على حافة الغابة البدائية: الحلقة (16)

 


 

 

على حافة الغابة البدائية: الحلقة (16)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان

• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم:
(On the Edge of the Primeval Forest)

**********************************

عادة ما تأخذ المسافة البالغة مئتا ميل (350 كيلومتراً) من لامبارين إلى رأس لوبيز في مثل هذا الطوف من أخشاب الأوكومي والماهوغاني أربعة عشر يوماً. ويقل معدل التقدم السريع إلى حد ما عند النهاية، لأن من على بعد حوالي خمسين ميلًا من فم النهر تبدأ تدفقات المد والجزر في التأثير على النهر. ولهذا السبب، لا يمكن شرب ماء النهر بعد الآن، ونظراً لعدم وجود ينابيع قريبة، يعبء القارب المروط بالطوف في الوقت المناسب بالمياه العذبة. ومن الآن فصاعداً، لا يمكن التقدم إلا مع جريان المد، وعندما يبدأ جريان الطفح الشلالي، يتم ربط الطوف بالضفة بحبل أسود بسمك يعادل ذراع الإنسان، حتى لا يتم سحبه مرة أخرى بعكس اتجاه التيار.

*****************************************

· [ملاحظة جانبية: في خليج رأس لوبيز

الخطوة التالية هي إدخال الطوف في تيار جانبي ضيق ومتعرج يبلغ طوله حوالي عشرين ميلًا، يصب في البحر عبر الساحل الجنوبي لخليج رأس لوبيز. فإذا انجرف الطوف إلى أي من الفروع الأخرى التي تخرج من منتصف الخليج، فإنه سيفقد، لأن التيار القوي للأنهار، يتم سده بواسطة المد، الذي يتدفق بسرعة خمسة أميال في الساعة، وسيحمل الطوف مباشرةً إلى البحر. ومع ذلك، ومن خلال الفرع الجنوبي، يخرج الطوف إلى قطعة من الماء الضحل تمتد على طول الساحل، ويمكن دفعه باستخدام عصي طويلة إلى رأس لوبيز. وهنا مرة أخرى، إذا ابتعد الطوف ببضعة ياردات كثيرة عن الشاطئ بحيث لا يمكن لعصي الدفع ملامسة القاع، فإنه لن يعد من الممكن توجيهه وسيتم جره إلى البحر.

وفي هذه الأميال العشرة الأخيرة، غالباً ما تنشب معركة شديدة بين الطاقم وعناصر الطبيعة الأخرى. فإذا اشتد نسيم البر، فلا شيء يمكن فعله. وإذا لوحظ موقع الطوف في رأس لوبيز، فانهم سيحاولون إرسال قارب إليه مع مرساة وكابل، وقد ينقذونه إذا لم تكن الأمواج قوية بما يكفي لتحطيمه. ولكن إذا حدث ذلك، فإن هناك شيئاً واحداً فقط يجب على الطاقم القيام به، إذا لم يكونوا يرغبون في أن يفقدوا هم انفسهم أيضاً، وهو ترك الطوف، ويركبون القارب - وفي اللحظة المناسبة. لأنه بمجرد خروجه إلى فم الخليج، لا يمكن لقارب صغير أن يعود إلى رأس لوبيز ضد جريان المد والتيار النهري الدوري. فالسفن المسطحة التي لا تحتوي على أعمدة توجيه والتي تستخدم في النهر غير مفيدة في مواجهة الأمواج.

وبهذه الطريقة فقد أكثر من طوف واحد، واختفى أكثر من طاقم واحد في الأمواج. لقد وجد أحد مرضاي البيض نفسه ذات مرة على إحدى هذه الطوافات سيئة الحظ، فقد تم دفعهم إلى البحر بعد الغروب بواسطة نسيم من الدرجة التي تعتبر مفاجئة تماماً، وكانت قوة الأمواج تجعل من المحال التفكير في الهروب في قارب الكانو. وقد بدأ الطوف يتفكك عندما جاء قارب طويل مزود بمحرك للإنقاذ عندما لاحظ شخص كان حينها على الشاطئ الفانوس الذي كان يلوّح به الرجال اليائسون لطلب النجدة . تم إرسال قارب بخاري لانقاذهم، كان من حسن الحظ مشتغلاً،وسعى في ملاحقة نقطة الضوء المتحرك.
عندما يصل الطوف بسلام إلى رأس لوبيز، يتم تفكيكه إلى أجزاء وتذهب الكتل الخشبية إلى "الرصيف". في الجزء الأكثر حماية في الخليج، تربط صفين من كتل الأشجار معاً لتشكيل سلسلة مزدوجة. يتم ذلك عن طريق ضرب مسامير حديدية في الكتل الخشبية تنتهي في حلقات من خلالها تمر أسلاك حديدية قوية. تقوم هذه السلسلة المزدوجة من الكتل الخشبية بمنع المياه الهادئة من حركة البحر، وخلف هذا "الحاجز"، أو الطوف، تطفو الكتل الخشبية بقدر المكان المتاح.

