على حافة الغابة البدائية: الحلقة (14)
د. أحمد جمعة صديق
3 June, 2024
3 June, 2024
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (14)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان
• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.
هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest)
**********************************
إذا أردت أن أعالج مثل هؤلاء المرضى بضمير، فإن بعضهم قد يقيدني لفترة صباحية كاملة في الجلوس أمام المجهر، بينما يجلس في الخارج عشرات المرضى الذين يرغبون في الحصول على استشاراتهم قبل أن يحل وقت الغداء! هناك أيضاً مرضى الجراحة وهؤلاء ينبغي تجديد ضماداتهم؛ كما يجب علينا تقطير الماء وتحضير الأدوية؛ كذلك يجب تنظيف الجروح، وهناك أيضاً أسنان يجب خلعها! ومع هذه المطالب المستمرة واضطراب المرضى المنتظرين، غالباً ما أصبح قلقاً وعصبياً لدرجة أنني بالكاد أعرف أين أنا أو ماذا أفعل.
الأتوكسيل دواء خطير بصورة مرعب. إذا تركت المحلول لبعض الوقت في الضوء، يتحلل، تماماً مثل السالفارسان، ويتحول الى سم، ولكن حتى إذا تم إعداده بدقة وكان في حالة مثالية، فقد يسبب العمى عن طريق إصابة أعصاب البصر. وهذا لا يعتمد على حجم الجرعة؛ فالجرعات الصغيرة في كثير من الأحيان أكثر خطورة من الجرعات الكبيرة، وليست مفيدة أبدًا. فإذا بدأت بجرعة صغيرة جدًا، من أجل معرفة ما إذا كان المريض قادراً على تحمل الدواء، فإن الترايبانثوم تصبح "مقاومة للأتوكسيل"، كما يسمى، وبعد ذلك يمكنها أن تتحدى أقوى الجرعات.
يأتي إلينا مرضى النوم كل خمسة أيام لأخذ الحقنة، وقبل أن أبدأ العلاج، أسأل دائمًا وبخوف ما إذا كان أحد منهم قد لاحظ أن بصرهم ليس جيدًا كالمعتاد. لحسن الحظ، لدي حتى الآن حالة واحدة فقط من العمى تم تسجيلها، وكان ذلك في رجل كان المرض قد وصل به إلى مرحلة متقدمة جدًا.
ينتشر مرضى النوم الآن من الساحل الشرقي لأفريقيا حتى الساحل الغربي، ومن النيجر في الشمال الغربي إلى زامبيزي في الجنوب الشرقي. هل يا ترى سننتصر عليه الآن؟ سنحتاج الى حملة ممنهجة ضده في هذه المنطقة الواسعة وإلى العديد من الأطباء والتكلفة ستكون هائلة... ومع ذلك، وبينما يموت الناس بالفعل، ويتفاخر الموت بانجازاته الرائعة بينهم هنا، توفر الدول الأوروبية وسائل محاربته بطريقة شحيحة في معظم الأحيان، وتتخذ من الإجراءات الدفاعية الغبية، التي تمنحها فقط فرصة أخرى لجني ارباح إضافية في أوروبا لنفسها.
بعد مرض النوم، يستغرق علاج الجروح والقروح معظم الوقت. فهي أكثر شيوعاً هنا منها في أوروبا - فوأحد من كل أربعة أطفال في مدرستنا لديه جرح دائم. ما هو السبب؟
• ملحوظة جانبية: رمل البراغيث، ومرض الزهم، ومرض التوت البري، إلخ...
تسبب براغيث الرمل (Rynchoprion penetrans)، العديد من الجروح وهي نوع أصغر بكثير من البراغيث الشائعة. تقوم الأنثى بحفر في ألطف جزء من القدم، مفضلة المنطقة تحت الظفر، وتنمو تحت الجلد ليصبح حجمها مثل حبة العدس الصغيرة. يسبب إزالة الحشرة جرحاً صغيراً، وإذا تلوث هذا الجرح بالأوساخ، يحدث نوع من العصاب الذي يسبب فقدان المفصل، أو حتى فقداناً لكامل الإصبع. ويكاد يكون السود الذين لديهم عشرة أصابع كاملة أقل ندرة من أولئك الذين لديهم إصبع واحد أو أكثر مشوهة.
من المثير للاهتمام أن براغيث الرمل ، الذي أصبح الآن وبصورة منتظمة طاعوناَ في وسط أفريقيا، لا يتواجد محلياً هنا، بل جُلب من أمريكا الجنوبية في عام 1872. وفي عشر سنوات منذ ذلك الوقت، انتشر في جميع أنحاء القارة السمراء من الأطلسي إلى المحيط الهادئ. ويعرف في شرق أفريقيا، باسم "جيجر". كما أن أحد أسوأ أنواع النمل التي لدينا هنا هو السانجوناغينتا، هو أيضاً تم جلبه من الخارج، حيث جاء مع البضائع المحملة من أمريكا الجنوبية.
