عندما ودعت بارا “العمدة” و”الخليفة” الاسماعيلي محمد البخيت

 


 

 

محمد المكي احمد

 

modalmakki@hotmail.com

  ودعت بارا وأهلها  أصحاب  الوجدان الأخضر  رجلا يحلو لي  وصفه بأنه "رجال في رجل"، إنه  الراحل الكبير بخلقه  وعطائه وانسانيته محمد البخيت عبد القادر المشهور بـ"أرن")بضم الالف والراء).فقيدنا  كان ملء السمع والبصر والعقل والقلب والوجدان، وكيف لا يكون كذلك وهو العمدة والخليفة الاسماعيلي  صاحب القلب الكبير الذي اتسع  لأهله وأحبابه، وللفقراء والبؤساء المحرومين. المدهش أن شخصيته الاجتماعية الروحية والوطنية التي اتسمت  بالشجاعة والكرم ونصرة المحتاج والمظلوم  تميزت أيضا بروح الفكاهة والنكتة، ولهذا وغيره كان "رجالا في رجل"، خاصة انه كان جليسا مع البؤساء ، ممن ابتاسوا  وحزنوا  وداهمتهم  محن  الزمان في وطن يقتات اهله قيم الفضيلة والشهامة والشجاعة، كما يقتاتون المواجع و المعاناة. تميز الراحل الحبيب الذي أحزنني  فراقه، وأوجعني رحيله بصفة مهمة  وهي   المرونة رغم صلابة العود، وعندما يصطرع الناس أحيانا  ويتعافسوا يوما ما  حول قضية من قضاياهم، أو مشكلة من المشكلات كان عنصر وئام ووصال.أذكر في هذا السياق  بكثير من المحبة والتقدير  دور الراحل  العمدة  عندما نشب خلاف في بارا بين المعتمد وبقية أهل المدنية بشأن الامام "مرتضى"، ولا اريد ان أنكأ الجراح، لكنني أكتب للتاريخ والحقيقة.الراحل محمد البخيت كان يتولى  رئاسة  لجنة مسجد بارا العتيق عندما وقع الخلاف حول قرار  المعتمد   الاستاذ  الشريف عباد الذي أدى لعزل امام بارا بسبب انتقاداته للخدمات، كما تم حل  لجنة المسجد وهي لجنة متطوعين لا تسعى  سوى لمرضاة الله وخدمة أهلها.كان دور فقيدنا منحازا لموقف  أهله، وفي تلك لفترة تجلى واتضح أن   الفقيد محمد البخيت رجل  اعتدال  وحكمة ،رغم موقفه الواضح المبدئي الذي انتصر لنبض  الحق والعدل والحرية ، كما انتصر لبارا ، وبذلك سجل تاريخا وطنيا  ناصعا ستذكره الأجيال.رئاسة محمد البخيت عبد القادر للجنة المسجد العتيق  تنطلق من وعي  حضاري وانساني عميق بأهمية العمل التطوعي في خدمة الناس، وكان الراحل محبا  لعمل الخير و سعى لخدمة الناس وبلده وأهله وبارا وكردفان في كل مراحل حياته العامرة بالنشاط وقيم المشاركة الاجتماعية و الوطنية. للانسان أي انسان مشاعر واحاسيس  ومواقف من الناس والاشياء، ولهذا  اقول كان الراحل صديقي رغم فارق العمر، و كان  ايضا صديقا لوالدي الراحل  الخليفة أحمد الأمين الماحي خليفة الاسماعيلية في بارا الذي رحل في ابريل (نيسان) الماضي، وشاءت الاقدار أن يرحل  فقيدنا محمد البخيت في الشهر نفسه أي في ابريل الحالي، إنها دلالات قدر مكتوب.صديقي الحميم الراحل كان صديقي  بالفعل والروح والوجدان والاحترام المتبادل،  وقد تشكلت بيينا آصرة محبة  ومودة دافئة دفء نبضه الانساني على مدى  سنوات عدة، رغم  فارق السن بيننا ، فانا من جيل  ابنته الكبرى سمية  التي خاطبتها هاتفيا  قبل رحيله بيوم واحد، وهو في  منزلها في أم درمان. طلبت منها الحديث اليه  لكن الأمنية لنم تتحقق،  لم يكن ذلك ممكنا، فخاطبتها سريعا وطلبت أن  تبلغه تحياتي ودعائي له بالشفاء وأمنياتي له بالعافية والعمر الطويل لأننا محتاجون لروحه وحبه وانسانيته . أثناء حديثي مع فلذة كبده وهي  ضمن كوكبة من البنين والبنات الأخيار داهمت  حلقي  غصة الم شديد،   وسرى  في القلب وجع  واحساس  بأن العم والصديق في لحظة أقرب الى رحاب الله وأقرب الى  الرحيل من دنيانا الفانية، فسالت دموعي كما هي الآن،  وأنا اكتب هذا المقال بالم ووجع وبكاء عميق  في الدواخل. دعوت  الله ان يبقيه ذخرا لنا ، لأهله ،  لبارا ،  لكردفان، لأسرته الصغيرة والكبيرة ، لكل أحبابه ، لكن بعد رحيله  لا نقول الا ما يرضي الله، وندعو المولى القدير  أن يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء(انا لله وانا اليه راجعون).العمدة محمد البخيت كان خليفة  اسماعيلي رائع ، ومن ابرز الذين  قدموا أنبل  العطاء للطريقة الاسماعيلية .  عاصرته منذ ايام الطفولة والدراسة حتى فترة الجامعة ،  وهو يشكل مع العم الراحل الكبير مكي اسماعيل الاعيسر ثنائيا، فغردا  بأروع المدائح التي كتب قصائدها شيخنا الجليل الكبير مؤسس الطريقة الاسماعيلية اسماعيل الولي. الذين عاصروا تلك الفترة يذكرون الثنائي الرائع "مكي الأعيسر ومحمد البخيت"، خاصة عندما يخرج اهل  النوبه" من بيت جدي الراحل الخليفة الماحي ومن بعده جدي الأمين الماحي وهم  في  طريقهم  الى حيث الموقع التاريخي لاداء صلاة العيد، أو عندما يتألقان في ليلة الأحد في مسيد الخليفة الماحي الذي كان وسيبقى باذن الله مكانا للذكر وتلاوة القرآن وموقعا للتواصل الروحي والانساني الجميل.الفقيدان محمد البخيت عبد القادر  ومكي اسماعيل  الاعيسر أنشدا  أروع المدائح بصوت جميل دافيء هز الكثير من  القلوب  فساهما في تعميق الوجدان الأخضر. من ابداعات ادائهما  مثلا احدى قصائد الشيخ اسماعيل الولي في كتاب" الشطحات".حيث كانا يرددان  بصوتهما المتناغم   قصيدة اشتهرت بقصيدة  "ليلى وسلمى".يا أهل ودي سلوني عما به الروح تصلى فهو الهوى كيف يبلى به المحب ويسلىومن ابياتها ايضا:علمتم بحديثي إذ قلت بالعشق أهليلكن حديثي طويل في حب سلمى وليلىأقول أني اسماعيل الذي اروى قوليأهلا بليلى وسلمى وثم أهلا وسهلا
عندما طلبت من أخي وشقيقي الخليفة المهندس اسماعيل أحمد الأمين   خليفة الاسماعيلية في بارا  أن يذكرني ويمدني بتفاصيل تلك القصيدة رددت على مسامعه شيئا من ذلك المديح بصوتي
.
 قال لي  أنت تذكر كيف كان يمدح العمان الراحلان مكي ومحمد البخيت ، قلت نعم، وكنت  مغرما  ومازلت "بالنوبه" و"الجرس" وليلة الأحد وبكل ما فيها من عبق جميل، فاولئك الرواد بنوا الوجدان الجميل المتجدد الناطق بسماحة الاسلام واعتدال  رواده الاوائل.لم استغرب أن تشيع بارا الراحل محمد البخيت بما يستحق من وداع روحي وايماني وموكب تقدمه "النوبه" وحشد من الناس ،  فقد كان أحد  أبرز  الذين حافظوا على دورها الايماني في زمن لم تكن  للدعوة الى الله أحزاب أومؤسسات كالتي هي موجودة  اليوم، كما حافظ فقيدنا على علاقاته التاريخية مع بيت الخليفة الماحي واهله في احلك الظروف والاوقات، ولهذا وغيره  يستحق  الراحل ومثله  من الرجال الأشاوس التمجيد والتوثيق لأدوارهم، فهم أحياء بأدوارهم وبعطائهم الانساني والديني والاجتماعي.ولا انسى هنا ان اشيد بمواقف رجال وقفوا مواقف نبيلة  قبل نقل الجثمان الى بارا وهم الدكتور عبد السلام صالح عيسى والسيد يونس احمد يونس والفريق الطيب محمد مختار.كان طبيعيا أيضا  أن يتوافد الناس من كل مكان لتقديم العزاء في بارا الى اسرة فقيدنا الحبيب والى أهل بارا،  وعلمت وأنا أتباع هاتفيا  أيام الحزن الممتد  في بارا  أن من تحدثوا في يوم التأبين نوهوا وأشادوا  بخصال الراحل العزيز. هناك  في بارا خاطب المعزين دكتور محمد يعقوب شداد استاذ الهندسة في جامعة الخرطوم والشيخ الصادق جعفر مهدي والاستاذ محمد عبد الودود كرداوي  والاستاذ الشريف عباد معتمد بارا والأستاذ بله ابراهيم الحسن وكان محافظا في بارا في الفترة من عام 91 الى عام 1994، وبدا واضحا أن هذا  الرجل ارتبط   مع أهل بارا وبالراحل بآصرة محبة،  بل جسر تواصل لم ينقطع. لكل هذه الكوكبة ولكل الذين تحدثوا حديث القلب الى القلب عن الفقيد تحية تقدير من بارا كلها ، ومني شخصيا، فهؤلاء الرجال كان القاسم المشترك في نبضهم الحزين الصادق يتمثل في حب الراحل وتقدير حميميته وأداوره ومنها دوره في رئاسة مسجد بارا العتيق .في هذا السياق وجه الأستاذ بله ابراهيم الحسن وهو عضو حاليا في لجنة حزب المؤتمر الوطني  للشؤون الخارجية  تحية عطرة الى أهل بارا عندما لفت الى ريادة أهل بارا في حرق العلم الانجليزي في زمن الاستعمار، مشيرا الى أن بارا أنجبت مبدعين في كل المجالات كميادين السياسة والأدب والفن وغيرها، وكان رائعا أن يشيد بالراحل الكبير الشاذلي الشيخ الريح الذي كان علما بارزا من أعلام المدينة هنا لابد من التحية والدعاء  للراحل ابن بارا الوطني الكبير محمد الحسن عبد الله ياسين الذي خصص احد محاله التجارية في الابيض كوقف لدعم المسجد العتيق كما قال لي الراحل محمد البخيت.التحية أيضا  للأخ الأستاذ الشريف عباد معتمد بارا الذي أوجز في يوم التابين  فابدع وأوفى حين قال إنه "حمامة مسجد وكفى"، هذا كلام معبر ، خاصة أن الراحل كان كما قلت صاحب يد بيضاء في رعاية المسجد العتيق، ولن أنسى اين كان يضع الكرسي داخل المسجد  لأداء الصلاة رغم شدة المرض، ولن أنسى اين كنت ألتقيه في بيته أو بيتنا أو تحت شجرة ظليلة مع صديقة ورفيق دربه العم ميرغني أحمد حاج الشيخ ( أدو)ميرغني (أدو) المعلم الهمام ومربي الأجيال كتب ابيات رثاء وعزاء في وداع محمد البخيت  ومنها:الهي اتاك محمد مستغفرالقراءته لأجزاء من القرآنويقول أيضا ضمن ابيات عدة:فاعل خير لكل من يأتيه من العربانمعروف بيننا كأنه علم في رأسه نارويخاطب (أدو)حبيبه الراحل ويقول:نم مستقرا ابا هشام في جنة الرضوان.وأنا أكتب هذا المقال الأسبوعي نما الى علمي وفاة خليفة من أهل بارا هو الخليفة الختمي محمد حسن ياسين ، وراحلنا الثاني كان انسانا طيبا  محبا للناس   وهاديء الطبع  وقد انجب أبناء وبنات حملوا ذات المشعل والأخلاق ، وهاهو ابن الراحل الأخ السر هو الخليفة  الختمي الجديد الذي حل محل والده لتستمر رايات الخير والحب والايمان والتواصل الانساني الرائع. في بارا التي تتكيء على  الرمال، وتسستيقظ  وتنام على صوت وانين  "السواقي" هناك  قصص  جميلة  عن التعايش والترابط الاجتماعي بين سكان المدينة من كل قبيلة من قبائل الوطن الكبير، وتتجلى تلك المشاهد في الافراح والاتراح ، بوركتم وبورك سعيكم ياأهل "النفير".برقية: عندما يرحل انسان  بنفسجي المعدن تستمر ذكراه العطرة، لأنه حلو  المعشر وصاحب صلات جميلة وعطر فواح، وهو أيضا  أجمل بكثرة جمائله.                                                               عن  صحيفة (الأحداث)   

 

آراء