على حافة الهاوية

 


 

عادل الباز
22 October, 2009

 

عادل الباز

 

 

لايزال شريكا الحكم يمارسان لعبتهما القديمة التي أدمنّاها أيام نيفاشا. لعبتهما المفضلة هي التوصل لاتفاق على حافة الهاوية. فحين تصل الأمور إلى حافتها القصوى وتكاد تنهار، يبرز حل ما، يقبله الجميع مكرهين.

في مجاكوس كانت المفاوضات قد وصلت لطريق مسدود، وكان الجميع قد تهيأوا لمغادرة المدينة وخاصة أعضاء الحركة الشعبية الذين كانوا زاهدين أيامها في الدخول إلى عملية سلام جدّية. وكانت الخرطوم تراقب اجتماعا عاصفا للمكتب القيادي للمؤتمر الوطني، وكان غازي صلاح الدين على الخط الآخر في مجاكوس ينتظر القرار، وجاء القرار من الرئيس في كلمتين (على بركة الله). وأنقذت المفاوضات، وبالتالي الاتفاق الذي مهّد لنيفاشا.

كنتُ عاصرت بعضا من أيام نيفاشا وقصصها وحكاياتها، ولازلت أذكر يوم شاهدتُ أعضاء وفد الحكومة يحزمون حقائبهم بسرعة متناهية متجهين صوب بوابة نيفاشا، ورتل عربات في انتظارهم. كانت الأوضاع يومها قد تعقّدت وتصلّب كل طرف عند موقفه، وجاءنا من يعلن أن المفاوضات انهارت، وأن الوفد الحكومي سيغادر الآن مقر المفاوضات متجها للخرطوم. في تلك اللحظة الأخيرة وصل وفد أمريكي إلى نيفاشا وفي حقائبه مساومة جديدة حول موضوع أبيي، لم تكن المساومة أفضل من الأفكار التي طُرحت أثناء التفاوض، ولكن لأن الجميع كان يبحث عن مخرج في اللحظات الحرجة، تمّ قبول المقترح الأمريكي الذي أفضى في النهاية إلى تعقيدات جديدة لم تحسمها إلا محكمة لاهاي مؤخرا، بعد أن بلغت القلوب الحناجر.

 في يوم مضطرب من أيام نيفاشا تم إيقاظنا بواسطة السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية محجوب فضل بدري "الله يطراهو بالخير" منتصف الليل، معلنا انهيار مفاوضات نيفاشا. وسارع الجميع الى صحفهم معلنين الخبر، ولكنّي آثرت التريث، إذ أنّ لي فكرة عن ألاعيب المفاوضات والمفاوضين، وفي اليوم التالي خرجت الصحف بالخديعة التفاوضية، وخرجت جريدة الصحافة بالتأكيد على تواصل المفاوضات، وبالفعل كان أن استمرت المفاوضات صباح ذلك اليوم بنيفاشا.

انتهت نيفاشا بخيرها وشرها ولكن الألاعيب التي أدمنها الشريكان لم تنتهِ بعد، حتى غدت حكومة الوحدة الوطنية هي خيمة التفاوض الدائم بين الشريكين. منذ تكوينها الأول لقد وقفت الساحة السياسية كلها تراقب. الصراع المرير بين الشريكين حول وزارة النفط التي كادت أن تنسف نيفاشا نفسها، وبدأت جولات من التفاوض على كل التفاصيل التي لم تحسمها نيفاشا، أو تلك التي تركتها بين بين. لاشيء لم يتم إعادة التفاوض في تفاصيله مرة أخرى.

كانت أبيي أشدّ المحطات عصفا بنيفاشا، فعقب تقرير الخبراء دخلت العلاقة بين الشريكين في أشدّ أنفاقها إظلاما، واندلعت بالفعل حرب محدودة. وقف الشريكان بالفعل على حافة هاوية مميتة. حُلت الأزمة أخيرا عبر بوابة ما عُرف بالمصفوفة.

الآن يستمر ذات السيناريو على أكثر من جبهة، ولاتزال مفاوضات الشريكين تواصل عروضها على مسارح الخرطوم جوبا وواشنطن. المفاوضات على تفاصيل ماتم التفاوض والاتفاق حوله في نيفاشا. شيطان التفاصيل الذي سكن اتفاق السلام الشامل لم يزل يعبث به ولم يزل الشريكان يرهفان السمع إليه.. الآن يكمن شيطان وراء قضيتين هما الإحصاء والاستفتاء. التفاوض حولهما كعادة الشريكين يتعثر، والشريكان يشعران بأن الزمن لايزال متوفرا للمناورات، وينتظران محطتهما الأخيرة (حافة الهاوية) للتوصل لاتفاق.

المعضلة التي نحن بصددها الآن أن الزمن لم يعد كافيا، والأجندة التي يتقاسمها الشريكان تحدد مصير وطن لا الشريكين وحدهما. التعقيدات التي ستترتب على إضاعة الوقت بالغة الخطر، فالانتخابات ستتعقد ترتيباتها ولن يحلم الجنوبيون بتقرير مصير على الأقل في 2011 إلا إذا قرروا أن ينفردوا بقرار تقرير المصير بعيدا عن نيفاشا. الشريكان والإقليم والعالم كله يدرك أن البديل للانتخابات إذا لم يتم التوصل لقرار توافقي بتأجيلها أو إلغائها هو الحرب، وهي حرب لن تتوقف عند حدود الجنوب بل ستعبرها، وقد تمتد الى داخل السودان. السيناريو المتوقع خطير ومدمّر، وأول من يعلم بخطورة ما ستؤول إليه الأوضاع في البلاد هما الشريكان، ولكنهما رغم ذلك يمارسان لعبتهما في الوصول لحافة الهاوية ليتوصلا لاتفاق، ولكن ليس في كل مره تسلم الجرّة، وخاصة إذا توترت الأوضاع، وتوفر السلاح وتدفق في الأيادي، وجرت الاستعدادات اللازمة للحرب، وتوفر للحريق كل المواد القابلة للانفجار، ولم يبق إلا عود الثقاب. وهل تخلو البلاد من أعواد الثقاب وهي التي أُتخمت بالحركات المسلحة وشُحنت بالضغائن والأحقاد الإثنية والجهوية؟.

 

آراء