عن الشهيد عبد الخالق محجوب (1) كتابة تخلو من أي وعي أو إزهار لقناديل !!
حسن الجزولي
10 July, 2021
10 July, 2021
بتأليف للمهندس حسن محمود الريح صدر عن دار المصورات كتابه المعنون " عبد الخالق محجوب ،، الوعي وإزهار القناديل" سبتمبر 1927م ـ يوليو 1971.
ومنذ الوهلة الأولى يترآي للقارئ أن محتوى الكتاب يتناول سيرة هذا الانسان السوداني النادر الوجود ويستعرض سنوات حياته ومساهماته في مجريات السياسة السودانية وقضايا البلاد، التي اكتوى بنارها حداً انطبقت عليه فيها مقولة "فناء العاشق في المعشوق".
إلا أن الكاتب يتجه بكلياته في واقع الأمر ليتناول موضوعاًت وإن ارتبطت بشكل أو آخر بالشخصية الرئيسية لدى الكاتب، ولكنها أضحت "شاغلاً رئيسياً" فرض نفسه على القارئ وهو المتعلق بانقلاب 19 يوليو 1971الذي نفذه تنظيم الضباط الأحرار بالجيش السوداني، ووجه الاتهام فيه لقادة الحزب الشيوعي السوداني وعلى الأخص الشهيد عبد الخالق محجوب السكرتير السياسي الأسبق للحزب.إضافة لتناول وقائع مجزرة بيت الضيافة المجرمة التي استشهد فيها عدد (9) من ضباط القوات المسلحة، كموضوع أثير لدى أعداء "دائمون" للحزب وقواه الديمقراطية، وقد ظلوا "يلوكونه" في كل حين عدا كل المجازر البشعة التي شهدتها بلادنا، " سيما ود نوباوي والجزيرة أبا، يوليو 1976، ثم مجازر الانقاذ في 28 رمضان، شهداء الحركة الطلابية، العيلفون، كجبار، بورتسودان، آلاف الضحايا في دارفور، مجزرة القيادة العامة، وليس آخراً كافة حوادث الاغتيالات الأخرى خارج القانون من قبل بقايا الانقاذ والحركة الإسلامية والتي ما تزال تترى!.
ومن الملاحظات الأساسية أن الكاتب رغم أنه أوحى للقارئ بتعاطفه أو قل "محبته" لعبد الخالق، إلا أنه وبطرف خفي راح يكيل الاتهامات ويردد الفرية التي ظل يلوكها أعداء عبد الخالق وحزبه، فلا تلمس القارئ في الكتاب " وعياً أو أزهار قناديل" ،، ولا حتى مجرد هزار في الروضة غنا!، وباختصار غير مخل، حاول الكاتب بذكاء مفضوح دس السم في الدسم!.
حفل الكتاب بالكثير من المغالطات ولي عنق الحقائق وتشويه معالم الصراع، فضلاً عن "متناقضات" متعددة!، وكان لزاماً علينا التوقف في بعض ما ورد في الكتاب كنماذج تؤكد ما نشير إليه.
دعونا نتناول من كتابة مقدمة الكتاب المتعلقة بموضوع الوشاية بعبد الخالق وكشف مكان اختفاءه داخل حي بيت المال بأم درمان، ويقول أن كل الكتابات عنها ليست سوى "تكهنات واستنتاجات غير حقيقية، مقارنة بالأسماء التي في مضابط جهازي الأمن العام والأمن القومي"!. وها هو ومنذ مفتتح كتابه يدق اسفيناً على المعلومات التي تحصل عليها، معترفاً بأن مصادرها هي "جهازي الأمن العام والأمن القومي" !.
وحول هذه الجزئية ورغم أن الكتاب يشير إلى أن كل الكتابات عن من وشى بعبد الخالق ليست سوى " تكهنات واستنتاجات" إلا أن الكتاب نفسه يعود ويتبنى أسماء المتورطين في الوشاية بعبد الخالق حسب ما تم تناوله على نطاق واسع في داخل حي بيت المال ( فضل البلولة، عثمان مصطفى، الفاتح رزق الله الممثل الشهير لدور الشخصية النمطية في إذاعة أم درمان باسم "عشمانة" ثم عركي حمد النيل وآخرين). فكيف بالكتاب ينفي صحة الأسماء التي وشت ويقول عنها "تكهنات واستنتاجات" ثم يأتي ليثبتها باعتبارها من لدن جهاز الأمن العام والقومي!. هذا هو التناقض الأول!.
وفي جزئية أخرى يقول الراحل د.حيدر بابكر الريح أحد سكان حي بيت المال وهو من تولى كتابة مقدمة الكتاب، وقريب للكاتب حسن محمود الريح وشقيق السيدة نعيمة بابكر الريح زوجة الأستاذ الراحل أحمد سليمان المحامي أحد أبرز من قادوا الانقسام عن الحزب الشيوعي السوداني، بأنه كان في طريقه لتحية أحمد سليمان بعد عودته من خارج البلاد في صبيحة الجمعة 23 يوليو، فصادفه في الطريق الراحل الأديب طه الكد ابن خالة عبد الخالق محجوب والذي كان عبد الخالق مختفياً في منزله، وذهب معه لتحية أحمد سليمان أيضاً، فانفجر الأخير فيه بمجرد أن رأه قائلاً ما معناه أن عبد الخالق (ضيعنا وضيع البلد، البلد راحت والماتو كتار، ولسه حا يتكتلو كتار) وعنف حركة 19 يوليو تعنيفاً شديداً. وبعد فترة أوضح طه لحيدر الريح بأن عبد الخالق بعث به في الأساس لمقابلة عبد الخالق ليقول له بأن الأخير مختفي في أبروف، " شوف ليه طريقة" وحذره قائلاً "لو هاج فيك أو نبًز أوعك تكلمه"، ويقول حيدر أنه لم يحدث أحمد سليمان بهذه الواقعة إلا بعد فترة، "فتأثر كثيراً، وأقسم ( والله لو كلمني كنت دسيتو في بيت البحر).
لنفحص هذه الرواية بتروي:ـ
ظل أحمد سليمان ومنذ الانقسام الشهير الذي قادة داخل الحزب، يشكل عدواً لودوداً وأساسياً لعبد الخالق شخصياً فضلاً عن حزب عبد الخالق، وكان يتربص به ويوغر صدر النميري وأعوانه في "مجلس قيادة ثورته" ضد عبد الخالق شخصياً، فهل يعقل أن يتحول أحمد سليمان فجأة 180 درجة وما تزال الأحداث حية والدماء التي انبجست من الأجساد حارة وهي تنزف، ليكون حملاً وديعاً، بل رؤوفاً رحيماً حافظاً للود وجميل المودة لرفاق دربه القدامى؟!، وهل يمكن لشخص أن يصدق بأن أحمد سليمان الذي كال ما كال من هجوم مقذع على عبد الخالق ورفاق عبد الخالق بعد سنوات طوال في كتابه الشهير بعنوان " خطى كتبت علينا فمشيناها" وهو ممول من قبل نظام نميري ومايو ومدفوع الأجر، هل يمكن ألا تكون هذه الواقعة مثار جزئية يمكن أن يسخرها أحمد سليمان في عدائه لعبد الخالق شخصياً، إن تمت بالفعل؟!، على الأقل ليبرزه باعتباره شخصاً جباناً يبحث عن (أمن وأمان شخصي) وهو الرجل الأول الذي كان حتى وقت قريب يهاجمه ويعريه ويصفه بأنه " دُمل" في جسد الحزب؟!.
الإرباك والتناقضات التي حواها الكتاب كثيرة ومتعددة، نتناول منها هذه الجزئية المتعلقة بمن أيد ومن عارض التخطيط لانقلاب 19 يوليو 1971 داخل قيادة الحزب الشيوعي كما ادعى الكتاب!.
يقول أن القيادية الراحلة سعاد إبراهيم أحمد كانت ضد الانقلاب وذكرت بأن كل من ( الشفيع ونقد كانا يعلمان تمام العلم بخطة الانقلاب، وأنهما كانا على اتصال بالعسكر).
ثم يعود ليقول ( من المعروف أن الشفيع كان من أبرز المعارضين لفكرة الحل العسكري داخل اللجنة المركزية)، ثم يأتي ليؤكد مرة ثالثة أن "الشفيع ونقد وسعاد إبراهيم أحمد على علم وموافقة لما يخطط له عبد الخالق مع العسكريين!.
تناقضات تضرب برقاب بعضها ولا نخرج بنتيجة مؤكدة حول من أيد ومن عارض في ظل التأكيد مرة بأن كل من سعاد والشفيع قد عارضا، ليناقض ذلك بعد أقل من سطر سطرين فيشير إلى أنهما كانا من المؤيدين!.ليس ذلك فحسب بل أنه يشير للقيادي الراحل عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة باعتباره كان من المشاركين في اجتماعات اللجنة المركزية التي تنظر في أمر إنقلاب 19 يوليو، علماً بأن الوسيلة أصبح مريضاَ وتم إعفاءه من جميع مسؤولياته القيادية في الحزب منذ سنوات قبل وقوع أحداث 19 يوليو!، أوليس هذا تناقضاَ يهز الثقة في المعلومات التي استقاها الكاتب، و(ممن)؟ وهو ما سنتوقف فيه لاحقاً!.
علماً أن الكاتب أطلق العنان لقلم "الراوي" الذي سرد معظم الوقائع دون أن يكشف للقارئ من هو!، حيث ذكر الراوي ما جعل الكتابة تبتعد تماماً عن موضوع الكتاب وهو عبد الخالق محجوب حينما طفق يقول بحنق وحقد وتحليل فطير وغير أمين في سرد الأحداث " بعد تفرق موكب التأييد، تحرش بعض من المتظاهرين بالمواطنين في زنك الخضار بعد أن هتفوا ـ أمميون ـ سايرين سايرين في طريق لينين ـ اليسار في الميدان ـ يا يمين يا جبان ـ والخرطوم ليست مكة"!.واشتبكوا مع المواطنين وأنصار مايو وكانو أغلبية استثارهم الخطاب الأحمر الصارخ في ظل مجتمع سوداني مسلم تقليدي تقوده طائفة إسلامية وصوفية متجذرة في نسيجه الاجتماعي والثقافي وهي التي شكلت في مجملها توجهاته السياسية الوطنية وأحلافه الوطنية ، وكانت تلك هي "القشة التي قصمت ظهر البعير"!، وإن تسائلنا فنقول ما علاقة كل ذلك بشخصية عبد الخالق الذي أوحى الكاتب لقارئه أنه بصدد تقديم شخصية تحمل "إزهاراً وقناديلاً للوعي"!.
(ونواصل)
hassanelgizuli@yahoo.com