على حافة الغابة البدائية: الحلقة (20)

 


 

 

تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري – السودان

• ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.

كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، إذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الإنساني الكبير.

 

هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب بعنوان
(On the Edge of the Primeval Forest)
*********************************
· عيد الميلاد، 1914
عيد ميلاد في زمن الحرب في الغابة البكر!

عندما احترقت الشموع على النخلة الصغيرة التي استخدمناها شجرة عيد ميلاد إلى نصفها، أطفأتها. سألتني زوجتي: "ماذا تفعل؟" فأجبت: "إنها كل ما لدينا، ويجب أن نحتفظ بها للعام القادم." فقالت: "للعام القادم؟" وهزت رأسها.

في الرابع من أغسطس، بعد يومين من عودتنا من كيب لوبيز، أعددت بعض الأدوية لسيدة كانت مريضة هناك، وأرسلت جوزيف إلى متجر ليطلب منهم أن تأخذ باخرتهم الطرد إلى هناك في رحلتها القادمة. عاد برسالة قصيرة: " الآن يتم حشد القوات في أوروبا، ربما تكون الحرب قد بدأت بالفعل. يجب علينا أن نضع باخرتنا تحت تصرف السلطات، ولا يمكننا القول متى ستذهب إلى كيب لوبيز مرة أخرى."

احتجنا أياماً لإدراك أن أوروبا في حالة حرب، على الرغم من أننا لم نفشل في أخذ احتمالها في الاعتبار؛ في الواقع، بناءاً على نصيحة تاجر متمرس، أحضرت معي مبلغاً كبيراً من النقد المعدني في حال حدوثها. ولكن منذ بداية يوليو لم نتلق أي أخبار من أوروبا، ولم نكن نعرف شيئاً عن التعقيدات التي أدت في النهاية إلى الإنفجار القاتل.

· انطباعات السكان الأصليين عن الحرب

كان للسود في البداية، القليل من الفهم لما كان يحدث. كان الكاثوليك منهم أكثر اهتماماً حقًا بانتخاب البابا من الحرب، خلال الخريف. قال لي جوزيف أثناء رحلة بالقارب: "دكتور، كيف ينتخب الكرادلة البابا بالفعل؟ هل يأخذون الأكبر سناً، أو الأكثر تديناً، أو الأذكى؟" فأجبته: "يأخذون نوعاً من الأشخاص في هذه المرة، ونوعاً آخر في المرة التالية، وفقاً للظروف."

لم يشعر العمال السود في البداية أن الحرب كانت بمثابة مصيبة، إذ تم استدعاء عدد قليل جدًا منهم للخدمة لبضعة أسابيع. كان البيض يجلسون معاً ويتحدثون عن الأخبار والشائعات القادمة من أوروبا. ولكن الآن (عيد الميلاد، 1914)، بدأ السكان الملونون يدركون أن للحرب عواقب تؤثر عليهم أيضاً. فنظراً لوجود نقص في السفن، لا يمكن تصدير الأخشاب، ولذلك يتم تسريح العمال من الذين جاءوا من مسافات بعيدة وتم توظيفهم لمدة عام في المتاجر، وبما أنه لا توجد سفن تعمل على الأنهار يمكن أن تأخذهم إلى منازلهم، فإنهم يتجمعون في مجموعات ويحاولون الوصول إلى ساحل لواغو، حيث وفد معظمهم من هناك، سيراً على الأقدام.

مرة أخرى، الزيادة المفاجئة في أسعار التبغ والسكر والأرز والكيروسين والروم تجعل الوعي بالحرب يصل إلى أذهان السود، وهذه الزيادة هي ما يشغلهم أكثر في الوقت الحالي.