يتم ربط الكتل الخشبية معاً بأسلاك حديدية أخرى تمر من خلال حلقات حديدية،ويقوم حارس كل ساعتين أو ثلاث ساعات بالدورة لرؤية ما إذا كان الطوف بحالة جيدة، وما إذا كانت الحلقات لا تزال متماسكة، وما إذا كان التآكل المستمر في الحلقات والانحناء المتكرر مع حركة الماء قد جعل الأسلاك الحديدية متآكلة وغير آمنة. ولكن غالباً ما تكون أقصى درجات التدبير والرعاية عديمة الفائدة، إذ ربما ينقطع حبل من الطوف خلال الليل دون أن يلاحظه أحد، وعندما يأتي صاحب الاخشاب في الصباح لفحصها، فإنها تكون قد انطلقت إلى عرض البحر، ولن تعود أبدًا.

قبل بضعة أشهر، فقدت شركة إنجليزية بهذه الطريقة، في ليلة واحدة، أخشاباً تُقدر قيمتها بحوالي 1600 جنيه إسترليني (40،000 فرنك). ولكن إذا حدث إعصار، فلا يمكن السيطرة على أي شيء. إذ تتحرك الجذوع الضخمة في الرصيف كما لو كانت دلافين سحرية، وأخيراً تقفز بأناقة فوق الطوف إلى الماء الحر في تلك المساحات المترامية الأطراف.

***********************************

· ملاحظة جانبية: التحميل. الأنواع الرئيسية للخشب

وبالتالي، فكل يوم يمر على وجود الطوف في الخليج يجلب مخاطر إضافية، وبحذر يُنتظر السفينة التي ستأخذ الأخشاب بعيدًا. وما أن تصل السفينة حتى تجر القوارب الطوف تلو الأخر إلى جانبها في البر، حيث يتم تحضير تلك الأخشاب التي سيتم شحنها أولاً بتمرير أسلاك حديدية من خلال خط من الحلقات في كل طرف. يقف السود على الطوف المتقلب، ويخرجون الحلقتين من الجذع الذي سيتم شحنه بعد ذلك، بحيث تطفو بحرية من الطوف، وبعد ذلك يضعون حولها السلسلة التي سيتم رفعها بها على متن السفينة. يحتاج هذا العمل إلى قدر هائل من المهارات، لأنه إذا حدث ان وقع عامل في الماء من على سطح الجذع المبلل الزلق المتدحرج، فمن المحتمل أن تتلف أرجله بين ثلاثة أو أثنين من هذه الكتل المتوازنة من الخشب التي تتلاطم باستمرار بعضها ببعض.

يمكنني من الشرفة بواسطة المنظار، مشاهدة بعض السود يقومون بهذا العمل، الذي يصعب عليهم القيام به بسبب النسيم الرائع الذي أستمتع به الآن، وأعلم أنه إذا جاء إعصار، أو حتى نسيم قوي جداً، فإن الأطواف التي تتمدد على جانب السفينة ستضيع بالتأكيد.

إن الخسائر في الأخشاب - في المسافة بين الأماكن التي يتم قطعها فيها ونجاح رفعها على متن السفينة - هائلة، وتعد البحيرات القريبة من مصب نهر أوجوي مقابر حقيقية للأخشاب. فمئات ومئات من جذوع الأشجار العملاقة تبرز من الوحل هناك، والغالبية منها هي أشجار لم تنقل في الوقت المناسب و تترك هناك لتتعفن، حتى إذا جاء فيضان أكبر من المعتاد سيعيدها مرة أخرى إلى النهر. وعندما تصل إلى الخليج، ستحملها الرياح والمد والجزر إلى البحيرات، حيث لن تخرج أبداً. في هذه اللحظة بالذات، أستطيع أن احسب، بمساعدة المنظار، حوالي أربعين جذعاً تتأرجح في الخليج، لتظل لعبة في يد المد والجزر والرياح حتى تجد قبراً إما في البحيرات أو في المحيط.

وبمجرد أن يتم تسليم الطوف بأمان، يسرع الطاقم للعودة إلى النهر، إما في زورقهم أو في باخرة، لكي لا يتضوروا جوعاً في كيب لوبيز، حيث تأتي جميع المؤن الطازجة الى المدينة المينائية من الداخل من على بعد حوالي 125 ميلًا من النهر، نظراً لأن لا شيء من هذا القبيل يمكن زراعته في رمال الساحل أو مستنقعات مصب النهر. وعندما يعودون إلى منازلهم، ويتم دفع مستحقاتهم من قبل مشتري الأخشاب، يشترون كميات من التبغ والبراندي وجميع أنواع البضائع من متجره. ثم يعودون إلى قراهم كرجال أغنياء وفقاً للمفاهيم المحلية، ولكن في غضون أسابيع قليلة، أو حتى في وقت أقل من ذلك تكون كل الأموال قد تبددت من أيديهم، ثم يبدأون بالبحث عن مكان جديد لبدء عملهم الشاق مرة أخرى.
تزداد صادرات الأخشاب من كيب لوبيز باضطراد؛ تبلغ في الوقت الحالي (1914) حوالي 150,000 طن سنوياً. الأنواع الرئيسية المتداولة هي الماهوغاني، الذي يسميه السكان المحليون "أومبيغا"، والأوكومي (Aucoumea klaineana)، المعروف باسم الماهوغاني الكاذب. والنوع الأخير أكثر ليونة من الماهوغاني الحقيقي، ويستخدم غالباً في صنع صناديق السيجار، ولكنه يستخدم أيضاً في صناعة الأثاث، وله مستقبل واعد. والعديد من أنواعه أجمل تقريباً من الماهوغاني الحقيقي.

إذا تُركت الأخشاب في الماء لفترة طويلة، فإنها تتعرض لهجوم من الرخويات المثقبة، وهي teredo navalis (بالفرنسية taret). هذه المخلوقات الدودية الصغيرة،في الواقع نوع من بلح البحر، تأكل الخشب لتشق طريقها مباشرة إلى مركز الجذع. لهذا السبب، يجب ان تقلب الأخشاب التي تنتظر السفينة وقتاً طويلًا على الشاطئ من آن لآخر، ويتم استغلال هذه الفرصة عادةً لقطع خشب النسغ ( الطبقة الخارجية من الجذع) بحيث يصبح الجذع عارضة مربعة.

ولكن بالإضافة إلى الأوكومي والماهوجني، هناك العديد من أنواع الأخشاب القيمة الأخرى في نهر أوجوي. سأذكر منها خشب الورد (ekewasengo أو bois de rose) وخشب المرجان (bois de corail)، وكلاهما ذو لون أحمر جميل، وخشب الحديد، الذي هو صلب لدرجة أن هناك تروساً تُستخدم في المنشرة في نغومو مصنوعة منه. كما ينمو هنا أيضاً نوع من الخشب الذي يبدو عند صقله، مثل حرير الmoiré الأبيض.
ومع ذلك، فإن أفضل أنواع الأخشاب لا تُصدَّر لأنها لم تُعرف بعد في الأسواق الأوروبية، وبالتالي ليست مطلوبة. وعندما تُعرف هذه الأخشاب وتصبح مرغوبة، ستصبح تجارة الأخشاب في أوجوي أكثر أهمية مما هي عليه اليوم.

يعتبر السيد هاوج، أحد المبشرين في نغومو، أفضل خبير في الأخشاب في أوجوي، ولديه مجموعة قيمة من عينات كل نوع منها. لم أتمكن في البداية من فهم سبب اهتمام الجميع هنا، حتى الأشخاص الذين ليس لهم علاقة بتجارة الأخشاب، بأنواع الخشب المختلفة. ومع مرور الوقت، وبفضل التفاعل المستمر مع تجار الأخشاب، صرت أنا نفسي، كما تقول زوجتي، مهووساً بالأخشاب.

aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء