عمو .. لو سمحت حق الفطور ؟ !
عمود سطر جديد – الصحافة – السبت 3 /12 /2011
قبل بضعة أيام والبرد القارس يلفح الوجوه والأبدان إستوقفتنى طفلة صغيرة لا تتجاوز الثامنة من عمرها فى ساعات الصباح الباكر وأنا أهم بإنزال طفلتى الصغيرة فى مدرستها . الطفلة كانت ترتدى زياً مدرسياً كالحاً ورقيقاً ، تكاد من فرط رقته وأهترائه تبصر ملابسها الداخلية ، وكذلك كانت (الطرحة ) والحقيبة التى بها كراساتها . إقتربت منى بهزالها وضمورها وجسدها كله يرتجف بفعل البرد وهى تقول بصوت خفيض ( عمو .. لو سمحت حق الفطور ؟ ) . لك الله يا بنيتى فى هذا الزمن الموجع الذى لم يرحم طفولتك الغضة وجوعك وعُريك وارتجافة البرد فى جسدك الناحل الهزيل .
ليس من الحصافة أن نلقى بأوزار هذه الأمعاء الصغيرة الجائعة على كاهل الحكومة فهى تجابه مسئوليات ثقال أقلها ذاك الجهد الهائل الذى تبذله فى إغواء أهل السياسة بالمناصب الديكورية والمخصصات المترفة ، وفى الإقتسام و(الختف) و(الخمج) على موائد السلطة العامرة بالأطباق الشهية. وقد كتبت قبل أكثر من عام فى عمود سابق عن طالب فى مرحلة الاساس سقط أثناء الطابور الصباحي مغشياً عليه وحينما أسعفته إدارة المدرسة بصعوبة إلى أقرب مصحة قالوا لهم أنه جوعان يعاني من أنيميا حادة. وكتبت أيضاً عن نتائج دراسة ميدانية قامت بها مجموعة خيرة من أبناء وبنات هذا الوطن قبل بضعة أعوام ، تقول الدراسة أن في كل مدرسة أساس حكومية ما بين 40-60 تلميذ لا يملكون قيمة وجبة الإفطار، هذا في المدرسة التي تحتوي على فصل واحد لكل من المراحل الثمانية، أما في المدارس ذات الفصلين فيرتفع عدد الجوعى من التلاميذ حتى يفوق المائة تلميذ، مع العلم أن هذه الدراسة الميدانية لم تكن في مدارس دارفور أو جنوب كردفان أو النيل الأزرق أو شرق وشمال السودان، بل لم تتم في أطراف العاصمة ومواطن النزوح ولكنها أُجريت في قلب العاصمة المثلثة .. وبالتحديد فى مدينة الخرطوم بحرى.
وقد رصدت الدراسة العامل الذي لديه أربعة أطفال في مدرسة واحدة وهو لا يملك بضع جنيهات لإفطار هؤلاء الأربعة، لذلك يكتفي بمنحهم جنيه واحد ليفطر أحدهم ، ويصوم أو يغيب عن المدرسة الثلاثة الباقون ، هكذا يتداولون هذا (اللوتري الغذائي) فيما بينهم كل يوم. كما أشارت الدراسة الى تعفف تلاميذ وتلميذات الصف الثامن من الجائعين والجائعات ، والذين بحكم نضجهم النسبى يمكثون في فصولهم أثناء فسحة الإفطار ويتظاهرون بمراجعة الدروس إتقاءً للحرج أمام زملائهم ممن يملكون قيمة الساندوتش. وايضاً رصدت المجموعة التى قامت بالدراسة ذاك الطفل الفقير البائس فى السنة الأولى من مرحلة الأساس بمدرسة حكومية وهو يتساءل عن كيفية تقشير البيضة المسلوقة التى قُدمت له لأنه ببساطة لم يقشّر بيضة طوال عمره القصير .
إن هذه البطون الصغيرة الجائعة سينتهى بها الحال خلال بضع سنوات قادمات الى مصائر محزنة وموجعة ... مصائر مثل الدرن والأنيميا أو إحتراف التسول وربما الإنحراف ، بينما أهل الحكم فى شغل فاكهون . إن السياسة كما سبق وكتبنا وكما نفهمها ، ويا لسذاجتنا، هي لقمة لجائع ومدرسة لتلميذ وجرعة دواء لمريض ونسمة حرية.
fadil awadala [fadilview@yahoo.com]