على حافة الغابة البدائية: الحلقة (18)
د. أحمد جمعة صديق
7 June, 2024
7 June, 2024
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (18)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان
• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.
هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان:
(On the Edge of the Primeval Forest)
· "الامتيازات"
هناك أمر متصل إلى حد ما بمسألة العمل القسري وهو إدارة المستعمرات بأسلوب "الامتيازات". ما المقصود بالامتياز؟ يتم تخصيص مساحة كبيرة من الأرض لشركة ذات رأس مال كبير، ويجب أن تديرها لفترة زمنية معينة، ولا يجوز لأي تاجر آخر المنافسة ع الشركة صاحبة الامتياز. ومع استبعاد المنافسة بهذا الشكل، يصبح السكان الأصليون يعتمدون بصورة كبيرة على الشركة وموظفيها. حتى لو تم الاحتفاظ بالحقوق السيادية للدولة على الورق، فإن الشركة التجارية تمارس في الواقع الكثير من هذه الحقوق السيادية بصورة أكثر أو أقل، خاصة إذا كانت الضرائب المستحقة للدولة يمكن دفعها للشركة على شكل منتجات طبيعية أو عمل، ليتم تسليمها للدولة على شكل نقد.
لقد نوقشت هذه المسألة كثيراً، لأن نظام الامتيازات الكبيرة أدى في الكونغو البلجيكية إلى انتهاكات كبيرة، وأنا لا أتجاهل مخاطره؛ إذ يمكن أن يؤدي استغلاله بصورة خاطئة إلى أن يصبح السكان الأصليون تابعين للتاجر أو المزارع ككائنات لا تملك حقوقاً. لكن للنظام أيضاً نقاطه الايجابية.
تم منح المسار العلوي لنهر أوجوي كامتياز لـ "شركة أوجوي العليا"، وقد ناقشت هذه المسألة بصورة مستفيضة مع موظفي هذه الشركة الذين كانوا معي لفترات طويلة لتلقي العلاج الطبي، مما أتاح لي معرفة حجج كلا الجانبين.
عندما لا تخشى الشركة المنافسة، يمكنها - كما تفعل "شركة أوجوي العليا" - حظر الروم والمشروبات الروحية الرخيصة في منطقتها، وتوفير أشياء للبيع في متاجرها تستحق الشراء. وبتوجيه من قبل رجال ذوي فكر واسع وآراء واسعة، يمكن للشركة أن تمارس تأثيراً تربوياً كبيراً، ونظراً لأن الأرض تخصها بالكامل لفترة طويلة، فإن لها مصلحة حقيقية في التأكد من أنها تُدار بصورة صحيحة؛ وهي حريصة على عدم استنزاف التربة.
بصورة عامة، ينبغي رفض مبدأ العمل القسري، بمعنى أن تضع الدولة السكان الأصليين تحت تصرف الأفراد الخاصين. يجب على الدولة أن تطبقه إلى حد كافٍ في الأعمال التي يجب أن تفرضها على السكان الأصليين لأغراض ضرورية بصورة عامة. يجب أن يكون للدولة بحارة وحمالون تحت تصرفها لخدمة موظفيها عندما يسافرون؛ ويجب أن يكون لديها رجال في خدمتها لبناء وصيانة الطرق، وفي ظل ظروف معينة يجب أن تفرض مساهمات من المواد الغذائية لدعم قواتها وموظفيها بصورة عامة.
لكن هناك شيئان في إفريقيا يصعب تأمينهما بصورة جادة: أحدهما هو توفير المؤن الطازجة في أي مكان به عدد كبير من السكان، والآخر هو الحفاظ على الطرق التي تشق عبر الغابات؛ وكلاهما يصبحان أكثر صعوبة بصورة تتناسب كلما كان عدد السكان قليلًا والمسافات كبيرة. وأنا أتحدث من واقع تجربتي، ويا له من عناء أعانيه لتأمين الطعام لمساعدَيّ الاثنين ولأولئك المرضى في مستشفاي الذين يأتون من أماكن بعيدة جداً جدًا بحيث لا يمكن إرسال ما يلزمهم من طعام بانتظام من منازلهم! وتأتي أوقات أضطر فيها إلى اللجوء إلى تدابير قسرية، وأقول إن كل من يأتي للعلاج يجب أن يجلب معه مساهمة من عدد معين من الموز أو أعواد الكسافا. يؤدي هذا إلى مشاحنات لا تنتهي مع المرضى، الذين يقولون إنهم لا يعلمون بالأمر أو أنهم ليس لديهم ما يكفي لأنفسهم.
وبالطبع، أعالج الحالات الخطيرة وأولئك الذين يأتون من مسافات بعيدة، حتى لو لم يجلبوا المساهمة المتواضعة المطلوبة، ولكن، بغض النظر عن مدى إصراري على تقديم هذه المساهمة، يحدث أحيانًا أن أضطر إلى إرسال المرضى بعيداً لأنني لم أعد أملك وسائل إطعامهم. ويكون رئيس محطة البعثة، الذي يجب أن يوفر الطعام للأطفال المئة أو المئة والخمسين في المدرسة، في بعض الأحيان في نفس الوضع، ويجب إغلاق المدرسة، وإرسال الأطفال إلى منازلهم، لأننا لا نستطيع إطعامهم.
تؤثر الضرائب العمالية والحاجة الى الطعام بطبيعة الحال بصورة رئيسية على القرى الأقرب إلى المستوطنات البيضاء. وبغض النظر عن مدى اعتبار وعدالة تصرفات الحكومة، يشعر السكان الأصليون بهذا العبء، ويحاولون الهجرة إلى مناطق أبعد، حيث يمكنهم العيش بسلام. ومن ثم، في المناطق التي لا توجد فيها سوى قبائل بدائية، وهذه ليست بأعداد كبيرة، تنشأ حول المستوطنات البيضاء منطقة غير مأهولة. حينها يجب تطبيق سياسة الجبرية بطريقة أخرى. يُمنع السكان الأصليون من نقل قراهم، ويتم أمر أولئك الذين يعيشون بعيداً بالاقتراب من المستوطنات البيضاء أو الانتقال إلى نقاط محددة على طرق القوافل أو على النهر. يجب القيام بذلك، ولكن من المحزن أن يكون ذلك ضرورياً، ويجب على السلطات أن تحرص على عدم فرض أي تغيير يتجاوز ما هو ضروري حقًا.