بالإضافة إلى الجروح التي تسببها براغيث الرمل، لدينا القروح المعروفة باسم الزهم. وتحدث هذه عادة،في معظم الأحيان على القدم والساق معاً، وتكون مؤلمة بصورة فظيعة، ولكننا لا نعرف سببها بعد. ويتمثل العلاج في تنظيف الجرح باستخدام قطعة من القطن حتى ينزف بصورة طبيعية، عندها يتم غسله بكلوريد الزئبق وحشوه بمسحوق البوراك. ثم يتم بعد ذلك تضميد الجرح وتركه لمدة عشرة أيام.
وهناك نوع آخر من الجروح هو مرض التوت البري (framboesia)، الذي يصيب أي جزء من الجسم. تم اطلاق هذا الإسم عليه لأنه يظهر أولاً في بثور كبيرة نسبياً، مغطاة بقشرة صفراء، وإزالة القشرة من السطح يسبب نزيفاً قليلاً يبدو تماماً كعصارة ثمرة التوت البري المثبتة على الجلد.
قدم الينا طفل أصيب بالعدوى عن طريق إتصاله بثدي أمه، وبدا تماماً كما لو أنه قد تم طلاؤه أولاً بمادة لزجة ثم تم تثبيت التوت عليه. قد تختفي هذه البثور لسنوات، لكن بعد ذلك تظهر الجروح السطحية في أجزاء مختلفة من الجسم.
ينتشر هذا المرض، بصورة شائعة في جميع البلدان الاستوائية، ويُعد معدياً للغاية،ويصيب تقريباً جميع السود هنا في وقت ما. كان العلاج القديم يتمثل في دهن الجرح بمحلول من كبريتات النحاس (cupri sulphas) وإعطاء المريض جرعة يومية من 2 غرام من ثنائي البوتاسيوم (potassii iodidum)مذاب في الماء. ولقد تم مؤخراً إثبات أن حقن الأرسينو- بنزول في الأوردة في الذراع تعطي شفاءاً سريعاً ودائماً؛ وتختفي الجروح كأنها بفعل السحر. أما أسوأ الجروح على الإطلاق فهي القروح الاستهلاكية الاستوائية (ulcusphagedenicum tropicum)، التي تنتشر في جميع الاتجاهات. ليس من النادر أن يكون سطح الساق بأكمله جرحاً واحداً، حيث تظهر الأوتار والعظام كجزر بيضاء. ويكون الألم فظيعاً، والرائحة قوية بحيث لا يمكن لأحد البقاء بالقرب من المريض لفترة طويلة.
يتم وضع المصابين في كوخ منفصل بهم، ويتم إحضار الطعام إليهم؛ هناك يتضاءلون تدريجياً ويموتون بعد معاناة فظيعة. هذا النوع من الجروح هو الأكثر رعباً بين جميع الجروح المختلفة وهو شائع جدًا على نهر أوغوي، ولا يوجد فائدة من مجرد تطهيره وتضميده. إذ يجب وضع المصابين تحت التخدير وتجريف الجرح بعناية حتى نصل النسيج السليم، خلال هذه العملية يتدفق الدم بكثافة. يتم بعد ذلك غسل الجرح بمحلول من برمنجانات البوتاسيوم، ولكن يجب إجراء فحص دقيق كل يوم لاكتشاف وجود أي مركز لصديد جديد قد يظهر، حيث يجب خلعه مباشرةً مثل الآخرين. يستغرق الأمر أسابيع، وربما أشهر، قبل أن يشفى الجرح، وسيستخدم نصف اللفة من الضمادات. كم هو باهظ الثمن الذي يتكلفنا أيضاً تغذية المريض لفترة طويلة! ولكن ما أجمله عند المريض - فرغم أن الجروح المشفاة تترك القدم مشوهة بصورة دائمة، إلا أنه يفرح بتخلصه من الألم والرائحة القديمة – ثم يخطو إلى القارب للعودة إلى الوطن!
* * * * *
• ملاحظة جانبية: الجذام، الملاريا، الديسنتاريا
المجذومون هم فئة أخرى من المرضى الذين يسببون الكثير من المتاعب. يسبب هذا المرض بكتيريا متشابهة بصورة وثيقة بتلك المسببة لمرض السل، وتم اكتشاف ذلك في عام 1871 من قبل طبيب نرويجي يدعى هانسن. وعزل المريض، الذي يتبع دائماً في هذه الحالات في أي مكان يمكن حدوثه، ولكن لا يمكن التفكير فيه هنا، وغالباً ما يكون لديّ أربعة أو خمسة مجذومين بين المرضى الآخرين في المستشفى. أكثر الحقائق الملفتة للنظر حول هذا المرض هو أننا يجب أن نفترض أن العدوى تنتقل من فرد إلى آخر، على الرغم من أنه لم يكتشف أحد حتى الآن كيف يحدث ذلك، أو نجح في معرفة كيف تحدث العدوى تجريبياً. والدواء الوحيد الذي تحت تصرفنا لمحاربة هذا المرض هو ما يُسمى بزيت تشاولموجرا (oleum gynocardi), ويتم الحصول عليه من بذور شجرة في الهند الأقصى. إنه مكلف، وعادةً ما يُباع في السوق مغشوشاً.
