عن ثورة 21 أكتوبر 1964م المجيدة في ذكراها .. أحكي لكم . بقلم : عمر الحويج
عمر الحويج
22 October, 2022
22 October, 2022
(حين إنفتحت البوابة)
قصة قصيرة-من مجموعتي القصصية "إليكم أعود وفي كفي القمر" الصادرة عن دار عزة للنشر 2009م .
نشرت بصحيفة الميدان الثقافي تحت اشراف الصديق عدالله على إبراهيم عام 1965م .
قبل نهاية التوقف ، المقررة لصافرة الورشة ، إنطلقت صافرة القطار ، حيث تعانقت الصافرتان للحظة ، حتى لم تكن كافية له، ليتنبه.. أن كل واحدة منهما ، تعني له شيئا منفصلاً، ولكلٍّ:عمل قائم بذاته ، لولا الأذن التي اكتسبت حاسة فرز دقيقة لكلا الصافرتين . لعن في سره عدداً من الأشياء، هو نفسه ، لم يستطع أن يحدد ، ملامحها. صافرة واحدة تكفي لأن تقلق راحته، أما أن تجتمعا معاً ، فهذا معناه ، أن يظل متوتراً، بقية يومه.. ينهض من على مقعده المتهتك ، المصلوب عليه أبداً..إلا حين ، تنطلق إحدى الصافرتين ، أو كلتاهما معاً .. حيث تبدأ تنْصَبّ عليه اللعنات التي لا يسمعها ولكنه يحسها . بوده لو يتذكر ما قاله أحدهم يوماً أمامه عن عدد هؤلاء الذين يتدفقون ، أمام مقعده هذا ، ولكنه حين فشل في تركيب الرقم ، وإيقافه مصطفاً ، أمام مقدمة دماغه، ولسبب ما حاول تخمين.. كم منهم : كان أو سيكون نصيبه في هذه الحياة مثل نصيبه .. حين اقترب القطار ، كان هو لا يزال داخل نفسه ، لعن كل شيء ، عكساًَ . فهو للحَقّ يحبّ هؤلاء الناس منهم خرج ، وإليهم .. حلمه الدائم والمؤرق أن يعود .. صرخ فيهم أن يتوقفوا ، وهو يود أن يجذبها بقوة أخرى تشد من عزم قوتها الذاتية ولكن ماذا يفعل وهي (تَقْدِل) على مهلها ، في فضائها الخاص، مغترَة بما تفعله في من حولها ، تذكره بذلك الرجل .. أتفو!! .. أهذا وقت يقفز فيه هذا الرجل إلى ذاكرته ، والقطار يقترب وهي لا زالت معلقة في فضائها .. والدراجات تنزلق من تحتها في خفة متمرسة والراجلون ، وإن كانوا أقل عدداً ، يتسربون في خفة أكثر تدعو إلى الدهشة ، لولا اللحظة الحرجة التي-لا وقت فيها للدهشة- والنصف دائرة لا يزال باقياً منها الكثير ، ربما تمكن الكثيرون منهم للنفاذ من خلالها ، وقلبه عليهم جميعاً ، والقطار يقترب أكثر ، والنصف دائرة تضيق أكثر ، حتى تصل نقطة الإجبار، حيث لا مفر للمتدفقين عبرها من التوقف الإجباري. وحينها يبدأ تدفق اللعنات ، التي لا يسمعها ، ولكنه يحسها .. إلا أنه يكون في هذه اللحظة قد اتكأ ، على مقعده المتهتك ، المصلوب عليه أبداً .. هو لا يراهم الآن ، فقد أصبح بينه وبينهم ، كتل الحديد الجارية ضجيجاً .. سنوات طوال مارس عملية توقف معهم حين كانت تجبرهم ، النصف دائرة على التوقف ، وحتى يومه هذا ، كان سيظل محتجزاً خلفها لولا .. إنه يكره اجتماع الصافرتين معاً .. هكذا ، تجعلانه متوتراً بقية يومه .. القطار لا يزال ضجيجاً ، في أذنيه وخلفه شريط من العربات ، لم يمر من أمامه بعد .. الآخرون ما زالوا في الجانب المقابل ، ولكنه يراهم لأنه كان معهم .. في ذلك اليوم البعيد ، عاد راجعاً إلى الورشة ، إنه يذكر ، اجتمعت الصافرتان معا . هكذا .. ظلّ واقفاً ، في الجانب المقابل ، كان يسمع لعنات الراجلين ، وراكبي الدراجات ، ظنها ستظل هكذا مغلقة أبداً . كان يومه الأول .. إرتجف رعباً يومها .. كتلة الحديد تلك النازلة من أين؟؟ . لا يدري !! . أما القطار ، فهو يعرفه ، فقد أتى به ، ذلك اليوم البعيد من بلدته تلك البعيدة .. الناس والدراجات ، كلها تتوقف ، حين تصل كتلة الحديد ، إلى نقطة التوازي مع نفسها ، شيء عجيب ، أدهشه ، ولكنها كانت المرة الأولى التي يتأمل فيها القطار من الخارج .. إنه مخيف.. يومها ، يذكر وبخجل الآن ، أنه أخذ يجري ويجري ، عائداً إلى الورشة ، حين أخذ يحكيها في ما بعد متجاهلاً أمر خوفه ذلك ، كانوا يضحكون .. متندرين ببلاهته فليظنوا به البله ، أما أن يعتقدوا أنه كان خائفاً فهذا ما لا يرضاه لنفسه.. ولكن وبعد مرور سنوات طويلة ، على تلك الحادثة، رأوا ، بأعينهم ذلك الخوف ، الذي جاهد أن يخفيه عنهم ، وارتضى بدلاً عنه تهمة البلاهة . كان يرتجف ، إنها المرة الثانية ، فقد كانت الأولى قبلها بأيام ، باعها بما أغراه لتكرارها ، بل استدان من ذلك الرجل المشتري خصماًَ على المحاولة الثانية هذه .. يقولون إن البداية هي الصعبة ، ولكنه لم يخافها ، خاف في المرة الثانية .. أنت هناك ياخينا .. أقيف عندك .. إنهار ساعتها ، والآخرون يبحلقون فيه ، دون نجدته ، فكثيرون منهم يفعلونها .. ولكنها ممتلكات الدولة .. قالها قاضيه ، يوم المحاكمة إنها قطعة نحاس لاتسوى شئياً للدولة ، قال لنفسه ، إلا أنها تسوى له الكثير .. البرد والحر ، والفضيحة ، والخوف الدائم .. مرت به ، وهو داخل تلك الغرفة القذرة . وإبنته، قالوا له ، أنها مريضة . لم تجد الدواء . فماتت. بكى كثيراً مع نفسه ، ولكن ما أحزنه أكثر ، أنهم أخبروه ، أن ذلك الرجل التاجر ، أتاهم عشرات المرات ، مطالباً بما لديه من ديون متراكمة عليهم .. ما أحزنه أكثر ليس الرجل وطلبه ، إنما إبنه الذي ترك المدرسة . ليسدد لذلك الرجل ديونه .. أخبرته بذلك في حينها زوجته.. ما أحزنه أكثر وأكثر ، أنها هي نفسها ، أصبحت تبيع اللقيمات صباحاً لأهل الحي ، وتفترش السوق بقية يومها ، لتبيع بعض حاجيات أطفال المدينة ، من التسالي وحلاوى قطن . ما يحزنه حتى البكاء ، أنه لم يكن في خياله يوماً ، أن أكبر أبنائه سوف يتخلى عن الدراسة ، وهو الأمل الذي ظل مدار حياته كلها، كان صغيراً حين جاءه شاكياً .. لن أعود إلى هذا الرجل التاجر مرة أخرى ، إنه لا يعاملني كالآخرين .. في المرة الأولى ، إستطعت إقناعه . نعم ديوننا لديه تراكمت ، ولكنه رجل طيب لا يقصد الإساءة إليك.. أقنعته ، بما أنا نفسي غير مقتنع به ، ولكنه كان لا يزال صغيراً، واصل بعدها ، جلب ما نطلبه منه دون شكوى ، وإن كنت أرى في عينيه نظرة انكسار . إلى أن كان ذلك اليوم ، حين بدأ يشكو .. أسكَتُّه، حين بدأ يتكلم ، أخرسْتُه ، حين واصل ، هممت بضربه .. ولكن تذكّرت ، أنه كبر . كان ذلك يوم جاءنا ذلك الرجل التاجر ، كان طيباً ، يومها.. بل كان ودوداً .. طلب مني صراحة ، ودون مقدمات ، أن لا أشارك في ذلك الإضراب المعلن غداً ، الذي أعلنت عنه النقابة . لم أكن أفهم كثيراً ، في مسائل النقابات هذه، حتى لم أفهم ، ما هي علاقته هو شخصياً ، بالإضراب ، ولكن وافقت ، وإن لم يكن فوراً ، بل بعد أن فكرت .. لقد وعدني أن يلغي كل ديوني المتراكمة ، ولكن ابني لم يوافق ، دخلا في جدال تطور إلى صراخ فضضته قبل أن يتحول إلى عراك .. ربما غضب الرجل التاجر يومها ، فرغم أني أوفيت بوعدي إلا أنه لم يلغِ ديوني المتراكمة ، وتأكدتُ من غضبه أكثر ، حين لم يغفر لابني ، فقد جاءته عربات الحكومة ذات صباح وأخذوه معهم ، وتواصل عدم غفرانه لابني ، فقد تكرر أخذه بعد ذلك ، عشرات المرات، حتى أننا لم نكن نعرف ، إلى أين يأخذونه ولكنه .... إنه يكره اجتماع الصافرتين ، تجعلانه متوتراً بقية يومه ، والقطار لم يعد ضجيجاً في أذنيه ، رغم أن شريط العربات ما زالت به بقية ، لم تمر من أمامه ، بعد.. وبنظرة لا إرادية توجه ببصره إلى حيث إشارة التوقف ، لم يفكر في ذلك كثيراً فليس نادراً أن يتوقف القطار هكذا ، والبوابة مغلقة ، ولكنه أبداً لا يبحث عن سبب التوقف ، فكثير من الأشياء ، توقفت في حياته ولم يسأل عن السبب ، حتى حين أوقفوه عن العمل في الورشة ، لم يسأل عن السبب ، وحتى حين أعادوه ، وعينوه للعمل خفيراً في هذه البوابة اللعينة ، أيضاً.. لم يسأل عن السبب ولكن لا .. إنه سأل ، وقد كان سؤاله الكبير ، يوم سمع اسم ذلك الرجل التاجر ، يتردد كثيراَ في أفواه الناس ، وخاصة حين يجتمعون ، ويهتفون ضده ، آه... إنها كانت أيام الأسئلة الكبرى .. قال لأحدهم يومها.. أنت أيضا خدعك هذا الرجل.. أنا أعرف.. حتماً أنه لم يلغِ لك ديونك المتراكمة ، أما سؤاله الثاني ، والكبير ، فقد كان يوم رآهم يجتمعون ، وهم فرحين.. ماذا حدث؟؟ . يومها قالوا له ، لقد أدخلوه السجن ليس التاجر هذه المرة الرجل الكبير .. لم يصدق حينها !! .. ولكن حين سمعهم . ينشدون .. أصبح الصبح ، فلا السجن ولا السجّان باق ، ردّد معهم بكل قوته المتبقية: أصبح الصبح ولا....وسمع صوته عالياً يكمل المقطع ، ولكن لم يسمعه الآخرون، وإنما ارتدّ إليه صياح راكبي الدراجات ، والراجلين ، فالقطار كان قد تحرك واختفى من ناظريه شريط عرباته . فابتسم لهم ، وكأنه يعتذر . ظل مبتسماً ، وهم يتدفقون من أمامه ، حين انفتحت البوابة.. فما زال ، يحب هؤلاء الناس ، فمنهم خرج .. وإليهم: حلمه.. الدائم والمؤرق، أن يعود .
omeralhiwaig441@gmail.com
////////////////////////
قصة قصيرة-من مجموعتي القصصية "إليكم أعود وفي كفي القمر" الصادرة عن دار عزة للنشر 2009م .
نشرت بصحيفة الميدان الثقافي تحت اشراف الصديق عدالله على إبراهيم عام 1965م .
قبل نهاية التوقف ، المقررة لصافرة الورشة ، إنطلقت صافرة القطار ، حيث تعانقت الصافرتان للحظة ، حتى لم تكن كافية له، ليتنبه.. أن كل واحدة منهما ، تعني له شيئا منفصلاً، ولكلٍّ:عمل قائم بذاته ، لولا الأذن التي اكتسبت حاسة فرز دقيقة لكلا الصافرتين . لعن في سره عدداً من الأشياء، هو نفسه ، لم يستطع أن يحدد ، ملامحها. صافرة واحدة تكفي لأن تقلق راحته، أما أن تجتمعا معاً ، فهذا معناه ، أن يظل متوتراً، بقية يومه.. ينهض من على مقعده المتهتك ، المصلوب عليه أبداً..إلا حين ، تنطلق إحدى الصافرتين ، أو كلتاهما معاً .. حيث تبدأ تنْصَبّ عليه اللعنات التي لا يسمعها ولكنه يحسها . بوده لو يتذكر ما قاله أحدهم يوماً أمامه عن عدد هؤلاء الذين يتدفقون ، أمام مقعده هذا ، ولكنه حين فشل في تركيب الرقم ، وإيقافه مصطفاً ، أمام مقدمة دماغه، ولسبب ما حاول تخمين.. كم منهم : كان أو سيكون نصيبه في هذه الحياة مثل نصيبه .. حين اقترب القطار ، كان هو لا يزال داخل نفسه ، لعن كل شيء ، عكساًَ . فهو للحَقّ يحبّ هؤلاء الناس منهم خرج ، وإليهم .. حلمه الدائم والمؤرق أن يعود .. صرخ فيهم أن يتوقفوا ، وهو يود أن يجذبها بقوة أخرى تشد من عزم قوتها الذاتية ولكن ماذا يفعل وهي (تَقْدِل) على مهلها ، في فضائها الخاص، مغترَة بما تفعله في من حولها ، تذكره بذلك الرجل .. أتفو!! .. أهذا وقت يقفز فيه هذا الرجل إلى ذاكرته ، والقطار يقترب وهي لا زالت معلقة في فضائها .. والدراجات تنزلق من تحتها في خفة متمرسة والراجلون ، وإن كانوا أقل عدداً ، يتسربون في خفة أكثر تدعو إلى الدهشة ، لولا اللحظة الحرجة التي-لا وقت فيها للدهشة- والنصف دائرة لا يزال باقياً منها الكثير ، ربما تمكن الكثيرون منهم للنفاذ من خلالها ، وقلبه عليهم جميعاً ، والقطار يقترب أكثر ، والنصف دائرة تضيق أكثر ، حتى تصل نقطة الإجبار، حيث لا مفر للمتدفقين عبرها من التوقف الإجباري. وحينها يبدأ تدفق اللعنات ، التي لا يسمعها ، ولكنه يحسها .. إلا أنه يكون في هذه اللحظة قد اتكأ ، على مقعده المتهتك ، المصلوب عليه أبداً .. هو لا يراهم الآن ، فقد أصبح بينه وبينهم ، كتل الحديد الجارية ضجيجاً .. سنوات طوال مارس عملية توقف معهم حين كانت تجبرهم ، النصف دائرة على التوقف ، وحتى يومه هذا ، كان سيظل محتجزاً خلفها لولا .. إنه يكره اجتماع الصافرتين معاً .. هكذا ، تجعلانه متوتراً بقية يومه .. القطار لا يزال ضجيجاً ، في أذنيه وخلفه شريط من العربات ، لم يمر من أمامه بعد .. الآخرون ما زالوا في الجانب المقابل ، ولكنه يراهم لأنه كان معهم .. في ذلك اليوم البعيد ، عاد راجعاً إلى الورشة ، إنه يذكر ، اجتمعت الصافرتان معا . هكذا .. ظلّ واقفاً ، في الجانب المقابل ، كان يسمع لعنات الراجلين ، وراكبي الدراجات ، ظنها ستظل هكذا مغلقة أبداً . كان يومه الأول .. إرتجف رعباً يومها .. كتلة الحديد تلك النازلة من أين؟؟ . لا يدري !! . أما القطار ، فهو يعرفه ، فقد أتى به ، ذلك اليوم البعيد من بلدته تلك البعيدة .. الناس والدراجات ، كلها تتوقف ، حين تصل كتلة الحديد ، إلى نقطة التوازي مع نفسها ، شيء عجيب ، أدهشه ، ولكنها كانت المرة الأولى التي يتأمل فيها القطار من الخارج .. إنه مخيف.. يومها ، يذكر وبخجل الآن ، أنه أخذ يجري ويجري ، عائداً إلى الورشة ، حين أخذ يحكيها في ما بعد متجاهلاً أمر خوفه ذلك ، كانوا يضحكون .. متندرين ببلاهته فليظنوا به البله ، أما أن يعتقدوا أنه كان خائفاً فهذا ما لا يرضاه لنفسه.. ولكن وبعد مرور سنوات طويلة ، على تلك الحادثة، رأوا ، بأعينهم ذلك الخوف ، الذي جاهد أن يخفيه عنهم ، وارتضى بدلاً عنه تهمة البلاهة . كان يرتجف ، إنها المرة الثانية ، فقد كانت الأولى قبلها بأيام ، باعها بما أغراه لتكرارها ، بل استدان من ذلك الرجل المشتري خصماًَ على المحاولة الثانية هذه .. يقولون إن البداية هي الصعبة ، ولكنه لم يخافها ، خاف في المرة الثانية .. أنت هناك ياخينا .. أقيف عندك .. إنهار ساعتها ، والآخرون يبحلقون فيه ، دون نجدته ، فكثيرون منهم يفعلونها .. ولكنها ممتلكات الدولة .. قالها قاضيه ، يوم المحاكمة إنها قطعة نحاس لاتسوى شئياً للدولة ، قال لنفسه ، إلا أنها تسوى له الكثير .. البرد والحر ، والفضيحة ، والخوف الدائم .. مرت به ، وهو داخل تلك الغرفة القذرة . وإبنته، قالوا له ، أنها مريضة . لم تجد الدواء . فماتت. بكى كثيراً مع نفسه ، ولكن ما أحزنه أكثر ، أنهم أخبروه ، أن ذلك الرجل التاجر ، أتاهم عشرات المرات ، مطالباً بما لديه من ديون متراكمة عليهم .. ما أحزنه أكثر ليس الرجل وطلبه ، إنما إبنه الذي ترك المدرسة . ليسدد لذلك الرجل ديونه .. أخبرته بذلك في حينها زوجته.. ما أحزنه أكثر وأكثر ، أنها هي نفسها ، أصبحت تبيع اللقيمات صباحاً لأهل الحي ، وتفترش السوق بقية يومها ، لتبيع بعض حاجيات أطفال المدينة ، من التسالي وحلاوى قطن . ما يحزنه حتى البكاء ، أنه لم يكن في خياله يوماً ، أن أكبر أبنائه سوف يتخلى عن الدراسة ، وهو الأمل الذي ظل مدار حياته كلها، كان صغيراً حين جاءه شاكياً .. لن أعود إلى هذا الرجل التاجر مرة أخرى ، إنه لا يعاملني كالآخرين .. في المرة الأولى ، إستطعت إقناعه . نعم ديوننا لديه تراكمت ، ولكنه رجل طيب لا يقصد الإساءة إليك.. أقنعته ، بما أنا نفسي غير مقتنع به ، ولكنه كان لا يزال صغيراً، واصل بعدها ، جلب ما نطلبه منه دون شكوى ، وإن كنت أرى في عينيه نظرة انكسار . إلى أن كان ذلك اليوم ، حين بدأ يشكو .. أسكَتُّه، حين بدأ يتكلم ، أخرسْتُه ، حين واصل ، هممت بضربه .. ولكن تذكّرت ، أنه كبر . كان ذلك يوم جاءنا ذلك الرجل التاجر ، كان طيباً ، يومها.. بل كان ودوداً .. طلب مني صراحة ، ودون مقدمات ، أن لا أشارك في ذلك الإضراب المعلن غداً ، الذي أعلنت عنه النقابة . لم أكن أفهم كثيراً ، في مسائل النقابات هذه، حتى لم أفهم ، ما هي علاقته هو شخصياً ، بالإضراب ، ولكن وافقت ، وإن لم يكن فوراً ، بل بعد أن فكرت .. لقد وعدني أن يلغي كل ديوني المتراكمة ، ولكن ابني لم يوافق ، دخلا في جدال تطور إلى صراخ فضضته قبل أن يتحول إلى عراك .. ربما غضب الرجل التاجر يومها ، فرغم أني أوفيت بوعدي إلا أنه لم يلغِ ديوني المتراكمة ، وتأكدتُ من غضبه أكثر ، حين لم يغفر لابني ، فقد جاءته عربات الحكومة ذات صباح وأخذوه معهم ، وتواصل عدم غفرانه لابني ، فقد تكرر أخذه بعد ذلك ، عشرات المرات، حتى أننا لم نكن نعرف ، إلى أين يأخذونه ولكنه .... إنه يكره اجتماع الصافرتين ، تجعلانه متوتراً بقية يومه ، والقطار لم يعد ضجيجاً في أذنيه ، رغم أن شريط العربات ما زالت به بقية ، لم تمر من أمامه ، بعد.. وبنظرة لا إرادية توجه ببصره إلى حيث إشارة التوقف ، لم يفكر في ذلك كثيراً فليس نادراً أن يتوقف القطار هكذا ، والبوابة مغلقة ، ولكنه أبداً لا يبحث عن سبب التوقف ، فكثير من الأشياء ، توقفت في حياته ولم يسأل عن السبب ، حتى حين أوقفوه عن العمل في الورشة ، لم يسأل عن السبب ، وحتى حين أعادوه ، وعينوه للعمل خفيراً في هذه البوابة اللعينة ، أيضاً.. لم يسأل عن السبب ولكن لا .. إنه سأل ، وقد كان سؤاله الكبير ، يوم سمع اسم ذلك الرجل التاجر ، يتردد كثيراَ في أفواه الناس ، وخاصة حين يجتمعون ، ويهتفون ضده ، آه... إنها كانت أيام الأسئلة الكبرى .. قال لأحدهم يومها.. أنت أيضا خدعك هذا الرجل.. أنا أعرف.. حتماً أنه لم يلغِ لك ديونك المتراكمة ، أما سؤاله الثاني ، والكبير ، فقد كان يوم رآهم يجتمعون ، وهم فرحين.. ماذا حدث؟؟ . يومها قالوا له ، لقد أدخلوه السجن ليس التاجر هذه المرة الرجل الكبير .. لم يصدق حينها !! .. ولكن حين سمعهم . ينشدون .. أصبح الصبح ، فلا السجن ولا السجّان باق ، ردّد معهم بكل قوته المتبقية: أصبح الصبح ولا....وسمع صوته عالياً يكمل المقطع ، ولكن لم يسمعه الآخرون، وإنما ارتدّ إليه صياح راكبي الدراجات ، والراجلين ، فالقطار كان قد تحرك واختفى من ناظريه شريط عرباته . فابتسم لهم ، وكأنه يعتذر . ظل مبتسماً ، وهم يتدفقون من أمامه ، حين انفتحت البوابة.. فما زال ، يحب هؤلاء الناس ، فمنهم خرج .. وإليهم: حلمه.. الدائم والمؤرق، أن يعود .
omeralhiwaig441@gmail.com
////////////////////////