تم إنشاء شبكة من الطرق عبر الغابات في الكاميرون، وهي تحتفظ بحالة ممتازة وتجذب إعجاب جميع الزوار من المستعمرات الأخرى. ولكن ألم يتحقق هذا الإنجاز العظيم الا على حساب السكان الأصليين ومصالحهم الحيوية؟ يجب طرح الأسئلة عندما تصل الأمور إلى حد تجنيد النساء للحفاظ على الطرق. من المستحيل القبول بذلك، وكما يحدث غالباً، تزدهر المستعمرة نفسها، بينما يتناقص عدد السكان الأصليين عاماً بعد عام. حينها، في هذه الحالة يعيش الحاضر على حساب المستقبل، والنتيجة المميتة واضحة فليست المسألة سوى موضوع توقيت. يجب أن يكون الحفاظ على السكان الأصليين الهدف الأول لأي سياسة استعمارية سليمة.
· مشكلة السكان الأصليين المتعلمين
قريباً من مشكلة العمل تأتي مشكلة السكان الأصليين المتعلمين. في رأيي، لا يعد التعليم المدرسي الشامل في حد ذاته ضرورة لهذه الشعوب البدائية. فبداية التحضر بالنسبة لهم ليس المعرفة، بل مهارات الصناعة والزراعة، التي من خلالها يمكن تأمين الشروط الاقتصادية لارساء الحضارة الراقية. ولكن الحكومة والتجارة تحتاج إلى سكان أصليين ذوي معرفة واسعة يمكنها استخدامهم في الإدارة والتجارة. لذلك، يجب أن تضع المدارس أهدافًا أعلى مما هو طبيعي، وتنتج أشخاصاً يفهمون الأرقام المعقدة ويستطيعون كتابة لغة الرجل الأبيض بصورة مثالية. يتمتع العديد من السكان الأصليين بقدرات تجعل نتائج هذا المحاولة، من حيث المعرفة العقلية، مذهلة.
زارني منذ مدة ليست بالبعيدة كاتب حكومي من السكان الاصليين، في وقت كان يقيم فيه معي مبشر هناك. عندما غادر الكاتب، قلت أنا والمبشر لبعضنا البعض: "حسناً، بالكاد يمكننا منافسته في كتابة المقالات!"، فرئيسه يعطيه وثائق من أصعب الأنواع لإعدادها وإحصاءات معقدة للعمل عليها، وهو ينفذها جميعاً وبلا أخطاء.
لكن ماذا يحدث لهؤلاء الناس؟ لقد تم اقتلاعهم من قراهم، مثلهم مثل الذين يذهبون للعمل بعيداً لدى الغرباء. يعيشون في المتاجر، معرضين باستمرار للأخطار التي تلاحق كل مواطن أصلي عن كثب، الإغراءات بالاحتيال والشرب. يكسبون أجوراً جيدة بالفعل، لكن بما أنهم يجب أن يشتروا جميع احتياجاتهم بأسعار مرتفعة، فيكونون عرضة لحب الإنفاق الفطري لدى الرجل الأسود، يجدون أنفسهم غالباً في مشاكل مالية وحتى في فاقة. إنهم لا ينتمون الآن إلى الزنوج العاديين، ولا ينتمون إلى البيض أيضاً؛ إنهم نوع ثالث بين الاثنين. مؤخراً، قال كاتب الحكومة المذكور أعلاه لزوجة أحد المبشرين: "نحن المثقفون الزنوج في وضع غير مريح للغاية. النساء في هذه الأجزاء غير متعلمات بما يكفي ليكنّ زوجات صالحات لنا. يجب أن يستوردوا لنا زوجات من القبائل العليا في مدغشقر". هذا الفقدان للمكانة الاجتماعية في اتجاه تصاعدي وهو المصيبة التي ستحل بالكثير من أفضل السكان الأصليين.
ان التحرر من الحالة الهمجية الناتجة عن تراكم الثروة لا يلعب اي دور هنا، رغم أنه قد يفعل ذلك في مستعمرات أخرى. إنها طريقة أكثر خطورة من التعليم الفكري.
تنتج المشاكل الإجتماعية أيضاً عن استهلاك الواردات من أوروبا. كان الزنوج في السابق، يمارسون عدداً من الصناعات الصغيرة. كانوا ينحتون أواني منزلية جيدة من الخشب؛ وكانوا يصنعون حبالًا ممتازة من ألياف اللحاء ومواد مشابهة؛ كانوا يستخرجون الملح من البحر. لكن هذه الصناعات البدائية وغيرها دُمّرت بواسطة السلع التي أدخلتها التجارة الأوروبية إلى الغابة. طردت أدوات الطلس الرخيصة الدلو الخشبي الصلب المصنوع محلياً، وحول كل قرية زنجية توجد أكوام من هذه الأشياء تصدأ فترمى في القمامة. أصبحت العديد من الحرف الصغيرة التي كانوا يمارسونها الآن منسية تقريباً؛ الآن فقط النساء العجائز يعرفن صناعة الحبال من اللحاء، وخياطة القطن من ألياف أوراق الأناناس. حتى فن صناعة الزوارق بدأت تضمحل. وهكذا تتراجع الصناعات المحلية بدلاً من التقدم،في الوقت الذي يعتبر فيه نشوء طبقة صناعية صلبة هو الخطوة الأولى والأكثر تأكيداً نحو التحضر.
للحصول على فكرة واضحة عن الخطر الاجتماعي الحقيقي الناتج عن استيراد المشروبات الروحية الرخيصة، يكفي الإطلاع على إحصائيات الروم المستورد الذي يصل إلى مدن الموانئ الساحلية سنوياً، لمعرفة نصيب كل فرد من السكان الأصليين، ومشاهدة كيف يتناول الأطفال الشراب مع كبارهم في القرى.