كنت أحصل على ما أريد من قس متقاعد،هو السيد ديلورد، والذي ينحدر من سويسرا الفرنسية، وقد كان له دور كبير في التعامل مع مرض الجذام عندما كان يعمل في نيو كاليدونيا، ويمكنه الحصول على إمدادات مباشرة من مصدر موثوق به. وبناءاً على تلميح منه، أوصى بخلط الدواء الكريه مع خليط من زيوت السمسم والفول السوداني، مما يجعله مستساغاً للتناول. وقد تم مؤخراً توصية باستخدام زيت تشاولموجرا عن طريق الحقن تحت الجلد أيضاً.
يتجاوز الشفاء الحقيقي من مرض الجذام قدراتنا، لكن يمكن تحقيق تحسن كبير في صحة المريض، ويمكن تدجين المرض وجعله في حالة سكون تدوم طويلاً بحيث يكون عملياً ما يقارب حالة الشفاء. تمت التجارب لعلاج المرض في السنوات الأخيرة بمصل محضر من البكتيريا التي تسببه، والمعروف باسم "ناستين"، وهذا يسمح لنا بالعشم في أن نتمكن يوم ما من محاربته بفعالية بهذه الطريقة.
أما فيما يتعلق بحمى المستنقعات، أو الملاريا الاستوائية، للأسف، فمثل كل طبيب آخر في المناطق الاستوائية، كان لدي الكثير للقيام به تجاه هذا المرض. وبالنسبة للسكان المحليين، فمن الطبيعي أن تصيب كل واحد منهم، من وقت لآخر حمى مع نوبات قشعريرة، ولكن الأطفال هم أكثر المصابين. ونتيجة لهذه الحمى، يتضخم الطحال، كما هو معروف جيدًا، ويصبح صلباً ومؤلمًا، لكن أحياناً يبرز إلى الجسم مثل حجر صلب من تحت الضلع اليسرى، وغالباً ما يصل حتى السرة. وإذا وضعت أحد هؤلاء الأطفال على الطاولة لفحصه، فإنه يغطي منطقة الطحال بأذرعه ويديه بصورة غريزية خوفًا من أن ألمح الحجر المؤلم بطريق الخطأ. الشخص الذي يعاني من الملاريا من السود هو شخص مسكين ومتعب دائمًا ومحاط بالصداع باستمرار، ويجد حتى العمل الخفيف مهمة ثقيلة.
من المعروف أن الملاريا المزمنة يرافقها دائمًا فقر الدم. الأدوية المتاحة لعلاجها هي الزرنيخ والكينين، ويتناول الطباخ والغسال وصبي الخدمة 7 إلى 8 حبوب (نصف غرام) من الأخير مرتين في الأسبوع. وهناك مستحضر للزرنيخ يسمى "أرينال"، والذي يعزز بصورة كبير من تأثير الكينين، وأنا أعطيه بحرية للبيض والسود على حد سواء في حقن تحت الجلد.
ومن بين الاوبئة التي لا يجب نسيانها الإسهال الحاد في إفريقيا الاستوائية. يُسبب هذا المرض، أيضًا نوع خاص من الأميبا، التي تستقر في الأمعاء الكبيرة وتلحق ضرراً بالغشاء الخلوي. ويكون الألم فظيع في النهار والليل على حد سواء، ودون انقطاع، يرغب المريض باستمرار في تفريغ الأمعاء، ولكنه يمر بدون أي شيء سوى الدم. كان علاج هذا الإسهال في السابق، الذي يعتبر شائعاً جداً هنا، عملية مملة وغير ناجحة أبداً. كان يُستخدم دواء الجذور المطحونة لنبات الايبيكاكوانا، لكن نادراً ما كان يمكن تناوله بكميات كافية للعمل بفعالية، لأنه عندما يُؤخذ عن طريق الفم يسبب القيء. لكن منذ بضع سنوات، بدأ استخدام مستحضر يحتوي على المبدأ الأساسي الموجود في هذه الجذور باسم إميتين (اميتينوم هيدروكلوريد). يُحقن 6 إلى 8 سنتيمتر مكعب من محلول بنسبة 1 في المئة من هذا الدواء تحت الجلد لعدة أيام متتالية، ويتبع ذلك تحسن كبير على الفور وعادةً الشفاء النهائي؛ في الواقع ،تقترب النتائج التي تحققت من المعجزات. ولا حاجة للقلق بشأن النظام الغذائي؛ إذ يمكن للمريض أن يأكل ما يشاء - شرائح فرس النهر، إذا كان المريض أسمر؛ سلطة البطاطس، إذا كان المريض أبيض. وإذا لم يكن من الممكن للطبيب تحقيق شفاء في المناطق الاستوائية إلا بهذه الوسائل المكتشفة حديثًا للشفاء، فان الأرسينو بنزول وإميتين، يمكن ان يحقق ذلك. وفي الحقيقة أن جزءاً كبيراً من الجهد يقع على كاهل الطبيب في المناطق الاستوائية يتمثل في محاربة مختلف الأمراض، كل منها أكثر بشاعة من سابقه، ومن تلك التي جلبها الأوروبيون لهؤلاء الناس - أبناء الطبيعة - ولا يمكنني هنا سوى التلميح. ولكن ما هي كمية المعاناة المخفية وراء هذا التلميح!
