عن الحرب والإبادة الجماعية .. أحكي لكم
عمر الحويج
14 July, 2023
14 July, 2023
لم أعد حياً.. لكني أتنفس:-
قصة قصيرة: 2014 م
باغتنا الإنفجار ، جاءنا.. مدوياً ، من فوقنا . جاءنا .. عابراً سماءنا ، تلك التي ظلت .. تظلل صفاءنا ، جاءنا مخترقاً جبالنا ، تلك التي أبداً ، كانت .. أماننا و حِمانا.
حينها .. تحولت قريتنا ، الوادعة ، إلي كتل من اللهب ، والنيران ، والدخان .. تلتها ، لا بل رافقتها ، زخات من المطر الرصاص ، المنهمر علينا ، من كل أنواع الأسلحة ، الخفيف منها ، و الثقيل .. أحاطنا من جميع أركاننا ، من أمامنا ، من خلفنا .. من يميننا ، من يسارنا ، أما من تحتنا ، فقد اهتزت ، بنا الأرض ومادت ، وكأنها زلزلت زلزالا ، رجّتها أصوات الدبابات وحركتها الضاجة ، حين أخذت ، تخبط خبط عشواء ، في أرضنا.. في مساكننا.. في البشر والناس .. و حتى قطعاننا وطيرنا وأنعامنا .
إلا ، أنا.. وجدتني ، مازلت حياً .. أتنفس..!!
بدأت أتحسس ما حولي ، ببصري .. لا أري ، غير الدخان ، وألسنة النيران واللهب ، كما لا أسمع ، غير ضجيج الدبابات وهديرها ، وهي تجوب المكان هنا وهناك.. مسرعة .
لا أدري ، ما هو فاصل الزمن ، بين بداية الانفجار الأول .. وما تلاه . ولكني وجدت نفسي ، في الحالة الأخيرة ، التي كنت عليها ، حين حملني ، أحفادي الأربعة ، على ظهر ، نقّالتي الخشبية . المتآكلة بفعل الزمن، وثِقل الجسد ، والتي صنعوها، خصيصاً لحركتي اليومية ، خاصة من قُطّيتي .. سكني إلي حيث شجرتي الظليلة ، و التي تحتويني ، تحت ظلالها ، طيلة نهاري ، وبعض ليلي .
وحتماً .. أن شجرتي الظليلة ، هي التي حمتني .. أو ربما هي كذلك . وأبقتني حياً ، بعد كل ما حدث .. وما يزال . وأنا الحي كميت منذ زمان مضى .. بعيد ، حين أصابني ذلك البلاء ، الذي شل كامل جسدي ، عن الحركة ، وترك لي فقط ، بعض من حواسي : عيناي .. اللتان ظلتا ، تخترقان بعض الضوء .. إلا قليلاً. وسمعي .. دون لساني .. وقلبي الذي يخفق .
وهكذا ، أنا .. وجدتني .. ما زلت حياً .. أتنفس ..!!
إلا أن شجرتي الظليلة ، والتي حمتني .. أو ربما هي كذلك . وأبقتني حياً . لم تستطع أن تحمي الآخرين . فهاأنذا ، قد طال انتظاري ، ولم يأت أحدو ، من أهلي ، حتى الآن ، ليتفقدني .. كما عودوني .
وأنا .. لا زلت ، لا أرى أمامي ، سوى الدخان .. والفضاء ، حالك السواد ، بعيني الغائمتين . فقط يخترق أذني ، ذلك الهدير الآتي ، من هياج الدبابات وما يلحق بها ، من الآليات العسكرية ، التي أعرفها جيداً ، وأكاد أحدد ، أنواعها .. فقط ، من صوت ، تحرك عجلاتها . ففي زمان مضى .. بعيد ، عملت جندياً ، بعد تجوالي ، في العديد من المهن، السفلى منها والأسفل . أذكر في ذلك العهد .. البعيد ، كانوا أيضاً يدفعون بنا دفعاً ، لاقتحام القرى والمدن . لنقتل ونحرق ، في تلك الأنحاء البعيدة .. كبعدنا الآن ، عن هؤلاء الذين جاءوا ، لحرقنا وقتلنا .. لماذا ؟؟ . لست أدري . ما أدريه الآن فقط ، أن كل ما حولي ، أضحى هامداً خامداً .. ومتلاشياً . أين يا ترى ، إختفى نبض قريتي ، الذي كان يحتويني ، رغم عجزي وقلة حيلتي ، بدفئه وحنيته وحنينه ، أين أهلي؟.. أين ناسي؟ أين حتى ، قطعاننا وطيورنا وأنعامنا ؟. فانا لا أسمع لها : خواراً أو صهيلاً ، نهيقاً أو نقيقاً . ولكني الآن أسمع .. لقد أتتني ، أصوات أقدام ، تتقدم نحوي ، بخطوات منتظمة، وأخرى مهرولة .. بل بدأت ، أسمع أصوات أصحابها ، يتصايحون .. يتجادلون .. يأمر بعضهم ، ويأتمر البعض الآخر .. عرفتهم ، من أصواتهم .. عرفتهم ، من لسانهم .. الذي به ينطقون ، نعم عرفتهم . لقد عذبني ، هذا اللسان كثيراً : إبني الصغير ، أصغر أبنائي .. في ذلك الزمن .. البعيد . يوم عمّت الفوضى ، تلك المدينة الكبيرة .. وحين استعادوها – من المتمردين– كما كانوا يقولون . أخذوا .. يبحثون ، يفتشون ، ينقبون: في الشوارع ، في البيوت، في الدّواخل، وفي النفوس ، في سحنات الناس ، وفي ألوانهم . وفي الطريق العام ، كان إبني يسير .. حين أوقفوه ، عن اسمه .. سألوه . حين سمعوه أخذوه .. ثم قتلوه . في ذات الطريق العام .. قتلوه . أنا عرفت.. فيما بعد .. أنا عرفت . إبني قتله لسانه.. ولم يقتله سلاحه . والآن .. لا أنا ، ولا أهلي وناسي ، نملك سلاحنا ، وإن كنا نملك لساننا ، وكذلك أحفادي . ولكن أين هم الآن . لماذا لم يأتوا، ليتفقدوني كعادتهم .. أثار تعجبي منهم . وأندهاشي . أنهم في الأيام الأخيرة ، وبغير عادتهم وجدتهم ، يتحلَّقون حولي ، تحت ظل ، شجرتي الظليلة. أسعدوني بوجودهم قربي ، ولكنهم أحزنوني بحواراتهم ، فعن طريقهم ، عرفت الحرب ، التي تدور حولنا ، عرفت بسببها.. أغلقت مدارسهم – وعرفت حينها سبب تحلقهم حولي – عرفت منهم ، أن الناس هناك ، يهربون من قراهم ، إلى الكهوف ، في جبالهم.
ما أدمى قلبى ، أن إثنان من أكبر أبنائي ، قد التحقا بها – تلك اللعينة – ما أدمى قلبى أكثر ، أن أحدهم ، يحارب في جانب ، والآخر في الجانب المقابل . وما أدمى قلبى ، أكثر وأكثر ، أن إثنان من أحفادي ، تعاركا أمامي، كُل منهم .. دفاعاً عن والده . وأنا العاجز أصلاً ، وجدتني عاجزٌ عن الفهم ، وعاجزٌ أكثر ، عن وقف عِراكهما أمامي ، فقط .. ما قدرني عجزي عليه ، أن دمعت عيناي ، كما الآن .. فقد دمعت عيناي ، لهذا الذي مر بخاطري ، حتى غامتا ، ولم تريا ، أصحاب تلك الأقدام ، التي أخذت تحوم حولي ، بل تتقدم نحوي ، أراهم الآن .. ينحني أربعة منهم ، تقبض أياديهم على أركان ، نقالتي الخشبية .. المتآكلة بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، أحسست بعدها ، بارتفاعي المفاجئ عن الأرض ، بعنف لم أعهده في أحفادي ، حين يحملونني برفق ، ليتحركوا بي ، من موقع لآخر . وبعنف أقوى .. مشوا بي ، إلي أين؟.. لست أدري ، فقط مشوا بي ، ثم مشوا . ثم فجأة توقفوا ، ودون انتظار ، دون إنذار ، أطلق أربَعتَّهم ، سراح أيديهم ، من أركان ، نقّالتي الخشبية.. المتآكلة بفعل الزمن ، وثِقَّل الجسد ، وبعنفٍ .. تركوني إرتطم بالأرض ، وقبل أن أفيق قليلاً ، انحنى إثنان منهم ، ومن جانب واحد ، من نقّالتي الخشبية ، دفعا بي إلى أسفل .. ولكن دون نقالتي الخشبية !!. ووجدتني داخل حفرة ، وإن لم تكن عميقة ، لسرعة وصولي .. قاعها ، وحين أفقت .
وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس..!!
وبدأت أتبين ما حولي . أجساد محترقة ، إنهم أهلي .. ناسي . هؤلاء الأربعة .. إنهم أحفادي ، عرفتهم .. بإحساسي عرفتهم ببصيرتي . إثنان منهما ، متلاصقان .. متماسكان ، يحضنان بعضهما ، هل يا ترى كانا يتصافحان ، أم كانا يواصلان عراكهما .. لست أدري !!. ما أدريه فقط الآن ، أن نظري وقع ، على جسد آخر . إنها زوجة حفيدي : صغير السن .. صغيرة السن ، وهي بكامل زينتها . تزوجها حفيدي ، قبل عام مضى ، أقام لهما والده حفل زواج ، ظل حديث قريتنا زماناً طويلاً ، رقص فيه الشباب .. فتياناً وفتيات ، كما لم يرقصوا من قبل ، إستدعوا فيه ، كل موروثاتهم المتنوعة .. رقصاً وغناءً . فقد كانت زوجته من قبيلة مجاورة . ولكن .. ما أرى؟.. إنها دماء ، دماء على ساقيها ، دماء على فخذيها .. يا الهي .. لقد أتوها ، حتماً أتوها إغتصبوها .. ولكني لا أدري .. إن كان أتوها ، قبل موتها .. أم بعد موتها
.. أتوها. ظللت طيلة سنوات عجزي ، بالنية داخلي .. أصلّي . الآن .. على صباها أصلّي . وأنا أصلّي .. أتاني من خلفي أنين ، إنه أنين طفلة ، تيقنت منه ، إنه منبعث ، من إبنة حفيدتي .. آخر عهدي بها ، ذاك النهار ، جاءتني .. وتحت ظل شجرتي الظليلة ، علي الأرض ، جلست تحفر ، بأظافرها الرقيقة .. اذكرها ، حين التفتت نحوي ، نادتني : جدي.. جدي.. " أنا جعانة ".. أخذني منها ، صوت آخر ، إنه هدير جرّافة ، أعرفها هذه الجرّافة ، عملت عليها أيام الجندية ، دائماً جاهزة ، هذه الجرّافة.. للحفر والردم .
مالهم هؤلاء الناس !!.. هل سيدفنوننا ، بهكذا عجلة !! .
تذكرت أجدادي .. في ذلك الزمن البعيد ، يحكون .. أن مواراة الميت الثرى عندهم ، تستغرق أياماً بلياليها ، يعدون حفرة الدفن ، بمرقدها .. يتوسدها الميت ، يحيطونه ببعض ، مقتنياته الثمينة . أما هؤلاء .. فما اعجلهم !! .
أسمعها .. الجرّافة ، تتحرك .. تملأ جوفها ، بالرمل والحصى والتراب .. تتقدم نحونا ،
ولا يزال أنين حفيدتي يأتيني من خلفي ، والجرّافة تُفرِغ ما بجوفها ، في حفرتنا .. فيسكت الأنين . أصرخ أنا من داخلي.. يا هؤلاء: هل جئتم تسكتون جوع حفيدتي، أم جئتم تسكتون أنينها..؟؟
وعادت الجرّافة مرة اخرى ، بعد أن ملأت جوفها .. بالرمل والحصى والتراب .. وأفرغت حمولتها في حفرتنا ، وبعدها .. لم أعد أرى !!.
ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً.. أتنفس ..!!
وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب .. وقبل أن تُفرِغ حمولتها ، صحت بكل قوتي ، ومن داخلي مرة اخرى .. أمهلني يا هذا حتى .. أتشهد !!. ولكنه .. لن يسمعني .. لم يسمعني . بل سمعته أنا.. يردد: "وقتلاهم في النار" .
ثم أفرغ حمولته ، في حفرتنا .
وبعدها .. لم أعد أسمع !!.
ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس ..!!
وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب .. وأفرغت ما في جوفها ، في حفرتنا .
وبعدها.. لم أعد حياً !! .
ولكني .. وجدتني ، ما زلت.. أتنفس !!.
***
omeralhiwaig441@gmail.com
////////////////////
قصة قصيرة: 2014 م
باغتنا الإنفجار ، جاءنا.. مدوياً ، من فوقنا . جاءنا .. عابراً سماءنا ، تلك التي ظلت .. تظلل صفاءنا ، جاءنا مخترقاً جبالنا ، تلك التي أبداً ، كانت .. أماننا و حِمانا.
حينها .. تحولت قريتنا ، الوادعة ، إلي كتل من اللهب ، والنيران ، والدخان .. تلتها ، لا بل رافقتها ، زخات من المطر الرصاص ، المنهمر علينا ، من كل أنواع الأسلحة ، الخفيف منها ، و الثقيل .. أحاطنا من جميع أركاننا ، من أمامنا ، من خلفنا .. من يميننا ، من يسارنا ، أما من تحتنا ، فقد اهتزت ، بنا الأرض ومادت ، وكأنها زلزلت زلزالا ، رجّتها أصوات الدبابات وحركتها الضاجة ، حين أخذت ، تخبط خبط عشواء ، في أرضنا.. في مساكننا.. في البشر والناس .. و حتى قطعاننا وطيرنا وأنعامنا .
إلا ، أنا.. وجدتني ، مازلت حياً .. أتنفس..!!
بدأت أتحسس ما حولي ، ببصري .. لا أري ، غير الدخان ، وألسنة النيران واللهب ، كما لا أسمع ، غير ضجيج الدبابات وهديرها ، وهي تجوب المكان هنا وهناك.. مسرعة .
لا أدري ، ما هو فاصل الزمن ، بين بداية الانفجار الأول .. وما تلاه . ولكني وجدت نفسي ، في الحالة الأخيرة ، التي كنت عليها ، حين حملني ، أحفادي الأربعة ، على ظهر ، نقّالتي الخشبية . المتآكلة بفعل الزمن، وثِقل الجسد ، والتي صنعوها، خصيصاً لحركتي اليومية ، خاصة من قُطّيتي .. سكني إلي حيث شجرتي الظليلة ، و التي تحتويني ، تحت ظلالها ، طيلة نهاري ، وبعض ليلي .
وحتماً .. أن شجرتي الظليلة ، هي التي حمتني .. أو ربما هي كذلك . وأبقتني حياً ، بعد كل ما حدث .. وما يزال . وأنا الحي كميت منذ زمان مضى .. بعيد ، حين أصابني ذلك البلاء ، الذي شل كامل جسدي ، عن الحركة ، وترك لي فقط ، بعض من حواسي : عيناي .. اللتان ظلتا ، تخترقان بعض الضوء .. إلا قليلاً. وسمعي .. دون لساني .. وقلبي الذي يخفق .
وهكذا ، أنا .. وجدتني .. ما زلت حياً .. أتنفس ..!!
إلا أن شجرتي الظليلة ، والتي حمتني .. أو ربما هي كذلك . وأبقتني حياً . لم تستطع أن تحمي الآخرين . فهاأنذا ، قد طال انتظاري ، ولم يأت أحدو ، من أهلي ، حتى الآن ، ليتفقدني .. كما عودوني .
وأنا .. لا زلت ، لا أرى أمامي ، سوى الدخان .. والفضاء ، حالك السواد ، بعيني الغائمتين . فقط يخترق أذني ، ذلك الهدير الآتي ، من هياج الدبابات وما يلحق بها ، من الآليات العسكرية ، التي أعرفها جيداً ، وأكاد أحدد ، أنواعها .. فقط ، من صوت ، تحرك عجلاتها . ففي زمان مضى .. بعيد ، عملت جندياً ، بعد تجوالي ، في العديد من المهن، السفلى منها والأسفل . أذكر في ذلك العهد .. البعيد ، كانوا أيضاً يدفعون بنا دفعاً ، لاقتحام القرى والمدن . لنقتل ونحرق ، في تلك الأنحاء البعيدة .. كبعدنا الآن ، عن هؤلاء الذين جاءوا ، لحرقنا وقتلنا .. لماذا ؟؟ . لست أدري . ما أدريه الآن فقط ، أن كل ما حولي ، أضحى هامداً خامداً .. ومتلاشياً . أين يا ترى ، إختفى نبض قريتي ، الذي كان يحتويني ، رغم عجزي وقلة حيلتي ، بدفئه وحنيته وحنينه ، أين أهلي؟.. أين ناسي؟ أين حتى ، قطعاننا وطيورنا وأنعامنا ؟. فانا لا أسمع لها : خواراً أو صهيلاً ، نهيقاً أو نقيقاً . ولكني الآن أسمع .. لقد أتتني ، أصوات أقدام ، تتقدم نحوي ، بخطوات منتظمة، وأخرى مهرولة .. بل بدأت ، أسمع أصوات أصحابها ، يتصايحون .. يتجادلون .. يأمر بعضهم ، ويأتمر البعض الآخر .. عرفتهم ، من أصواتهم .. عرفتهم ، من لسانهم .. الذي به ينطقون ، نعم عرفتهم . لقد عذبني ، هذا اللسان كثيراً : إبني الصغير ، أصغر أبنائي .. في ذلك الزمن .. البعيد . يوم عمّت الفوضى ، تلك المدينة الكبيرة .. وحين استعادوها – من المتمردين– كما كانوا يقولون . أخذوا .. يبحثون ، يفتشون ، ينقبون: في الشوارع ، في البيوت، في الدّواخل، وفي النفوس ، في سحنات الناس ، وفي ألوانهم . وفي الطريق العام ، كان إبني يسير .. حين أوقفوه ، عن اسمه .. سألوه . حين سمعوه أخذوه .. ثم قتلوه . في ذات الطريق العام .. قتلوه . أنا عرفت.. فيما بعد .. أنا عرفت . إبني قتله لسانه.. ولم يقتله سلاحه . والآن .. لا أنا ، ولا أهلي وناسي ، نملك سلاحنا ، وإن كنا نملك لساننا ، وكذلك أحفادي . ولكن أين هم الآن . لماذا لم يأتوا، ليتفقدوني كعادتهم .. أثار تعجبي منهم . وأندهاشي . أنهم في الأيام الأخيرة ، وبغير عادتهم وجدتهم ، يتحلَّقون حولي ، تحت ظل ، شجرتي الظليلة. أسعدوني بوجودهم قربي ، ولكنهم أحزنوني بحواراتهم ، فعن طريقهم ، عرفت الحرب ، التي تدور حولنا ، عرفت بسببها.. أغلقت مدارسهم – وعرفت حينها سبب تحلقهم حولي – عرفت منهم ، أن الناس هناك ، يهربون من قراهم ، إلى الكهوف ، في جبالهم.
ما أدمى قلبى ، أن إثنان من أكبر أبنائي ، قد التحقا بها – تلك اللعينة – ما أدمى قلبى أكثر ، أن أحدهم ، يحارب في جانب ، والآخر في الجانب المقابل . وما أدمى قلبى ، أكثر وأكثر ، أن إثنان من أحفادي ، تعاركا أمامي، كُل منهم .. دفاعاً عن والده . وأنا العاجز أصلاً ، وجدتني عاجزٌ عن الفهم ، وعاجزٌ أكثر ، عن وقف عِراكهما أمامي ، فقط .. ما قدرني عجزي عليه ، أن دمعت عيناي ، كما الآن .. فقد دمعت عيناي ، لهذا الذي مر بخاطري ، حتى غامتا ، ولم تريا ، أصحاب تلك الأقدام ، التي أخذت تحوم حولي ، بل تتقدم نحوي ، أراهم الآن .. ينحني أربعة منهم ، تقبض أياديهم على أركان ، نقالتي الخشبية .. المتآكلة بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، أحسست بعدها ، بارتفاعي المفاجئ عن الأرض ، بعنف لم أعهده في أحفادي ، حين يحملونني برفق ، ليتحركوا بي ، من موقع لآخر . وبعنف أقوى .. مشوا بي ، إلي أين؟.. لست أدري ، فقط مشوا بي ، ثم مشوا . ثم فجأة توقفوا ، ودون انتظار ، دون إنذار ، أطلق أربَعتَّهم ، سراح أيديهم ، من أركان ، نقّالتي الخشبية.. المتآكلة بفعل الزمن ، وثِقَّل الجسد ، وبعنفٍ .. تركوني إرتطم بالأرض ، وقبل أن أفيق قليلاً ، انحنى إثنان منهم ، ومن جانب واحد ، من نقّالتي الخشبية ، دفعا بي إلى أسفل .. ولكن دون نقالتي الخشبية !!. ووجدتني داخل حفرة ، وإن لم تكن عميقة ، لسرعة وصولي .. قاعها ، وحين أفقت .
وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس..!!
وبدأت أتبين ما حولي . أجساد محترقة ، إنهم أهلي .. ناسي . هؤلاء الأربعة .. إنهم أحفادي ، عرفتهم .. بإحساسي عرفتهم ببصيرتي . إثنان منهما ، متلاصقان .. متماسكان ، يحضنان بعضهما ، هل يا ترى كانا يتصافحان ، أم كانا يواصلان عراكهما .. لست أدري !!. ما أدريه فقط الآن ، أن نظري وقع ، على جسد آخر . إنها زوجة حفيدي : صغير السن .. صغيرة السن ، وهي بكامل زينتها . تزوجها حفيدي ، قبل عام مضى ، أقام لهما والده حفل زواج ، ظل حديث قريتنا زماناً طويلاً ، رقص فيه الشباب .. فتياناً وفتيات ، كما لم يرقصوا من قبل ، إستدعوا فيه ، كل موروثاتهم المتنوعة .. رقصاً وغناءً . فقد كانت زوجته من قبيلة مجاورة . ولكن .. ما أرى؟.. إنها دماء ، دماء على ساقيها ، دماء على فخذيها .. يا الهي .. لقد أتوها ، حتماً أتوها إغتصبوها .. ولكني لا أدري .. إن كان أتوها ، قبل موتها .. أم بعد موتها
.. أتوها. ظللت طيلة سنوات عجزي ، بالنية داخلي .. أصلّي . الآن .. على صباها أصلّي . وأنا أصلّي .. أتاني من خلفي أنين ، إنه أنين طفلة ، تيقنت منه ، إنه منبعث ، من إبنة حفيدتي .. آخر عهدي بها ، ذاك النهار ، جاءتني .. وتحت ظل شجرتي الظليلة ، علي الأرض ، جلست تحفر ، بأظافرها الرقيقة .. اذكرها ، حين التفتت نحوي ، نادتني : جدي.. جدي.. " أنا جعانة ".. أخذني منها ، صوت آخر ، إنه هدير جرّافة ، أعرفها هذه الجرّافة ، عملت عليها أيام الجندية ، دائماً جاهزة ، هذه الجرّافة.. للحفر والردم .
مالهم هؤلاء الناس !!.. هل سيدفنوننا ، بهكذا عجلة !! .
تذكرت أجدادي .. في ذلك الزمن البعيد ، يحكون .. أن مواراة الميت الثرى عندهم ، تستغرق أياماً بلياليها ، يعدون حفرة الدفن ، بمرقدها .. يتوسدها الميت ، يحيطونه ببعض ، مقتنياته الثمينة . أما هؤلاء .. فما اعجلهم !! .
أسمعها .. الجرّافة ، تتحرك .. تملأ جوفها ، بالرمل والحصى والتراب .. تتقدم نحونا ،
ولا يزال أنين حفيدتي يأتيني من خلفي ، والجرّافة تُفرِغ ما بجوفها ، في حفرتنا .. فيسكت الأنين . أصرخ أنا من داخلي.. يا هؤلاء: هل جئتم تسكتون جوع حفيدتي، أم جئتم تسكتون أنينها..؟؟
وعادت الجرّافة مرة اخرى ، بعد أن ملأت جوفها .. بالرمل والحصى والتراب .. وأفرغت حمولتها في حفرتنا ، وبعدها .. لم أعد أرى !!.
ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً.. أتنفس ..!!
وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب .. وقبل أن تُفرِغ حمولتها ، صحت بكل قوتي ، ومن داخلي مرة اخرى .. أمهلني يا هذا حتى .. أتشهد !!. ولكنه .. لن يسمعني .. لم يسمعني . بل سمعته أنا.. يردد: "وقتلاهم في النار" .
ثم أفرغ حمولته ، في حفرتنا .
وبعدها .. لم أعد أسمع !!.
ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس ..!!
وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب .. وأفرغت ما في جوفها ، في حفرتنا .
وبعدها.. لم أعد حياً !! .
ولكني .. وجدتني ، ما زلت.. أتنفس !!.
***
omeralhiwaig441@gmail.com
////////////////////