هنا في أوجوي، يتفق المسؤولون والتجار والمبشرون والزعماء جميعاً على وجوب وقف استيراد المشروبات الروحية الرخيصة. فلماذا لا يتم وقفها إذًا؟ لأن ذلك مربح جدًا للخزانة. الرسوم الجمركية على الروم تشكل أحد أكبر بنود الإيرادات في المستعمرة، وإذا توقفت، فسيكون هناك عجز مالي. الوضع المالي للمستعمرات الإفريقية معروف بكونه غير مشرق، وللرسوم الجمركية على المشروبات الروحية ميزة ثانية، وهي إمكانية زيادتها كل عام دون أن يقل استهلاكها بمقدار لتر واحد. الوضع هنا، كما هو الحال في مستعمرات أخرى، هو أن الحكومة تقول: "إلغاء المشروبات الروحية الرخيصة؟ بكل سرور، اليوم قبل الغد؛ ولكن أخبرونا أولاً بما يمكننا أن نسد العجز الذي سيحدث في الميزانية." ولم يتمكن أشد معارضي الكحول من تقديم أي اقتراح عملي. متى سنجد طريقة للخروج من هذا المأزق الأحمق؟ الأمل الوحيد هو أن يأتي يومٌ ما حاكم يضع مستقبل المستعمرة فوق الهموم المالية الحالية، ويملك الشجاعة لحظر الروم والاضطرار إلى تحمل العجز لعدة سنوات. في عام 1919، جازف الحاكم فعلاً بتجربة هذه السياسة، مما أثار فرحة كبيرة في المستعمرة بأكملها.
غالبًا ما يُقال إن إدمان الكحول سيكون منتشراً بين السكان الأصليين حتى لو لم يتم استيراد المشروبات الروحية. هذا كلام فارغ. من بين المشروبات الكحولية التي تُنتج في البلاد نفسها، يُعتبر نبيذ النخيل هو الوحيد الذي يجب أخذه بعين الاعتبار في الغابة، وليس ذلك خطيراً. إنه ببساطة عصارة شجرة النخيل المسموح لها بالتخمير، لكن حفر الأشجار وأخذ الأوعية اللازمة إليها يتطلب الكثير من العمل، لأن العمل يجب أن يتم في هدوء على مسافة من القرية، حيث يُحظر حفر الأشجار بصورة صريحة. بالإضافة إلى ذلك، لا يحتفظ نبيذ النخيل بخصائصه لمدة طويلة. وبالتالي، فإن وجوده يجعل من الممكن لشعب القرية أن يسكر عدة مرات في السنة، في مناسبات احتفالاتهم، لكنه ليس خطراً مستمراً مثل المشروبات الروحية الرخيصة المباعة في المتاجر. نبيذ النخيل الطازج مذاقه، عندما يتخمر، يشبه إلى حد كبير عصير العنب المتخمر، وهو بنفسه ليس أكثر إسكاراً من الأخير؛ ولكن السكان الأصليين معتادون على وضع أنواع مختلفة من اللحاء فيه، مما يمكن أن ينتج نوعاً رهيباً من السكر.
· تعدد الزوجات وشراء الزوجات
تعدد الزوجات هو مشكلة اجتماعية صعبة أخرى. نحن الأوروبيين نأتي إلى هنا مع نموذجنا المثالي للزواج الأحادي، ويكافح المبشرون بكل مواردهم ضد تعدد الزوجات، وفي بعض الأماكن يحثون الحكومة على قمعه قانونياً. من ناحية أخرى، يجب أن نعترف جميعاً هنا أن تعدد الزوجات مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالظروف الاقتصادية والاجتماعية القائمة. حيث يعيش السكان في أكواخ من الخيزران، والمجتمع ليس منظماً بحيث يمكن للمرأة أن تكسب عيشها بنفسها، ولا يوجد مكان للمرأة غير المتزوجة، وإذا كان يجب أن تتزوج جميع النساء، فإن تعدد الزوجات شرط ضروري. علاوة على ذلك، لا توجد في الغابة ماشية ولا أغنام، لذا يجب على الأم إرضاع طفلها لفترة طويلة إذا اردنا له أن ينمو. يضمن تعدد الزوجات حقوق الطفل، لأنه بعد ولادته، تتمتع المرأة بالحق والواجب في العيش فقط من أجل طفلها؛ لم تعد زوجة بل أصبحت فقط أماً، وغالباً ما تقضي الجزء الأكبر من هذا الوقت مع والديها. وفي نهاية الثلاث سنوات يأتي الفطام، الذي يتميز بمهرجان، ثم تعود إلى كوخ زوجها لتكون زوجة مرة أخرى. لكن هذا العيش من أجل طفلها لا يمكن التفكير فيه ما لم يكن لدى الرجل زوجة أخرى، أو زوجات أخريات، لتكوين منزل له والاعتناء بحدائق الموز.
إليك نقطة أخرى للنظر فيها. بين هذه الشعوب الطبيعية، لا توجد أرامل غير معيلات ولا أيتام مهملون. يرث أقرب ذكر بالغ أرملة الرجل الميت، ويجب عليه إعالتها وأطفالها. وتتمتع بجميع حقوق زوجاته الأخريات، على الرغم من أنه يمكنها لاحقًا، بموافقته، اتخاذ زوج آخر لها.
لذلك، التحريض ضد تعدد الزوجات بين الشعوب البدائية يعني تقويض هيكل مجتمعهم بأكمله. هل لدينا الحق في القيام بذلك إذا لم نكن أيضاً في وضع يمكننا من إعطائهم نظاماً اجتماعياً جديداً يناسب ظروفهم الخاصة؟ وإذا نجح التحريض، ألن يستمر تعدد الزوجات في الوجود، مع الفارق الوحيد أن الزوجات اللاحقات سيصبحن غير شرعيات؟ هذه الأسئلة تسبب قلقاً كبيراً للمبشرين بطبيعة الحال.
لكن، في الواقع، كلما تطورت الحالة الاقتصادية للشعب، أصبح النضال ضد تعدد الزوجات أسهل. عندما يبدأ الرجال في العيش في منازل دائمة، وممارسة تربية الماشية والزراعة، يختفي تعدد الزوجات من تلقاء نفسه لأنه لم يعد مطلوباً في ظل ظروفهم، ولن يعد حتى متسقًا معها. بين الإسرائيليين، مع تقدم حضارتهم، طرد الزواج الأحادي تعدد الزوجات بسلام. خلال الفترة النبوية، كان الاثنان يُمارسان جنبًا إلى جنب؛ وتعاليم المسيح لا تشير حتى مجرد إشارة إلى وجود تعدد الزوجات.
· تعدد الزوجات وشراء الزوجات
ينبغي أن تضع تعاليم الإرسالية الزواج الأحادي كالمثال الأعلى وكما تتطلبه المسيحية، ولكن سيكون من الخطأ أن تجعل الدولة ذلك إلزامياً. كما أنه من الخطأ، بقدر ما أستطيع التقدير، أن نحدد المعركة ضد الفساد الأخلاقي بأنها معركة ضد تعدد الزوجات. في ظل هذا النظام، تكون علاقة الزوجات ببعضهن البعض عادة جيدة. في الواقع، لا تحب المرأة الزنجية أن تكون الزوجة الوحيدة، لأنها ستتحمل عبء رعاية حقول الموز لوحدها، وهذه مهمة شاقة، حيث أن الحقول عادة ما تكون بعيدة عن القرية وفي جزء مخفي جيدًا في الغابة.
ما رأيته في مستشفاي عن الحياة مع العديد من الزوجات لم يُظهر لي، على أي حال، الجانب القبيح من النظام. جاء مرة زعيم مسن مريضاً وجلب معه زوجتين شابتين. وعندما بدأ حالته تثير القلق، ظهرت زوجة ثالثة كانت أكبر بكثير من الزوجتين الأوليين؛ كانت هذه زوجته الأولى. ومن يوم وصولها جلست باستمرار بجانب سريره، ووضعت رأسه في حضنها، وأعطته ما يريد شربه. تصرفت الزوجتان الشابتان باحترام نحوها، وتلقيتا الأوامر منها، واعتنتا بالطبخ.
يمكن أن تكون قد مررت بتجربة في هذا البلد حيث يعلن فتى يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً نفسه ربَّ أسرة. يحدث ذلك على النحو التالي. فقد يكون قد ورث من أحد الأقارب المتوفين زوجة وأطفالًا، وعلى الرغم من أن المرأة قد تزوجت من رجل آخر، فإن ذلك لا يمس حقوقه تجاه الأطفال ولا واجبه نحوهم. فإذا كانوا أولادًا، سيتعين عليه في يوم من الأيام شراء زوجات لهم؛ وإذا كانوا بنات، فسيحصل على الثمن المعتاد من الذين يرغبون في الزواج منهن.
هل ينبغي على المرء الاحتجاج ضد عادة شراء الزوجات، أم تحملها؟ إذا كان الأمر يتعلق بفتاة شابة يتم تزويجها، دون استشارتها، للرجل الذي يقدم أعلى عرض لها، فمن الواضح أنه من الصواب الاحتجاج. إذا كان يعني ببساطة أنه وفقاً للعادات المحلية، يجب على الرجل الذي يغازل فتاة، إذا كانت راغبة في الزواج منه، دفع مبلغ متفق عليه لعائلتها، فلا يوجد سبب للاعتراض أكثر من مسألة المهر المعتاد في أوروبا. سواء دفع الرجل، إذا تم الزواج، المال للعائلة أو تلقى المال منها، فهو في المبدأ نفس الشيء؛ في كلتا الحالتين هناك معاملة مالية محددة نشأت من وجهات النظر الاجتماعية في الفترة المعنية. ما يجب الإصرار عليه، بيننا وبين "السكان الأصليين"، هو أن تظل المعاملة المالية عنصر تابع، ولا يؤثر على الاختيار الشخصي بحيث يتم شراء الزوجة، كما في أفريقيا، أو الزوج، كما في أوروبا.
ما يجب علينا فعله، إذن، ليس محاربة عادة شراء الزوجات، بل تثقيف السكان الأصليين ليعرفوا أنه لا ينبغي عليهم إعطاء الفتاة لأعلى مزايد، بل للخاطب الذي يمكنه جعلها سعيدة، والتي تميل هي نفسها إلى اختياره. في الواقع، ليس لدى الفتيات الزنجيات هذا القدر من نقص الاستقلالية لدرجة أن يسمحن لأنفسهن بأن يتم بيعهن لأي شخص يتقدم لخطبتهن. الحب، صحيح، لا يلعب نفس الدور في الزواج هنا كما هو عندنا، لأن ابن الطبيعية لا يعرف شيئاً عن الرومانسية، وعادة ما تُقرر الزيجات في مجلس العائلة؛ ومع ذلك، فإنها عادة ما تكون ناجحة.
تتزوج معظم الفتيات عندما يبلغن الخامسة عشرة، حتى اللاتي في مدارس الفتيات. الفتيات في مدرسة الإرسالية الخاصة بنا معظمهن مرتبطات بالفعل بزوج، ويتزوجن فور تركهن المدرسة. يمكن حتى أن يتم خطبتهن بزوج قبل أن يولدن، كما علمت من حالة شراء زوجة غير مبدئية تماماً، والتي حدثت في سامكيتا، حدثني عنها مبشر. فقد كان رجل مديناً لأحد جيرانه بـ 16 جنيهاً إسترلينياً (400 فرنك)، وبدلاً من سداد الدين، اشترى زوجة وتزوجها بالمراسم المعتادة. وأثناء حفل الزفاف، ظهر الدائن وأغرق العريس بالسباب لشرائه زوجة بدلاً من سداد دينه. بدأت مشاجرة وانتهت باتفاق يقضي بأن يعطي المدين دائنَه أول فتاة تولد له من هذا الزواج كزوجة، تم الاتفاق ثم شارك الأخير في الاحتفالات. وبعد ستة عشر عاماً، جاء الدائن كخاطب، وهكذا تم سداد الدين!
رأيي هو، وقد شكلته بعد مناقشات مع أفضل وأكثر الرجال البيض خبرة في هذه الديار، أننا يجب أن نقبل، ولكن نحاول تحسين وتنقيح الحقوق والعادات التي نجدها موروثة وموجودة، ولا نقوم بادخال أو فرض أي تغييرات غير ضرورية.
aahmedgumaa@yahoo.com
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان
• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.
هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان:
(On the Edge of the Primeval Forest)
· "الامتيازات"
هناك أمر متصل إلى حد ما بمسألة العمل القسري وهو إدارة المستعمرات بأسلوب "الامتيازات". ما المقصود بالامتياز؟ يتم تخصيص مساحة كبيرة من الأرض لشركة ذات رأس مال كبير، ويجب أن تديرها لفترة زمنية معينة، ولا يجوز لأي تاجر آخر المنافسة ع الشركة صاحبة الامتياز. ومع استبعاد المنافسة بهذا الشكل، يصبح السكان الأصليون يعتمدون بصورة كبيرة على الشركة وموظفيها. حتى لو تم الاحتفاظ بالحقوق السيادية للدولة على الورق، فإن الشركة التجارية تمارس في الواقع الكثير من هذه الحقوق السيادية بصورة أكثر أو أقل، خاصة إذا كانت الضرائب المستحقة للدولة يمكن دفعها للشركة على شكل منتجات طبيعية أو عمل، ليتم تسليمها للدولة على شكل نقد.
لقد نوقشت هذه المسألة كثيراً، لأن نظام الامتيازات الكبيرة أدى في الكونغو البلجيكية إلى انتهاكات كبيرة، وأنا لا أتجاهل مخاطره؛ إذ يمكن أن يؤدي استغلاله بصورة خاطئة إلى أن يصبح السكان الأصليون تابعين للتاجر أو المزارع ككائنات لا تملك حقوقاً. لكن للنظام أيضاً نقاطه الايجابية.
تم منح المسار العلوي لنهر أوجوي كامتياز لـ "شركة أوجوي العليا"، وقد ناقشت هذه المسألة بصورة مستفيضة مع موظفي هذه الشركة الذين كانوا معي لفترات طويلة لتلقي العلاج الطبي، مما أتاح لي معرفة حجج كلا الجانبين.
عندما لا تخشى الشركة المنافسة، يمكنها - كما تفعل "شركة أوجوي العليا" - حظر الروم والمشروبات الروحية الرخيصة في منطقتها، وتوفير أشياء للبيع في متاجرها تستحق الشراء. وبتوجيه من قبل رجال ذوي فكر واسع وآراء واسعة، يمكن للشركة أن تمارس تأثيراً تربوياً كبيراً، ونظراً لأن الأرض تخصها بالكامل لفترة طويلة، فإن لها مصلحة حقيقية في التأكد من أنها تُدار بصورة صحيحة؛ وهي حريصة على عدم استنزاف التربة.
بصورة عامة، ينبغي رفض مبدأ العمل القسري، بمعنى أن تضع الدولة السكان الأصليين تحت تصرف الأفراد الخاصين. يجب على الدولة أن تطبقه إلى حد كافٍ في الأعمال التي يجب أن تفرضها على السكان الأصليين لأغراض ضرورية بصورة عامة. يجب أن يكون للدولة بحارة وحمالون تحت تصرفها لخدمة موظفيها عندما يسافرون؛ ويجب أن يكون لديها رجال في خدمتها لبناء وصيانة الطرق، وفي ظل ظروف معينة يجب أن تفرض مساهمات من المواد الغذائية لدعم قواتها وموظفيها بصورة عامة.
لكن هناك شيئان في إفريقيا يصعب تأمينهما بصورة جادة: أحدهما هو توفير المؤن الطازجة في أي مكان به عدد كبير من السكان، والآخر هو الحفاظ على الطرق التي تشق عبر الغابات؛ وكلاهما يصبحان أكثر صعوبة بصورة تتناسب كلما كان عدد السكان قليلًا والمسافات كبيرة. وأنا أتحدث من واقع تجربتي، ويا له من عناء أعانيه لتأمين الطعام لمساعدَيّ الاثنين ولأولئك المرضى في مستشفاي الذين يأتون من أماكن بعيدة جداً جدًا بحيث لا يمكن إرسال ما يلزمهم من طعام بانتظام من منازلهم! وتأتي أوقات أضطر فيها إلى اللجوء إلى تدابير قسرية، وأقول إن كل من يأتي للعلاج يجب أن يجلب معه مساهمة من عدد معين من الموز أو أعواد الكسافا. يؤدي هذا إلى مشاحنات لا تنتهي مع المرضى، الذين يقولون إنهم لا يعلمون بالأمر أو أنهم ليس لديهم ما يكفي لأنفسهم.
وبالطبع، أعالج الحالات الخطيرة وأولئك الذين يأتون من مسافات بعيدة، حتى لو لم يجلبوا المساهمة المتواضعة المطلوبة، ولكن، بغض النظر عن مدى إصراري على تقديم هذه المساهمة، يحدث أحيانًا أن أضطر إلى إرسال المرضى بعيداً لأنني لم أعد أملك وسائل إطعامهم. ويكون رئيس محطة البعثة، الذي يجب أن يوفر الطعام للأطفال المئة أو المئة والخمسين في المدرسة، في بعض الأحيان في نفس الوضع، ويجب إغلاق المدرسة، وإرسال الأطفال إلى منازلهم، لأننا لا نستطيع إطعامهم.
تؤثر الضرائب العمالية والحاجة الى الطعام بطبيعة الحال بصورة رئيسية على القرى الأقرب إلى المستوطنات البيضاء. وبغض النظر عن مدى اعتبار وعدالة تصرفات الحكومة، يشعر السكان الأصليون بهذا العبء، ويحاولون الهجرة إلى مناطق أبعد، حيث يمكنهم العيش بسلام. ومن ثم، في المناطق التي لا توجد فيها سوى قبائل بدائية، وهذه ليست بأعداد كبيرة، تنشأ حول المستوطنات البيضاء منطقة غير مأهولة. حينها يجب تطبيق سياسة الجبرية بطريقة أخرى. يُمنع السكان الأصليون من نقل قراهم، ويتم أمر أولئك الذين يعيشون بعيداً بالاقتراب من المستوطنات البيضاء أو الانتقال إلى نقاط محددة على طرق القوافل أو على النهر. يجب القيام بذلك، ولكن من المحزن أن يكون ذلك ضرورياً، ويجب على السلطات أن تحرص على عدم فرض أي تغيير يتجاوز ما هو ضروري حقًا.
تم إنشاء شبكة من الطرق عبر الغابات في الكاميرون، وهي تحتفظ بحالة ممتازة وتجذب إعجاب جميع الزوار من المستعمرات الأخرى. ولكن ألم يتحقق هذا الإنجاز العظيم الا على حساب السكان الأصليين ومصالحهم الحيوية؟ يجب طرح الأسئلة عندما تصل الأمور إلى حد تجنيد النساء للحفاظ على الطرق. من المستحيل القبول بذلك، وكما يحدث غالباً، تزدهر المستعمرة نفسها، بينما يتناقص عدد السكان الأصليين عاماً بعد عام. حينها، في هذه الحالة يعيش الحاضر على حساب المستقبل، والنتيجة المميتة واضحة فليست المسألة سوى موضوع توقيت. يجب أن يكون الحفاظ على السكان الأصليين الهدف الأول لأي سياسة استعمارية سليمة.
· مشكلة السكان الأصليين المتعلمين
قريباً من مشكلة العمل تأتي مشكلة السكان الأصليين المتعلمين. في رأيي، لا يعد التعليم المدرسي الشامل في حد ذاته ضرورة لهذه الشعوب البدائية. فبداية التحضر بالنسبة لهم ليس المعرفة، بل مهارات الصناعة والزراعة، التي من خلالها يمكن تأمين الشروط الاقتصادية لارساء الحضارة الراقية. ولكن الحكومة والتجارة تحتاج إلى سكان أصليين ذوي معرفة واسعة يمكنها استخدامهم في الإدارة والتجارة. لذلك، يجب أن تضع المدارس أهدافًا أعلى مما هو طبيعي، وتنتج أشخاصاً يفهمون الأرقام المعقدة ويستطيعون كتابة لغة الرجل الأبيض بصورة مثالية. يتمتع العديد من السكان الأصليين بقدرات تجعل نتائج هذا المحاولة، من حيث المعرفة العقلية، مذهلة.
زارني منذ مدة ليست بالبعيدة كاتب حكومي من السكان الاصليين، في وقت كان يقيم فيه معي مبشر هناك. عندما غادر الكاتب، قلت أنا والمبشر لبعضنا البعض: "حسناً، بالكاد يمكننا منافسته في كتابة المقالات!"، فرئيسه يعطيه وثائق من أصعب الأنواع لإعدادها وإحصاءات معقدة للعمل عليها، وهو ينفذها جميعاً وبلا أخطاء.
لكن ماذا يحدث لهؤلاء الناس؟ لقد تم اقتلاعهم من قراهم، مثلهم مثل الذين يذهبون للعمل بعيداً لدى الغرباء. يعيشون في المتاجر، معرضين باستمرار للأخطار التي تلاحق كل مواطن أصلي عن كثب، الإغراءات بالاحتيال والشرب. يكسبون أجوراً جيدة بالفعل، لكن بما أنهم يجب أن يشتروا جميع احتياجاتهم بأسعار مرتفعة، فيكونون عرضة لحب الإنفاق الفطري لدى الرجل الأسود، يجدون أنفسهم غالباً في مشاكل مالية وحتى في فاقة. إنهم لا ينتمون الآن إلى الزنوج العاديين، ولا ينتمون إلى البيض أيضاً؛ إنهم نوع ثالث بين الاثنين. مؤخراً، قال كاتب الحكومة المذكور أعلاه لزوجة أحد المبشرين: "نحن المثقفون الزنوج في وضع غير مريح للغاية. النساء في هذه الأجزاء غير متعلمات بما يكفي ليكنّ زوجات صالحات لنا. يجب أن يستوردوا لنا زوجات من القبائل العليا في مدغشقر". هذا الفقدان للمكانة الاجتماعية في اتجاه تصاعدي وهو المصيبة التي ستحل بالكثير من أفضل السكان الأصليين.
ان التحرر من الحالة الهمجية الناتجة عن تراكم الثروة لا يلعب اي دور هنا، رغم أنه قد يفعل ذلك في مستعمرات أخرى. إنها طريقة أكثر خطورة من التعليم الفكري.
تنتج المشاكل الإجتماعية أيضاً عن استهلاك الواردات من أوروبا. كان الزنوج في السابق، يمارسون عدداً من الصناعات الصغيرة. كانوا ينحتون أواني منزلية جيدة من الخشب؛ وكانوا يصنعون حبالًا ممتازة من ألياف اللحاء ومواد مشابهة؛ كانوا يستخرجون الملح من البحر. لكن هذه الصناعات البدائية وغيرها دُمّرت بواسطة السلع التي أدخلتها التجارة الأوروبية إلى الغابة. طردت أدوات الطلس الرخيصة الدلو الخشبي الصلب المصنوع محلياً، وحول كل قرية زنجية توجد أكوام من هذه الأشياء تصدأ فترمى في القمامة. أصبحت العديد من الحرف الصغيرة التي كانوا يمارسونها الآن منسية تقريباً؛ الآن فقط النساء العجائز يعرفن صناعة الحبال من اللحاء، وخياطة القطن من ألياف أوراق الأناناس. حتى فن صناعة الزوارق بدأت تضمحل. وهكذا تتراجع الصناعات المحلية بدلاً من التقدم،في الوقت الذي يعتبر فيه نشوء طبقة صناعية صلبة هو الخطوة الأولى والأكثر تأكيداً نحو التحضر.
للحصول على فكرة واضحة عن الخطر الاجتماعي الحقيقي الناتج عن استيراد المشروبات الروحية الرخيصة، يكفي الإطلاع على إحصائيات الروم المستورد الذي يصل إلى مدن الموانئ الساحلية سنوياً، لمعرفة نصيب كل فرد من السكان الأصليين، ومشاهدة كيف يتناول الأطفال الشراب مع كبارهم في القرى.
هنا في أوجوي، يتفق المسؤولون والتجار والمبشرون والزعماء جميعاً على وجوب وقف استيراد المشروبات الروحية الرخيصة. فلماذا لا يتم وقفها إذًا؟ لأن ذلك مربح جدًا للخزانة. الرسوم الجمركية على الروم تشكل أحد أكبر بنود الإيرادات في المستعمرة، وإذا توقفت، فسيكون هناك عجز مالي. الوضع المالي للمستعمرات الإفريقية معروف بكونه غير مشرق، وللرسوم الجمركية على المشروبات الروحية ميزة ثانية، وهي إمكانية زيادتها كل عام دون أن يقل استهلاكها بمقدار لتر واحد. الوضع هنا، كما هو الحال في مستعمرات أخرى، هو أن الحكومة تقول: "إلغاء المشروبات الروحية الرخيصة؟ بكل سرور، اليوم قبل الغد؛ ولكن أخبرونا أولاً بما يمكننا أن نسد العجز الذي سيحدث في الميزانية." ولم يتمكن أشد معارضي الكحول من تقديم أي اقتراح عملي. متى سنجد طريقة للخروج من هذا المأزق الأحمق؟ الأمل الوحيد هو أن يأتي يومٌ ما حاكم يضع مستقبل المستعمرة فوق الهموم المالية الحالية، ويملك الشجاعة لحظر الروم والاضطرار إلى تحمل العجز لعدة سنوات. في عام 1919، جازف الحاكم فعلاً بتجربة هذه السياسة، مما أثار فرحة كبيرة في المستعمرة بأكملها.
غالبًا ما يُقال إن إدمان الكحول سيكون منتشراً بين السكان الأصليين حتى لو لم يتم استيراد المشروبات الروحية. هذا كلام فارغ. من بين المشروبات الكحولية التي تُنتج في البلاد نفسها، يُعتبر نبيذ النخيل هو الوحيد الذي يجب أخذه بعين الاعتبار في الغابة، وليس ذلك خطيراً. إنه ببساطة عصارة شجرة النخيل المسموح لها بالتخمير، لكن حفر الأشجار وأخذ الأوعية اللازمة إليها يتطلب الكثير من العمل، لأن العمل يجب أن يتم في هدوء على مسافة من القرية، حيث يُحظر حفر الأشجار بصورة صريحة. بالإضافة إلى ذلك، لا يحتفظ نبيذ النخيل بخصائصه لمدة طويلة. وبالتالي، فإن وجوده يجعل من الممكن لشعب القرية أن يسكر عدة مرات في السنة، في مناسبات احتفالاتهم، لكنه ليس خطراً مستمراً مثل المشروبات الروحية الرخيصة المباعة في المتاجر. نبيذ النخيل الطازج مذاقه، عندما يتخمر، يشبه إلى حد كبير عصير العنب المتخمر، وهو بنفسه ليس أكثر إسكاراً من الأخير؛ ولكن السكان الأصليين معتادون على وضع أنواع مختلفة من اللحاء فيه، مما يمكن أن ينتج نوعاً رهيباً من السكر.
· تعدد الزوجات وشراء الزوجات
تعدد الزوجات هو مشكلة اجتماعية صعبة أخرى. نحن الأوروبيين نأتي إلى هنا مع نموذجنا المثالي للزواج الأحادي، ويكافح المبشرون بكل مواردهم ضد تعدد الزوجات، وفي بعض الأماكن يحثون الحكومة على قمعه قانونياً. من ناحية أخرى، يجب أن نعترف جميعاً هنا أن تعدد الزوجات مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالظروف الاقتصادية والاجتماعية القائمة. حيث يعيش السكان في أكواخ من الخيزران، والمجتمع ليس منظماً بحيث يمكن للمرأة أن تكسب عيشها بنفسها، ولا يوجد مكان للمرأة غير المتزوجة، وإذا كان يجب أن تتزوج جميع النساء، فإن تعدد الزوجات شرط ضروري. علاوة على ذلك، لا توجد في الغابة ماشية ولا أغنام، لذا يجب على الأم إرضاع طفلها لفترة طويلة إذا اردنا له أن ينمو. يضمن تعدد الزوجات حقوق الطفل، لأنه بعد ولادته، تتمتع المرأة بالحق والواجب في العيش فقط من أجل طفلها؛ لم تعد زوجة بل أصبحت فقط أماً، وغالباً ما تقضي الجزء الأكبر من هذا الوقت مع والديها. وفي نهاية الثلاث سنوات يأتي الفطام، الذي يتميز بمهرجان، ثم تعود إلى كوخ زوجها لتكون زوجة مرة أخرى. لكن هذا العيش من أجل طفلها لا يمكن التفكير فيه ما لم يكن لدى الرجل زوجة أخرى، أو زوجات أخريات، لتكوين منزل له والاعتناء بحدائق الموز.
إليك نقطة أخرى للنظر فيها. بين هذه الشعوب الطبيعية، لا توجد أرامل غير معيلات ولا أيتام مهملون. يرث أقرب ذكر بالغ أرملة الرجل الميت، ويجب عليه إعالتها وأطفالها. وتتمتع بجميع حقوق زوجاته الأخريات، على الرغم من أنه يمكنها لاحقًا، بموافقته، اتخاذ زوج آخر لها.
لذلك، التحريض ضد تعدد الزوجات بين الشعوب البدائية يعني تقويض هيكل مجتمعهم بأكمله. هل لدينا الحق في القيام بذلك إذا لم نكن أيضاً في وضع يمكننا من إعطائهم نظاماً اجتماعياً جديداً يناسب ظروفهم الخاصة؟ وإذا نجح التحريض، ألن يستمر تعدد الزوجات في الوجود، مع الفارق الوحيد أن الزوجات اللاحقات سيصبحن غير شرعيات؟ هذه الأسئلة تسبب قلقاً كبيراً للمبشرين بطبيعة الحال.
لكن، في الواقع، كلما تطورت الحالة الاقتصادية للشعب، أصبح النضال ضد تعدد الزوجات أسهل. عندما يبدأ الرجال في العيش في منازل دائمة، وممارسة تربية الماشية والزراعة، يختفي تعدد الزوجات من تلقاء نفسه لأنه لم يعد مطلوباً في ظل ظروفهم، ولن يعد حتى متسقًا معها. بين الإسرائيليين، مع تقدم حضارتهم، طرد الزواج الأحادي تعدد الزوجات بسلام. خلال الفترة النبوية، كان الاثنان يُمارسان جنبًا إلى جنب؛ وتعاليم المسيح لا تشير حتى مجرد إشارة إلى وجود تعدد الزوجات.