• العمليات الجراحية
فيما يتعلق بالعمليات الجراحية، يتعهد الشخص بصورة طبيعية في الغابة بإجراء العمليات الضرورية فقط والتي تعد واعدة بالنجاح. والعمليات التي قمت باجرائها بصورة متكررة هي عمليات الفتق، وهي شيء يصيب السود في وسط أفريقيا بكثرة أكثر من الأشخاص البيض،بالرغم من أننا لا نعرف لماذا يحدث ذلك. كما أنهم يعانون بكثرة أكثر من البيض من الفتق المنغص، حيث يتم تضييق الأمعاء وتعطيلها، بحيث لا يمكنها التفريغ بعد ذلك. تتضخم الأمعاء بصورة هائلة بواسطة الغازات التي تتشكل، وهذا يسبب ألماً فظيعاً. ثم بعد عدة أيام من التعذيب، يحدث الموت، ما لم تتمكن الأمعاء من العودة من الانفتاح إلى البطن.
كان أسلافنا على دراية جيدة بهذه الطريقة الفظيعة للموت، ولكننا لم نعد نراها في أوروبا لأن كل حالة تخضع للعملية فور التعرف عليها. "لا تغرب الشمس على فتقك المنغص"، هذا هو المبدأ الذي يتم توضيحه باستمرار لطلاب الطب. ولكن في أفريقيا، هذا الموت الفظيع شائع جدًا. وهناك قليل من الاطفال السود الذين لم يروا بعض الرجال يتدحرجون في رمال أكواخهم ويصرخون بالعذاب حتى يأتي الموت ليفكهم من العذاب. لذلك الآن، في اللحظة التي يشعر فيها الرجل بأن فتقه من النوع المنغص - والفتق أقل انتشاراً بكثير بين النساء - يطلب من أصدقائه أن يضعوه في قارب ويجلبوه إلينا.
كيف يمكنني وصف مشاعري عندما يُحضر إليَّ الشخص المسكين بهذه الحالة؟ أنا الشخص الوحيد في مئات الأميال من هنا الذي يمكنه مساعدته. فبفضل وجودي هنا وتزويدي بالوسائل اللازمة من قبل أصدقائي، يمكن إنقاذه، مثل الذين جاءوا قبله بنفس الحالة والذين سيأتون من بعده، في حين أنه في حالة أخرى كان سيكون ضحية للعذاب المستمر. هذا لا يعني مجرد أنني يمكنني إنقاذ حياته. فكلنا لابد أن سنموت جميعاً. ولكن أن أستطيع أن أخلصه من أيام من العذاب، فهذا هو ما أشعر به كامتياز كبير ودائم. الألم هو السيد الأكثر رعباً للبشرية حتى من الموت نفسه.
لذا، عندما يأتيني ذلك المخلوق البائس، أبادر فوراً بوضع يدي على جبينه وأقول له: "لا تخف! في غضون ساعة، ستدخل في نوم عميق، وعندما تستيقظ، لن تشعر بأي ألم بعد الآن." وسرعان ما يُعطى جرعة من أوميبون؛ ثم تستدعى زوجة الطبيب إلى المستشفى، وبمساعدة جوزيف، يعد كل شيء للعملية. عندما يحين وقت البدء، تُعطي الطبيبة التخدير، وجوزيف، بقفازات مطاطية طويلة، يتصرف كمساعد. تنتهي العملية، وفي الغرفة المظلمة بالكاد، أنتظر استيقاظ المريض. ولا يكاد يستعيد الوعي حتى يحدق حوله ويصرخ مراراً وتكراراً: "لم أعد أشعر بالألمّ!! لم أعد أشعر بالألم!!" ... تبحث يده عن يدي ولا يريد أن يفارقها. ثم أبدأ في أخباره والآخرين الذين في الغرفة بأن الرب يسوع هو من أمر الطبيب وزوجته بالمجئ إلى أوغوي، وأن الناس البيض يغدقون عليه بالمال ليتمكنوا من الاقامة هنا وليساعدوا في شفاء المرضى السود. ثم يتعين عليّ الإجابة عن الأسئلة حول من هم هؤلاء الناس البيض وأين يعيشون، وكيف يعرفون أن السكان الأصليين يعانون كثيراً من المرض.
في تلك اللحظة، تتسلل الشمس الأفريقية من خلال أشجار البن في الأكواخ المظلمة، ولكننا، سود وبيض، نجلس جنباً إلى جنب ونشعر أننا نعرف بالتجربة معنى الكلمات: "وأنتم جميعكم إخوة" (متى 23: 8). يا ليت أصدقائي الكرام في أوروبا يمكنهم القدوم الى هنا لعيشوا ساعة واحدة مثل هذه!
aahmedgumaa@yahoo.com
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان
• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.
هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest)
**********************************
إذا أردت أن أعالج مثل هؤلاء المرضى بضمير، فإن بعضهم قد يقيدني لفترة صباحية كاملة في الجلوس أمام المجهر، بينما يجلس في الخارج عشرات المرضى الذين يرغبون في الحصول على استشاراتهم قبل أن يحل وقت الغداء! هناك أيضاً مرضى الجراحة وهؤلاء ينبغي تجديد ضماداتهم؛ كما يجب علينا تقطير الماء وتحضير الأدوية؛ كذلك يجب تنظيف الجروح، وهناك أيضاً أسنان يجب خلعها! ومع هذه المطالب المستمرة واضطراب المرضى المنتظرين، غالباً ما أصبح قلقاً وعصبياً لدرجة أنني بالكاد أعرف أين أنا أو ماذا أفعل.
الأتوكسيل دواء خطير بصورة مرعب. إذا تركت المحلول لبعض الوقت في الضوء، يتحلل، تماماً مثل السالفارسان، ويتحول الى سم، ولكن حتى إذا تم إعداده بدقة وكان في حالة مثالية، فقد يسبب العمى عن طريق إصابة أعصاب البصر. وهذا لا يعتمد على حجم الجرعة؛ فالجرعات الصغيرة في كثير من الأحيان أكثر خطورة من الجرعات الكبيرة، وليست مفيدة أبدًا. فإذا بدأت بجرعة صغيرة جدًا، من أجل معرفة ما إذا كان المريض قادراً على تحمل الدواء، فإن الترايبانثوم تصبح "مقاومة للأتوكسيل"، كما يسمى، وبعد ذلك يمكنها أن تتحدى أقوى الجرعات.
يأتي إلينا مرضى النوم كل خمسة أيام لأخذ الحقنة، وقبل أن أبدأ العلاج، أسأل دائمًا وبخوف ما إذا كان أحد منهم قد لاحظ أن بصرهم ليس جيدًا كالمعتاد. لحسن الحظ، لدي حتى الآن حالة واحدة فقط من العمى تم تسجيلها، وكان ذلك في رجل كان المرض قد وصل به إلى مرحلة متقدمة جدًا.
ينتشر مرضى النوم الآن من الساحل الشرقي لأفريقيا حتى الساحل الغربي، ومن النيجر في الشمال الغربي إلى زامبيزي في الجنوب الشرقي. هل يا ترى سننتصر عليه الآن؟ سنحتاج الى حملة ممنهجة ضده في هذه المنطقة الواسعة وإلى العديد من الأطباء والتكلفة ستكون هائلة... ومع ذلك، وبينما يموت الناس بالفعل، ويتفاخر الموت بانجازاته الرائعة بينهم هنا، توفر الدول الأوروبية وسائل محاربته بطريقة شحيحة في معظم الأحيان، وتتخذ من الإجراءات الدفاعية الغبية، التي تمنحها فقط فرصة أخرى لجني ارباح إضافية في أوروبا لنفسها.
بعد مرض النوم، يستغرق علاج الجروح والقروح معظم الوقت. فهي أكثر شيوعاً هنا منها في أوروبا - فوأحد من كل أربعة أطفال في مدرستنا لديه جرح دائم. ما هو السبب؟
• ملحوظة جانبية: رمل البراغيث، ومرض الزهم، ومرض التوت البري، إلخ...
تسبب براغيث الرمل (Rynchoprion penetrans)، العديد من الجروح وهي نوع أصغر بكثير من البراغيث الشائعة. تقوم الأنثى بحفر في ألطف جزء من القدم، مفضلة المنطقة تحت الظفر، وتنمو تحت الجلد ليصبح حجمها مثل حبة العدس الصغيرة. يسبب إزالة الحشرة جرحاً صغيراً، وإذا تلوث هذا الجرح بالأوساخ، يحدث نوع من العصاب الذي يسبب فقدان المفصل، أو حتى فقداناً لكامل الإصبع. ويكاد يكون السود الذين لديهم عشرة أصابع كاملة أقل ندرة من أولئك الذين لديهم إصبع واحد أو أكثر مشوهة.
من المثير للاهتمام أن براغيث الرمل ، الذي أصبح الآن وبصورة منتظمة طاعوناَ في وسط أفريقيا، لا يتواجد محلياً هنا، بل جُلب من أمريكا الجنوبية في عام 1872. وفي عشر سنوات منذ ذلك الوقت، انتشر في جميع أنحاء القارة السمراء من الأطلسي إلى المحيط الهادئ. ويعرف في شرق أفريقيا، باسم "جيجر". كما أن أحد أسوأ أنواع النمل التي لدينا هنا هو السانجوناغينتا، هو أيضاً تم جلبه من الخارج، حيث جاء مع البضائع المحملة من أمريكا الجنوبية.
بالإضافة إلى الجروح التي تسببها براغيث الرمل، لدينا القروح المعروفة باسم الزهم. وتحدث هذه عادة،في معظم الأحيان على القدم والساق معاً، وتكون مؤلمة بصورة فظيعة، ولكننا لا نعرف سببها بعد. ويتمثل العلاج في تنظيف الجرح باستخدام قطعة من القطن حتى ينزف بصورة طبيعية، عندها يتم غسله بكلوريد الزئبق وحشوه بمسحوق البوراك. ثم يتم بعد ذلك تضميد الجرح وتركه لمدة عشرة أيام.
وهناك نوع آخر من الجروح هو مرض التوت البري (framboesia)، الذي يصيب أي جزء من الجسم. تم اطلاق هذا الإسم عليه لأنه يظهر أولاً في بثور كبيرة نسبياً، مغطاة بقشرة صفراء، وإزالة القشرة من السطح يسبب نزيفاً قليلاً يبدو تماماً كعصارة ثمرة التوت البري المثبتة على الجلد.
قدم الينا طفل أصيب بالعدوى عن طريق إتصاله بثدي أمه، وبدا تماماً كما لو أنه قد تم طلاؤه أولاً بمادة لزجة ثم تم تثبيت التوت عليه. قد تختفي هذه البثور لسنوات، لكن بعد ذلك تظهر الجروح السطحية في أجزاء مختلفة من الجسم.
ينتشر هذا المرض، بصورة شائعة في جميع البلدان الاستوائية، ويُعد معدياً للغاية،ويصيب تقريباً جميع السود هنا في وقت ما. كان العلاج القديم يتمثل في دهن الجرح بمحلول من كبريتات النحاس (cupri sulphas) وإعطاء المريض جرعة يومية من 2 غرام من ثنائي البوتاسيوم (potassii iodidum)مذاب في الماء. ولقد تم مؤخراً إثبات أن حقن الأرسينو- بنزول في الأوردة في الذراع تعطي شفاءاً سريعاً ودائماً؛ وتختفي الجروح كأنها بفعل السحر. أما أسوأ الجروح على الإطلاق فهي القروح الاستهلاكية الاستوائية (ulcusphagedenicum tropicum)، التي تنتشر في جميع الاتجاهات. ليس من النادر أن يكون سطح الساق بأكمله جرحاً واحداً، حيث تظهر الأوتار والعظام كجزر بيضاء. ويكون الألم فظيعاً، والرائحة قوية بحيث لا يمكن لأحد البقاء بالقرب من المريض لفترة طويلة.
يتم وضع المصابين في كوخ منفصل بهم، ويتم إحضار الطعام إليهم؛ هناك يتضاءلون تدريجياً ويموتون بعد معاناة فظيعة. هذا النوع من الجروح هو الأكثر رعباً بين جميع الجروح المختلفة وهو شائع جدًا على نهر أوغوي، ولا يوجد فائدة من مجرد تطهيره وتضميده. إذ يجب وضع المصابين تحت التخدير وتجريف الجرح بعناية حتى نصل النسيج السليم، خلال هذه العملية يتدفق الدم بكثافة. يتم بعد ذلك غسل الجرح بمحلول من برمنجانات البوتاسيوم، ولكن يجب إجراء فحص دقيق كل يوم لاكتشاف وجود أي مركز لصديد جديد قد يظهر، حيث يجب خلعه مباشرةً مثل الآخرين. يستغرق الأمر أسابيع، وربما أشهر، قبل أن يشفى الجرح، وسيستخدم نصف اللفة من الضمادات. كم هو باهظ الثمن الذي يتكلفنا أيضاً تغذية المريض لفترة طويلة! ولكن ما أجمله عند المريض - فرغم أن الجروح المشفاة تترك القدم مشوهة بصورة دائمة، إلا أنه يفرح بتخلصه من الألم والرائحة القديمة – ثم يخطو إلى القارب للعودة إلى الوطن!
* * * * *
• ملاحظة جانبية: الجذام، الملاريا، الديسنتاريا
المجذومون هم فئة أخرى من المرضى الذين يسببون الكثير من المتاعب. يسبب هذا المرض بكتيريا متشابهة بصورة وثيقة بتلك المسببة لمرض السل، وتم اكتشاف ذلك في عام 1871 من قبل طبيب نرويجي يدعى هانسن. وعزل المريض، الذي يتبع دائماً في هذه الحالات في أي مكان يمكن حدوثه، ولكن لا يمكن التفكير فيه هنا، وغالباً ما يكون لديّ أربعة أو خمسة مجذومين بين المرضى الآخرين في المستشفى. أكثر الحقائق الملفتة للنظر حول هذا المرض هو أننا يجب أن نفترض أن العدوى تنتقل من فرد إلى آخر، على الرغم من أنه لم يكتشف أحد حتى الآن كيف يحدث ذلك، أو نجح في معرفة كيف تحدث العدوى تجريبياً. والدواء الوحيد الذي تحت تصرفنا لمحاربة هذا المرض هو ما يُسمى بزيت تشاولموجرا (oleum gynocardi), ويتم الحصول عليه من بذور شجرة في الهند الأقصى. إنه مكلف، وعادةً ما يُباع في السوق مغشوشاً.
كنت أحصل على ما أريد من قس متقاعد،هو السيد ديلورد، والذي ينحدر من سويسرا الفرنسية، وقد كان له دور كبير في التعامل مع مرض الجذام عندما كان يعمل في نيو كاليدونيا، ويمكنه الحصول على إمدادات مباشرة من مصدر موثوق به. وبناءاً على تلميح منه، أوصى بخلط الدواء الكريه مع خليط من زيوت السمسم والفول السوداني، مما يجعله مستساغاً للتناول. وقد تم مؤخراً توصية باستخدام زيت تشاولموجرا عن طريق الحقن تحت الجلد أيضاً.
يتجاوز الشفاء الحقيقي من مرض الجذام قدراتنا، لكن يمكن تحقيق تحسن كبير في صحة المريض، ويمكن تدجين المرض وجعله في حالة سكون تدوم طويلاً بحيث يكون عملياً ما يقارب حالة الشفاء. تمت التجارب لعلاج المرض في السنوات الأخيرة بمصل محضر من البكتيريا التي تسببه، والمعروف باسم "ناستين"، وهذا يسمح لنا بالعشم في أن نتمكن يوم ما من محاربته بفعالية بهذه الطريقة.
أما فيما يتعلق بحمى المستنقعات، أو الملاريا الاستوائية، للأسف، فمثل كل طبيب آخر في المناطق الاستوائية، كان لدي الكثير للقيام به تجاه هذا المرض. وبالنسبة للسكان المحليين، فمن الطبيعي أن تصيب كل واحد منهم، من وقت لآخر حمى مع نوبات قشعريرة، ولكن الأطفال هم أكثر المصابين. ونتيجة لهذه الحمى، يتضخم الطحال، كما هو معروف جيدًا، ويصبح صلباً ومؤلمًا، لكن أحياناً يبرز إلى الجسم مثل حجر صلب من تحت الضلع اليسرى، وغالباً ما يصل حتى السرة. وإذا وضعت أحد هؤلاء الأطفال على الطاولة لفحصه، فإنه يغطي منطقة الطحال بأذرعه ويديه بصورة غريزية خوفًا من أن ألمح الحجر المؤلم بطريق الخطأ. الشخص الذي يعاني من الملاريا من السود هو شخص مسكين ومتعب دائمًا ومحاط بالصداع باستمرار، ويجد حتى العمل الخفيف مهمة ثقيلة.
من المعروف أن الملاريا المزمنة يرافقها دائمًا فقر الدم. الأدوية المتاحة لعلاجها هي الزرنيخ والكينين، ويتناول الطباخ والغسال وصبي الخدمة 7 إلى 8 حبوب (نصف غرام) من الأخير مرتين في الأسبوع. وهناك مستحضر للزرنيخ يسمى "أرينال"، والذي يعزز بصورة كبير من تأثير الكينين، وأنا أعطيه بحرية للبيض والسود على حد سواء في حقن تحت الجلد.
ومن بين الاوبئة التي لا يجب نسيانها الإسهال الحاد في إفريقيا الاستوائية. يُسبب هذا المرض، أيضًا نوع خاص من الأميبا، التي تستقر في الأمعاء الكبيرة وتلحق ضرراً بالغشاء الخلوي. ويكون الألم فظيع في النهار والليل على حد سواء، ودون انقطاع، يرغب المريض باستمرار في تفريغ الأمعاء، ولكنه يمر بدون أي شيء سوى الدم. كان علاج هذا الإسهال في السابق، الذي يعتبر شائعاً جداً هنا، عملية مملة وغير ناجحة أبداً. كان يُستخدم دواء الجذور المطحونة لنبات الايبيكاكوانا، لكن نادراً ما كان يمكن تناوله بكميات كافية للعمل بفعالية، لأنه عندما يُؤخذ عن طريق الفم يسبب القيء. لكن منذ بضع سنوات، بدأ استخدام مستحضر يحتوي على المبدأ الأساسي الموجود في هذه الجذور باسم إميتين (اميتينوم هيدروكلوريد). يُحقن 6 إلى 8 سنتيمتر مكعب من محلول بنسبة 1 في المئة من هذا الدواء تحت الجلد لعدة أيام متتالية، ويتبع ذلك تحسن كبير على الفور وعادةً الشفاء النهائي؛ في الواقع ،تقترب النتائج التي تحققت من المعجزات. ولا حاجة للقلق بشأن النظام الغذائي؛ إذ يمكن للمريض أن يأكل ما يشاء - شرائح فرس النهر، إذا كان المريض أسمر؛ سلطة البطاطس، إذا كان المريض أبيض. وإذا لم يكن من الممكن للطبيب تحقيق شفاء في المناطق الاستوائية إلا بهذه الوسائل المكتشفة حديثًا للشفاء، فان الأرسينو بنزول وإميتين، يمكن ان يحقق ذلك. وفي الحقيقة أن جزءاً كبيراً من الجهد يقع على كاهل الطبيب في المناطق الاستوائية يتمثل في محاربة مختلف الأمراض، كل منها أكثر بشاعة من سابقه، ومن تلك التي جلبها الأوروبيون لهؤلاء الناس - أبناء الطبيعة - ولا يمكنني هنا سوى التلميح. ولكن ما هي كمية المعاناة المخفية وراء هذا التلميح!