ومؤخراً، بينما كنا نضمد الجرحى، بدأ جوزيف يشكو من الحرب، كما فعل عدة مرات من قبل، لأنها سبب هذه الزيادة في الأسعار، فقلت له: "جوزيف، يجب ألا تتحدث بهذه الطريقة. ألا ترى كم هي مضطربة وجوه الطبيب وزوجته ووجوه جميع المبشرين؟ بالنسبة لنا، تعني الحرب أكثر بكثير من مجرد زيادة غير سارة في الأسعار. نحن جميعاً قلقون بشأن حياة الكثير من رجالنا الأعزاء، ويمكننا سماع أنين الجرحى وصراخ المحتضرين من بعيد." نظر إلي بدهشة كبيرة في ذلك الوقت، ولكن منذ ذلك الحين لاحظت أنه بدأ يدرك شيئاً كان خافياً عليه من قبل.

ندرك جميعاً أن العديد من السكان الاصليين يتساءلون كيف يمكن أن يقوم البيض، الذين جلبوا لهم إنجيل الحب، بقتل بعضهم البعض الآن، ويتجاهلون أوامر السيد المسيح. عندما يطرحون علينا هذا السؤال، نشعر بالعجز. إذا سألني أحد السود المفكرين عن هذا الموضوع، لا أحاول تفسير الأمر أو تبريره، بل أقول إننا أمام شيء رهيب وغير مفهوم.

وإلى أي مدى تضررت السلطة الأخلاقية والدينية للرجل الأبيض بين أبناء الطبيعة هؤلاء بسبب هذه الحرب، سنتمكن فقط من قياس الضرر لاحقًا. وأخشى أن يكون الضرر كبيراً جداً.

أحرص في منزلي، على أن يعلم السود أقل قدر ممكن عن أهوال الحرب، لذلك لا أترك الجرائد المصورة التي نتلقاها مبعثرة في المكان- لأن البريد بدأ يعمل مرة أخرى بشكل منتظم - خوفًا من أن يقرأها الأولاد الذين يستطيعون القراءة، وينقلون محتواها للآخرين.

وفي الوقت نفسه، كان يستمر العمل الطبي كالمعتاد. كل صباح عندما أذهب إلى المستشفى، أشعر برحمة لا توصف بأنني، بينما يجد الكثير من الرجال أن من واجبهم إلحاق المعاناة والموت بالآخرين، أستطيع أنا أن أفعل الخير وأساعد في إنقاذ الأرواح، هذا الشعور ينتابني خلال كل ما شعرت بتعب أو إرهاق.

كانت آخر سفينة غادرت أوروبا قبل إعلان الحرب؛ قد جلبت لي عدة صناديق من الأدوية وصندوقين من الضمادات، كان الأخير هدية من سيدة خيّرة، بحيث أصبح لدي الآن ما يكفي لتشغيل المستشفى لعدة أشهر. البضائع المخصصة لأفريقيا التي لم ترسلها هذه السفينة ما زالت مكدسة في أرصفة هافر وبوردو. من يدري متى ستصل، أو ما إذا كانت ستصل هنا على الإطلاق؟

· الأفيال
أنا الآن شديد القلق بشأن توفير الطعام للمرضى، حيث يوجد شيء يشبه المجاعة في المنطقة - بسبب الأفيال! الناس في أوروبا يتخيلون عادةً أنه حيثما تأتي "الحضارة"، تبدأ الحيوانات البرية في الإنقراض. قد يكون هذا هو الحال في العديد من المناطق، لكن في مناطق أخرى يحدث العكس تماماً، وذلك لثلاثة أسباب.
· أولاً، إذا انخفض عدد السكان المحليين، كما يحدث غالباً، فإن الصيد يقل.

· ثانياً، الصيد الذي يتم يصبح أقل نجاحاً، لأن السكان المحليين قد نسوا كيفية اصطياد الحيوانات بطرقهم البدائية وغالباً ما كانت طرقاً ذكية جداً، وتعودوا الآن على اصطيادها بالأسلحة النارية. ولكن نظراً للاحتمالات المستقبلية، كانت سياسة جميع الحكومات في أفريقيا الإستوائية لسنوات أن تسمح للسكان المحليين بكميات صغيرة فقط من البارود؛ ولا يمكنهم امتلاك بنادق صيد حديثة، بل فقط يمكنهم امتلاك البنادق القديمة.

