغي أن يستدعينا بصفتنا بشراً، وليس بالضرورة أعضاء في دولة معينة أو أي هيئة دينية. يتبع


aahmedgumaa@yahoo.com
//////////////////////\

 

آراء