• العمليات الجراحية
فيما يتعلق بالعمليات الجراحية، يتعهد الشخص بصورة طبيعية في الغابة بإجراء العمليات الضرورية فقط والتي تعد واعدة بالنجاح. والعمليات التي قمت باجرائها بصورة متكررة هي عمليات الفتق، وهي شيء يصيب السود في وسط أفريقيا بكثرة أكثر من الأشخاص البيض،بالرغم من أننا لا نعرف لماذا يحدث ذلك. كما أنهم يعانون بكثرة أكثر من البيض من الفتق المنغص، حيث يتم تضييق الأمعاء وتعطيلها، بحيث لا يمكنها التفريغ بعد ذلك. تتضخم الأمعاء بصورة هائلة بواسطة الغازات التي تتشكل، وهذا يسبب ألماً فظيعاً. ثم بعد عدة أيام من التعذيب، يحدث الموت، ما لم تتمكن الأمعاء من العودة من الانفتاح إلى البطن.
كان أسلافنا على دراية جيدة بهذه الطريقة الفظيعة للموت، ولكننا لم نعد نراها في أوروبا لأن كل حالة تخضع للعملية فور التعرف عليها. "لا تغرب الشمس على فتقك المنغص"، هذا هو المبدأ الذي يتم توضيحه باستمرار لطلاب الطب. ولكن في أفريقيا، هذا الموت الفظيع شائع جدًا. وهناك قليل من الاطفال السود الذين لم يروا بعض الرجال يتدحرجون في رمال أكواخهم ويصرخون بالعذاب حتى يأتي الموت ليفكهم من العذاب. لذلك الآن، في اللحظة التي يشعر فيها الرجل بأن فتقه من النوع المنغص - والفتق أقل انتشاراً بكثير بين النساء - يطلب من أصدقائه أن يضعوه في قارب ويجلبوه إلينا.
كيف يمكنني وصف مشاعري عندما يُحضر إليَّ الشخص المسكين بهذه الحالة؟ أنا الشخص الوحيد في مئات الأميال من هنا الذي يمكنه مساعدته. فبفضل وجودي هنا وتزويدي بالوسائل اللازمة من قبل أصدقائي، يمكن إنقاذه، مثل الذين جاءوا قبله بنفس الحالة والذين سيأتون من بعده، في حين أنه في حالة أخرى كان سيكون ضحية للعذاب المستمر. هذا لا يعني مجرد أنني يمكنني إنقاذ حياته. فكلنا لابد أن سنموت جميعاً. ولكن أن أستطيع أن أخلصه من أيام من العذاب، فهذا هو ما أشعر به كامتياز كبير ودائم. الألم هو السيد الأكثر رعباً للبشرية حتى من الموت نفسه.
لذا، عندما يأتيني ذلك المخلوق البائس، أبادر فوراً بوضع يدي على جبينه وأقول له: "لا تخف! في غضون ساعة، ستدخل في نوم عميق، وعندما تستيقظ، لن تشعر بأي ألم بعد الآن." وسرعان ما يُعطى جرعة من أوميبون؛ ثم تستدعى زوجة الطبيب إلى المستشفى، وبمساعدة جوزيف، يعد كل شيء للعملية. عندما يحين وقت البدء، تُعطي الطبيبة التخدير، وجوزيف، بقفازات مطاطية طويلة، يتصرف كمساعد. تنتهي العملية، وفي الغرفة المظلمة بالكاد، أنتظر استيقاظ المريض. ولا يكاد يستعيد الوعي حتى يحدق حوله ويصرخ مراراً وتكراراً: "لم أعد أشعر بالألمّ!! لم أعد أشعر بالألم!!" ... تبحث يده عن يدي ولا يريد أن يفارقها. ثم أبدأ في أخباره والآخرين الذين في الغرفة بأن الرب يسوع هو من أمر الطبيب وزوجته بالمجئ إلى أوغوي، وأن الناس البيض يغدقون عليه بالمال ليتمكنوا من الاقامة هنا وليساعدوا في شفاء المرضى السود. ثم يتعين عليّ الإجابة عن الأسئلة حول من هم هؤلاء الناس البيض وأين يعيشون، وكيف يعرفون أن السكان الأصليين يعانون كثيراً من المرض.
في تلك اللحظة، تتسلل الشمس الأفريقية من خلال أشجار البن في الأكواخ المظلمة، ولكننا، سود وبيض، نجلس جنباً إلى جنب ونشعر أننا نعرف بالتجربة معنى الكلمات: "وأنتم جميعكم إخوة" (متى 23: 8). يا ليت أصدقائي الكرام في أوروبا يمكنهم القدوم الى هنا لعيشوا ساعة واحدة مثل هذه!
aahmedgumaa@yahoo.com