على طاولة نيويورك … بقلم: عادل الباز
الآن يعزف العالم، والإعلام العالمي نغمة واحدة؛ وهي الاستفتاء في موعده!! وهذه المعزوفة هي معزوفة الخلاص الوطني للجنوبيين الانفصاليين. ولكن مَن منّا لايؤيّد الاستفتاء في موعده؟. من لم يؤيد ذلك سينضم لطابور خونة المواثيق والعهود الشهير الذي ألّفه مولانا أبيل ألير أطال الله عمره. «تاريخ الاستفتاء مقدّس» هذه آخر تصريحات سلفاكير، ولكن كيف السبيل لذلك؟.
الإعلام العالمي لايسأل عن كيف هذه، وليس له الإلمام الكافي بتعقيدات قضايا السودان الداخلية، ويحاول أن يضع الأجندة بغضّ النظر عن حيثيات الموضوع، ولا علم له بالتفاصيل، ولاتهمه، المهم أنه يسعى لترتيب الأجندة وفق معزوفة الخلاص؛ وهي كالآتي: الاستفتاء في موعده، ومن ثمّ قيام الدولة، ولا يهم بعد ذلك ما يجري!!.
الترتيب الصحيح للأجندة هو أن تطوى الملفات العالقة قبل الاستفتاء، ثم يجري الاستفتاء في جو صحي حر ونزيه. صحيح أنه ليس بالإمكان الحديث عن طي كل الملفات لأن ذلك مستحيلاً في ما تبقى من وقت، ولكن هنالك قضايا ستقود مباشرة للحرب إذا قامت الدولة ولم يتم تسويتها. وهي في تقديري ثلاث قضايا أساسية: الأولى تتعلق بالحدود، والثانية بالنفط، والثالثة بالجنسية. هنالك قضايا أخرى يمكن أن يتم التعامل معها في ظل قيام دولة منفصلة بالجنوب؛ وهي قضايا ليست مستعجلة، مثل قضية الديون وغيرها. لو أنّ الحركة الشعبية حريصة على قيام دولة في الجنوب تحظى باعتراف الشمال والعالم، لابد أن تحرص على طي هذه الملفات، لأنها على الأقل تجنّب دولتها الحديثة المرتجاة مخاطر الإجهاض حالما دخلت في حروب متطاولة مع جيرانها الجدد.
الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني على معرفة بمواقف بعضهما من كل القضايا العالقة، ولكن للأسف رغم اللجان التي تجتمع وتنفض، عجز الطرفان عن التوصل لأي تقدم في كل الملفات العالقة. الحركة الشعبية تسعى لعدم التفريط في المناطق الحدودية الغنية بالمعادن في كافيا كنجي وغيرها، إضافة لسعيها للاحتفاظ بأبيي بادّعاء أن التصويت في هذه المنطقة يحق لدينكا نقوك فقط، وليس لقبيلة المسيرية حق التصويت. في قضية الجنسية تدعو الحركة الشعبية أن تُمنح الجنسية المزدوجة للطرفين. الشماليون بالجنوب تعهد السيد سلفاكير بحمايتهم أمس، وكذلك يمنح الجنوبيون في الشمال حق المواطنة. المؤتمر الوطني يرى أن قضية الجنسية ليس هذا أوان حسمها، وليست من أولوياته، وهذا الموقف يستبطن أجندة ضاغطة على الحركة الشعبية التي تحاصرها التساؤلات الآن حول مصير مليوني مواطن جنوبي في الشمال، لا هي قادرة على إعادتهم للجنوب دون مقوّمات للحياة هناك، وفي نفس الوقت تتخوف من بقائهم بالشمال، خاصة في وقت الاستفتاء، ولكن الأهم من ذلك وجود احتمال لترحيل الجنوبيين من الشمال حال التصويت على الانفصال. في تقديري إن فكرة ترحيل الجنوبيين من الشمال غير إنسانية أصلاً، ولا يمكن لها أن تتحقق أبداً، ولن يقدم عليها الوطني، وهي في تقديري كرت ضغط بجيْب المؤتمر الوطني يحتفظ به لآخر وقت في لعبة شد الحبل هذه. لكن مجرد وجود فكرة كهذه، تضغط على أعصاب الحركة الشعبية التي لا تجد لها إجابة تطمئن الجنوبيين القلقين الذين رتبوا حياتهم وحياة أسرهم في الشمال.
في موضوع النفط يتشدد مفاوضو المؤتمر الوطني أكثر في حق الشمال في حقول النفط بأبيي بالكامل، والذي أعطته لهم محكمة لاهاي التي أقرّت بحق الشمال في أغلب حقول النفط بأبيي. ولكن المشكلة الآن أن قرارات لاهاي أصبحت حبراً على ورق لا يعترف بها دينكا نقوك ولا المسيرية. هذا ما دعا الفريق قوش للدعوة لإعادة التفاوض حول موضوع أبيي. المؤتمر الوطني غير مستعد للتنازل عن شبر واحد من الشمال لصالح الحركة الشعبية، ولا يرى أنّ هنالك ما يدعوه لذلك أصلاً، ولن يسمح أن يكتب في تاريخه أنه فرّط في الجنوب، ثم فرّط في حدود الشمال التي أقرّها الاستعمار في العام 1956. المؤتمر الوطني غير متشدد في قضية النفط، إذ أنه أعلن أكثر من مرة أنّ قضية الوحدة لا تتعلق بالنفط، وهو مطمئن لقوة موقفه هذا بسبب سيطرته على كل مخارج النفط ومصافي التكرار وميناء التصدير، وبإمكانه أن يفاوض على شروط مجزية.
هذه الملفات الثلاثة العالقة الآن على طاولة التفاوض في نيويورك، ومن المؤكد أن الرئيس أوباما سيقدم الحوافز للطرفين ليمكنهما من تجاوز عقبات التفاوض، وفي ذات الوقت ستظل العصا مرفوعة على رأس المؤتمر الوطني فقط، وهذا ما يدفع الحركة الشعبية للتصلّب في مواقفها، والامتناع عن تقديم التنازلات المطلوبة أو إبداء المرونة اللازمة. الحركة تخطئ إذا ظنت أن المجمتع الدولي أو أمريكا ستحسم لها معركتها الداخلية. على الحركة الشعبية الموازنة بين مصالح آنية ومصالح استراتيجية، ففي مثل هذه الأوقات واللحظات الحرجة أخطاء الحسابات السياسية تتحول لخطايا مميتة.