· تعدد الزوجات وشراء الزوجات
ينبغي أن تضع تعاليم الإرسالية الزواج الأحادي كالمثال الأعلى وكما تتطلبه المسيحية، ولكن سيكون من الخطأ أن تجعل الدولة ذلك إلزامياً. كما أنه من الخطأ، بقدر ما أستطيع التقدير، أن نحدد المعركة ضد الفساد الأخلاقي بأنها معركة ضد تعدد الزوجات. في ظل هذا النظام، تكون علاقة الزوجات ببعضهن البعض عادة جيدة. في الواقع، لا تحب المرأة الزنجية أن تكون الزوجة الوحيدة، لأنها ستتحمل عبء رعاية حقول الموز لوحدها، وهذه مهمة شاقة، حيث أن الحقول عادة ما تكون بعيدة عن القرية وفي جزء مخفي جيدًا في الغابة.
ما رأيته في مستشفاي عن الحياة مع العديد من الزوجات لم يُظهر لي، على أي حال، الجانب القبيح من النظام. جاء مرة زعيم مسن مريضاً وجلب معه زوجتين شابتين. وعندما بدأ حالته تثير القلق، ظهرت زوجة ثالثة كانت أكبر بكثير من الزوجتين الأوليين؛ كانت هذه زوجته الأولى. ومن يوم وصولها جلست باستمرار بجانب سريره، ووضعت رأسه في حضنها، وأعطته ما يريد شربه. تصرفت الزوجتان الشابتان باحترام نحوها، وتلقيتا الأوامر منها، واعتنتا بالطبخ.
يمكن أن تكون قد مررت بتجربة في هذا البلد حيث يعلن فتى يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً نفسه ربَّ أسرة. يحدث ذلك على النحو التالي. فقد يكون قد ورث من أحد الأقارب المتوفين زوجة وأطفالًا، وعلى الرغم من أن المرأة قد تزوجت من رجل آخر، فإن ذلك لا يمس حقوقه تجاه الأطفال ولا واجبه نحوهم. فإذا كانوا أولادًا، سيتعين عليه في يوم من الأيام شراء زوجات لهم؛ وإذا كانوا بنات، فسيحصل على الثمن المعتاد من الذين يرغبون في الزواج منهن.
هل ينبغي على المرء الاحتجاج ضد عادة شراء الزوجات، أم تحملها؟ إذا كان الأمر يتعلق بفتاة شابة يتم تزويجها، دون استشارتها، للرجل الذي يقدم أعلى عرض لها، فمن الواضح أنه من الصواب الاحتجاج. إذا كان يعني ببساطة أنه وفقاً للعادات المحلية، يجب على الرجل الذي يغازل فتاة، إذا كانت راغبة في الزواج منه، دفع مبلغ متفق عليه لعائلتها، فلا يوجد سبب للاعتراض أكثر من مسألة المهر المعتاد في أوروبا. سواء دفع الرجل، إذا تم الزواج، المال للعائلة أو تلقى المال منها، فهو في المبدأ نفس الشيء؛ في كلتا الحالتين هناك معاملة مالية محددة نشأت من وجهات النظر الاجتماعية في الفترة المعنية. ما يجب الإصرار عليه، بيننا وبين "السكان الأصليين"، هو أن تظل المعاملة المالية عنصر تابع، ولا يؤثر على الاختيار الشخصي بحيث يتم شراء الزوجة، كما في أفريقيا، أو الزوج، كما في أوروبا.
ما يجب علينا فعله، إذن، ليس محاربة عادة شراء الزوجات، بل تثقيف السكان الأصليين ليعرفوا أنه لا ينبغي عليهم إعطاء الفتاة لأعلى مزايد، بل للخاطب الذي يمكنه جعلها سعيدة، والتي تميل هي نفسها إلى اختياره. في الواقع، ليس لدى الفتيات الزنجيات هذا القدر من نقص الاستقلالية لدرجة أن يسمحن لأنفسهن بأن يتم بيعهن لأي شخص يتقدم لخطبتهن. الحب، صحيح، لا يلعب نفس الدور في الزواج هنا كما هو عندنا، لأن ابن الطبيعية لا يعرف شيئاً عن الرومانسية، وعادة ما تُقرر الزيجات في مجلس العائلة؛ ومع ذلك، فإنها عادة ما تكون ناجحة.
تتزوج معظم الفتيات عندما يبلغن الخامسة عشرة، حتى اللاتي في مدارس الفتيات. الفتيات في مدرسة الإرسالية الخاصة بنا معظمهن مرتبطات بالفعل بزوج، ويتزوجن فور تركهن المدرسة. يمكن حتى أن يتم خطبتهن بزوج قبل أن يولدن، كما علمت من حالة شراء زوجة غير مبدئية تماماً، والتي حدثت في سامكيتا، حدثني عنها مبشر. فقد كان رجل مديناً لأحد جيرانه بـ 16 جنيهاً إسترلينياً (400 فرنك)، وبدلاً من سداد الدين، اشترى زوجة وتزوجها بالمراسم المعتادة. وأثناء حفل الزفاف، ظهر الدائن وأغرق العريس بالسباب لشرائه زوجة بدلاً من سداد دينه. بدأت مشاجرة وانتهت باتفاق يقضي بأن يعطي المدين دائنَه أول فتاة تولد له من هذا الزواج كزوجة، تم الاتفاق ثم شارك الأخير في الاحتفالات. وبعد ستة عشر عاماً، جاء الدائن كخاطب، وهكذا تم سداد الدين!
رأيي هو، وقد شكلته بعد مناقشات مع أفضل وأكثر الرجال البيض خبرة في هذه الديار، أننا يجب أن نقبل، ولكن نحاول تحسين وتنقيح الحقوق والعادات التي نجدها موروثة وموجودة، ولا نقوم بادخال أو فرض أي تغييرات غير ضرورية.
aahmedgumaa@yahoo.com