· ثالثاً، تتم الحرب على الحيوانات البرية بجهد أقل بكثير لأن السكان المحليين لم يعد لديهم الوقت لتكريسه للصيد.

يكسب السكان الآن أموالًا أكثر في قطع الأخشاب والطوافات أكثر مما كان يجنونه من الصيد، لذلك تزدهر الأفيال وتزداد أعدادها تقريباً دون عائق، ونحن الآن بدأنا نحس نتائج ذلك. فمزارع الموز في القرى الواقعة شمال غرب هذا المكان، والتي توفر لنا الكثير من غذائنا، اصبحت تُزار باستمرار من قبل الأفيال. وعشرون من هذه الكائنات تكفي لتدمير مزرعة كاملة في ليلة واحدة، وما لا تأكله تدوسه تحت أقدامها.

ومع ذلك، لا يقتصر خطر الأفيال على المزارع فقط. فخط التلغراف من نجوكي إلى الداخل يعرف شيئاً عن الأضرار التي تسببها الأفيال. إن المساحة الطويلة والمستقيمة التي تخترق الغابة والتي تحدد مسار الخط تعتبر جاذبية هائلة لهذه الحيوانات، ولكن الأعمدة المستقيمة والناعمة للتيليغراف لا تقاوم قوة الافيال. ويبدو لها كأن هذه الأعمدة قد وُضعت خصيصاً لاجلها لتستخدمها لفرك جلودها! وليست جميع الأعمدة قوية، وقليل من الفرك يمكن أن يسقط أحد الأعمدة الضعيفة، ولكن دائمًا ما يكون هناك عمود آخر قريب. وهكذا، في ليلة واحدة يمكن لفيل قوي أن يسقط جزءاً كبيراً من خط التلغراف، وقد تمر أيام قبل أن يكتشف حراس المحطة القريبة الضرر ويقومون بإصلاحه.

رغم أن الأفيال التي تجوب المنطقة تسبب لي قلقًا كبيرًا بشأن توفير الطعام لمرضاي، إلا أنني لم أرَ فيلًا حتى الآن، وربما لن أرى ذلك أبدًا. فخلال النهار تبقى في المستنقعات التي لا يمكن الوصول إليها، لتخرج ليلاً وتنهب المزارع التي سبق أن استطلعتها في النهار.
جاءني رجل من السكان المحليين لعلاج زوجته التي تعاني من مرض في القلب، وهو نحات خشب ماهر، وقد نحت لي فيلًا. رغم أنني أعجبت بهذا العمل الفني البدائي، إلا أنني علقت على أنه يبدو أن الجسم لم يكن دقيقًاً تماماً. شعر الفنان، بالإهانة، وهز كتفيه وقال: "هل تظن أنك تستطيع أن تعلمني كيف يبدو الفيل؟ لقد كان واحدًا فوقي، يحاول أن يدوسني." في الواقع، كان الفنان أيضاً صياد أفيالٍ مشهور. طريقتهم في الصيد الآن هي الخروج نهاراً والزحف إلى مسافة عشر خطوات من الفيل، ثم يطلقون عليه النار من بنادقهم القديمة. فإذا لم تكن الطلقة قاتلة واكتشفهم الحيوان، فإنهم بالطبع يكونون في موقف صعب للغاية.

كنت حتى ذلك الوقت أتمكن من توفير الغذاء لمرضاي بالأرز في حال نقص الموز، لكن لم يعد بإمكاني فعل ذلك بعد الآن، فما تبقى لدينا يجب أن نحتفظ به لأنفسنا، لأن إمكانية الحصول على المزيد من أوروبا أصبح أمراً مشكوكاً فيه.

aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء