عن حرب الإبادات النازيوإسلاموية في بدايات حرب الهوامش .. والآن الإبادات في حرب المدن النواعش .. أحكي لكم .. بقلم/ عمر الحويج
عمر الحويج
28 April, 2023
28 April, 2023
لم أعد حياً.. لكني أتنفس / نُشرت 2012م
قصة قصيرة : بقلم / عمر الحويج
***
باغتنا الإنفجار ، جاءنا.. مدوياً ، من فوقنا . جاءنا .. عابراً سماءنا ، تلك التي ظلتو.. تظلل صفاءنا ، جاءنا مخترقاً جبالنا ، تلك التي أبداً ، كانت .. أماننا وحِمانا .
حينها .. تحولت قريتنا ، الوادعة ، إلي كتل من اللهب ، والنيران، والدخان .. تلتها ، لا بل رافقتها ، زخات من المطر الرصاص ، المنهمر علينا ، من كل أنواع الأسلحة، الخفيف منها ، و الثقيل .. أحاطنا من جميع أركاننا ، من أمامنا ، من خلفنا .. من يميننا ، من يسارنا ، أما من تحتنا ، فقد اهتزت ، بنا الأرض ومادت ، وكأنها زلزلت زلزالا، رجّتها أصوات الدبابات وحركتها الضاجة ، حين أخذت ، تخبط خبط عشواء ، في أرضنا .. في مساكننا .. في البشر والناس .. و حتى قطعاننا وطيرنا .
إلا، أنا .. وجدتني ، مازلت حياً.. أتنفس..!!
بدأت أتحسس ما حولي ، ببصري .. لا أري ، غير الدخان ، وألسنة النيران واللهب ، كما لا أسمع ، غير ضجيج الدبابات وهديرها ، وهي تجوب المكان هنا وهناك .. مسرعة .
لا أدري ، ما هو فاصل الزمن ، بين بداية الانفجار الأول .. وما تلاه . ولكني وجدت نفسي ، في الحالة الأخيرة ، التي كنت عليها ، حين حملني ، أحفادي الأربعة ، على ظهر ، نقّالتي الخشبية . المتآكلة ، بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، والتي صنعوها ، خصيصاً لحركتي اليومية – خاصة من . قُطّيتي .. سكني ، إلي حيث شجرتي الظليلة ، والتي تحتويني ، تحت ظلالها ، طيلة نهاري ، وبعض ليلي .
وحتماً .. أن شجرتي الظليلة ، هي التي حمتني .. أو ربما ، وأبقتني حياً ، بعد كل ما حدث .. وما يزال . وأنا الحي كميت منذ زمان مضى .. بعيد ، حين أصابني ذلك البلاء ، الذي شل كامل جسدي ، عن الحركة ، وترك لي فقط ، بعض من حواسي: عيناي.. اللتان ظلتا ، تخترقان بعض الضوء .. إلا قليلاً . وسمعي .. دون لساني .. وقلبي الذي يخفق .
وهكذا ، أنا .. وجدتني .. ما زلت حياً .. أتنفس..!!
إلا أن شجرتي الظليلة ، والتي حمتني.. أو ربما ، وأبقتني حياً . لم تستطع أن تحمي الآخرين . فهاأنذا، قد طال انتظاري، ولم يأت أحد، من أهلي ، حتى الآن ، ليتفقدني .. كما عودوني .
وأنا .. لا زلت ، لا أرى أمامي ، سوى الدخان .. والفضاء ، حالك السواد ، بعيني الغائمتين . فقط يخترق أذني ، ذلك الهدير الآتي ، من هياج الدبابات وما يلحق بها ، من الآليات العسكرية ، التي أعرفها جيداً ، وأكاد أحدد ، أنواعها.. فقط، من صوت، تحرك عجلاتها. ففي زمان مضى .. بعيد ، عملت جندياً ، بعد تجوالي ، في العديد من المهن ، السفلى منها والأسفل . أذكر في ذلك العهد .. البعيد ، كانوا أيضاً يدفعون بنا دفعاً ، لاقتحام القرى والمدن . لنقتل ونحرق ، في تلك الأنحاء البعيدة .. كبعدنا الآن، عن هؤلاء الذين جاءوا ، لحرقنا وقتلنا.. لماذا ؟؟ لست أدري . ما أدريه الآن فقط ، أن كل ما حولي ، أضحى هامدا ، خامدا.. ومتلاشيا . أين يا ترى ، اختفى نبض قريتي ، الذي كان يحتويني - رغم عجزي ، وقلة حيلتي – بدفئه وحنيته ، أين أهلي؟؟.. أين ناسي؟؟ أين حتى ، قطعاننا وطيورنا؟. فأنا لا أسمع لها : خواراً أو صهيلاً ، نهيقاً أو نقيقاً.... ولكني الآن أسمع .. لقد أتتني ، أصوات أقدام ، تتقدم نحوي ، بخطوات منتظمة ، وأخرى مهرولة .. بل بدأت ، أسمع أصوات أصحابها ، يتصايحون .. يتجادلون .. يأمر بعضهم ، ويأتمر البعض الآخر.. عرفتهم ، من أصواتهم .. عرفتهم، من لسانهم .. الذي به ينطقون ، نعم عرفتهم . لقد عذبني ، هذا اللسان كثيراً : ابني الصغير ، أصغر أبنائي .. في ذلك الزمن .. البعيد . يوم عمّت الفوضى، تلك المدينة الكبيرة .. وحين استعادوها – من الخارجين – كما كانوا يقولون . أخذوا .. يبحثون ، يفتشون ، ينقبون : في الشوارع ، في البيوت ، في الدّواخل ، وفي النفوسو، في سحنات الناس ، وفي ألوانهم. وفي الطريق العام ، كان إبني يسير .. حين أوقفوه ، عن اسمه : سألوه ، حين سمعوه أخذوه : ثم قتلوه . في ذات الطريق العام : قتلوه . أنا عرفت .. فيما بعد ، أنا عرفت .. ابني قتله لسانه .. ولم يقتله سلاحه . والآن: لا أنا ، ولا أهلي وناسي ، نملك سلاحنا، وإن كنا نملك لساننا ، ومثلنا أحفادي . ولكن أين هم الآن . لماذا لم يأتوا ، ليتفقدوني كعادتهم .. أثار تعجبي منهم ، وأندهاشي . أنهم في الأيام الأخيرة ، وبغير عادتهم وجدتهم، يتحلّقون حولي ، تحت ظل ، شجرتي الظليلة . أسعدوني بوجودهم قربي . ولكنهم أحزنوني بحواراتهم ، فعن طريقهم ، عرفت الحرب ، التي تدور حولنا ، عرفت بسببها .. أغلقت مدارسهم – وعرفت حينها سبب تحلقهم حولي – عرفت منهم ، أن الناس هناك ، يهربون من قراهم ، إلى الكهوف، في جبالهم يختبئون .
ما أدمى قلبى ، أن إثنان من أكبر أبنائي ، قد التحقا بها – تلك الحرب اللعينة – ما أدمى قلبى أكثر ، أن أحدهم ، يحارب في جانب ، والآخر في الجانب المقابل . وما أدمى قلبى ، أكثر وأكثر : أن اثنان من أحفادي ، تعاركا أمامي ، كُلٌ : دفاعاً عن والده . وأنا العاجز أصلاً ، وجدتني عاجزٌ عن الفهم ، وعاجزٌ أكثر ، عن وقف عِراكهما أمامي ، فقط .. ما قدرني عجزي عليه، أن دمعت عيناي ، كما الآن .. فقد دمعت عيناي ، لهذا الذي مر بخاطري ، حتى غامتا ، ولم تريا ، أصحاب تلك الأقدام ، التي أخذت تحوم حولي ، بل تتقدم نحوي ، أراهم الآن .. ينحني أربعة منهم ، تقبض أياديهم على أركان ، نقالتي الخشبية .. المتآكلة ، بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، أحسست بعدهاة، بارتفاعي المفاجئ عن الأرض ، بعنف لم أعهده ، في أحفادي ، حين يحملونني برفق ، ليتحركوا بي ، من موقع لآخر . وبعنف أقوى .. مشوا بي ، إلي أين؟.. لست أدري ، فقط مشوا بي ، ثم مشوا . ثم فجأة توقفوا ، ودون انتظار ، دون إنذار ، أطلق أربَعتُهم ، سراح أيديهم ، من أركان ، نقّالتي الخشبية .. المتآكلة ، بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، وبعنفٍ .. تركوني ارتطم بالأرض ، وقبل أن أفيق قليلاً ، انحنى اثنان منهم ، ومن جانب واحد ، من نقّالتي الخشبية ، دفعا بي إلى أسفل .. ولكن دون نقالتي الخشبية !!. ووجدتني داخل حفرة ، وإن لم تكن عميقة، لسرعة وصولي .. قاعها ، وحين أفقت .
وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس..!!
وبدأت أتبين ما حولي . أجساد محترقة ، إنهم أهلي .. ناسي. هؤلاء الأربعة .. إنهم أحفادي ، عرفتهم .. بإحساسي عرفتهم ببصيرتي . إثنان منهما ، متلاصقان .. متماسكان ، يحضنان بعضهما ، هل يا ترى ، كانا يتصافحان ، أم كانا يواصلان عراكهما .. لست أدري !!.. ما أدريه فقط الآن ، أن نظري وقع ، على جسد آخر . إنها زوجة حفيدي: صغير السن .. صغيرة السن ، وهي بكامل زينتها . تزوجها حفيدي، قبل عام مضى، أقام لهما والده حفل زواج ، ظل حديث قريتنا زماناً طويلاً ، رقص فيه الشباب .. فتياناً وفتيات ، كما لم يرقصوا من قبل ، استدعوا فيه ، كل موروثاتهم المتنوعة .. رقصاً وغناءً . ولكن .. ما أرى؟.. إنها دماء ، دماء على ساقيها ، دماء على فخذيها .. يا الهي .. لقد أتوها ، حتماً أتوها .. ولكني لا أدري .. إن كان أتوها ، قبل موتها.. أم بعد موتها .. أتوها . ظللت طيلة سنوات عجزي ، بالنية داخلي.. أصلّي. الآن.. على صباها أصلّي . وأنا أصلّي .. أتاني من خلفي أنين ، إنه أنين طفلة ، تيقنت منه ، إنه منبعث ، من ابنة حفيدتي .. آخر عهدي بها ، ذاك النهار ، جاءتني .. وتحت ظل شجرتي الظليلة ، علي الأرض ، جلست تحفر ، بأظافرها الرقيقة.. اذكرها ، حين التفتت نحوي ، نادتني ، جدي .. جدي.. " أنا جعانة ".. أخذني منها ، صوت آخر ، إنه هدير جرّافة ، أعرفها هذه الجرّافة ، عملت عليها أيام الجندية ، دائماً جاهزة ، هذه الجرّافة .. للحفر والردم .
- مالهم هؤلاء الناس !!.. هل سيدفنوننا، بهكذا عجلة !!.
تذكرت أجدادي.. في ذلك الزمن البعيد ، يحكون.. أن مواراة الميت الثرى عندهم ، تستغرق أياماً بلياليها ، يعدون حفرة الدفن ، بمرقدها .. يتوسدها الميت ، يحيطونه ببعض، مقتنياته الثمينة . أما هؤلاء .. فما اعجلهم !!.
أسمعها .. الجرّافة ، تتحرك.. تملأ جوفها ، بالرمل والحصى والتراب .. تتقدم نحونا ،
ولا يزال أنين حفيدتي يأتيني من خلفي ، والجرّافة تُفرِغ ما بجوفها ، في حفرتنا .. فيسكت الأنين . أصرخ أنا من داخلي .. يا هؤلاء:
هل جئتم تسكتون جوع حفيدتي ، أم جئتم تسكتون أنينها..؟؟
وعادت الجرّافة مرة اخرى ، بعد أن ملأت جوفها .. بالرمل والحصى والتراب .. وأفرغت حمولتها في حفرتنا ، وبعدها.. لم أعد أرى !!.
ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس ..!!
وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب .. وقبل أن تُفرِغ حمولتها ، صحت بكل قوتي ، ومن داخلي مرة اخرى .. أمهلني يا هذا ، حتى.. أتشهد !!. ولكنه .. لن يسمعني.. لم يسمعني . بل سمعته أنا.. يردد: "وقتلاهم في النار" .
ثم أفرغ حمولته ، في حفرتنا.
وبعدها .. لم أعد أسمع !!.
ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس ..!!
وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب.. وأفرغت ما في جوفها ، في حفرتنا .
وبعدها.. لم أعد حياً !! .
ولكني .. وجدتني ، ما زلت .. أتنفس !! .
***
*************
omeralhiwaig441@gmail.com
قصة قصيرة : بقلم / عمر الحويج
***
باغتنا الإنفجار ، جاءنا.. مدوياً ، من فوقنا . جاءنا .. عابراً سماءنا ، تلك التي ظلتو.. تظلل صفاءنا ، جاءنا مخترقاً جبالنا ، تلك التي أبداً ، كانت .. أماننا وحِمانا .
حينها .. تحولت قريتنا ، الوادعة ، إلي كتل من اللهب ، والنيران، والدخان .. تلتها ، لا بل رافقتها ، زخات من المطر الرصاص ، المنهمر علينا ، من كل أنواع الأسلحة، الخفيف منها ، و الثقيل .. أحاطنا من جميع أركاننا ، من أمامنا ، من خلفنا .. من يميننا ، من يسارنا ، أما من تحتنا ، فقد اهتزت ، بنا الأرض ومادت ، وكأنها زلزلت زلزالا، رجّتها أصوات الدبابات وحركتها الضاجة ، حين أخذت ، تخبط خبط عشواء ، في أرضنا .. في مساكننا .. في البشر والناس .. و حتى قطعاننا وطيرنا .
إلا، أنا .. وجدتني ، مازلت حياً.. أتنفس..!!
بدأت أتحسس ما حولي ، ببصري .. لا أري ، غير الدخان ، وألسنة النيران واللهب ، كما لا أسمع ، غير ضجيج الدبابات وهديرها ، وهي تجوب المكان هنا وهناك .. مسرعة .
لا أدري ، ما هو فاصل الزمن ، بين بداية الانفجار الأول .. وما تلاه . ولكني وجدت نفسي ، في الحالة الأخيرة ، التي كنت عليها ، حين حملني ، أحفادي الأربعة ، على ظهر ، نقّالتي الخشبية . المتآكلة ، بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، والتي صنعوها ، خصيصاً لحركتي اليومية – خاصة من . قُطّيتي .. سكني ، إلي حيث شجرتي الظليلة ، والتي تحتويني ، تحت ظلالها ، طيلة نهاري ، وبعض ليلي .
وحتماً .. أن شجرتي الظليلة ، هي التي حمتني .. أو ربما ، وأبقتني حياً ، بعد كل ما حدث .. وما يزال . وأنا الحي كميت منذ زمان مضى .. بعيد ، حين أصابني ذلك البلاء ، الذي شل كامل جسدي ، عن الحركة ، وترك لي فقط ، بعض من حواسي: عيناي.. اللتان ظلتا ، تخترقان بعض الضوء .. إلا قليلاً . وسمعي .. دون لساني .. وقلبي الذي يخفق .
وهكذا ، أنا .. وجدتني .. ما زلت حياً .. أتنفس..!!
إلا أن شجرتي الظليلة ، والتي حمتني.. أو ربما ، وأبقتني حياً . لم تستطع أن تحمي الآخرين . فهاأنذا، قد طال انتظاري، ولم يأت أحد، من أهلي ، حتى الآن ، ليتفقدني .. كما عودوني .
وأنا .. لا زلت ، لا أرى أمامي ، سوى الدخان .. والفضاء ، حالك السواد ، بعيني الغائمتين . فقط يخترق أذني ، ذلك الهدير الآتي ، من هياج الدبابات وما يلحق بها ، من الآليات العسكرية ، التي أعرفها جيداً ، وأكاد أحدد ، أنواعها.. فقط، من صوت، تحرك عجلاتها. ففي زمان مضى .. بعيد ، عملت جندياً ، بعد تجوالي ، في العديد من المهن ، السفلى منها والأسفل . أذكر في ذلك العهد .. البعيد ، كانوا أيضاً يدفعون بنا دفعاً ، لاقتحام القرى والمدن . لنقتل ونحرق ، في تلك الأنحاء البعيدة .. كبعدنا الآن، عن هؤلاء الذين جاءوا ، لحرقنا وقتلنا.. لماذا ؟؟ لست أدري . ما أدريه الآن فقط ، أن كل ما حولي ، أضحى هامدا ، خامدا.. ومتلاشيا . أين يا ترى ، اختفى نبض قريتي ، الذي كان يحتويني - رغم عجزي ، وقلة حيلتي – بدفئه وحنيته ، أين أهلي؟؟.. أين ناسي؟؟ أين حتى ، قطعاننا وطيورنا؟. فأنا لا أسمع لها : خواراً أو صهيلاً ، نهيقاً أو نقيقاً.... ولكني الآن أسمع .. لقد أتتني ، أصوات أقدام ، تتقدم نحوي ، بخطوات منتظمة ، وأخرى مهرولة .. بل بدأت ، أسمع أصوات أصحابها ، يتصايحون .. يتجادلون .. يأمر بعضهم ، ويأتمر البعض الآخر.. عرفتهم ، من أصواتهم .. عرفتهم، من لسانهم .. الذي به ينطقون ، نعم عرفتهم . لقد عذبني ، هذا اللسان كثيراً : ابني الصغير ، أصغر أبنائي .. في ذلك الزمن .. البعيد . يوم عمّت الفوضى، تلك المدينة الكبيرة .. وحين استعادوها – من الخارجين – كما كانوا يقولون . أخذوا .. يبحثون ، يفتشون ، ينقبون : في الشوارع ، في البيوت ، في الدّواخل ، وفي النفوسو، في سحنات الناس ، وفي ألوانهم. وفي الطريق العام ، كان إبني يسير .. حين أوقفوه ، عن اسمه : سألوه ، حين سمعوه أخذوه : ثم قتلوه . في ذات الطريق العام : قتلوه . أنا عرفت .. فيما بعد ، أنا عرفت .. ابني قتله لسانه .. ولم يقتله سلاحه . والآن: لا أنا ، ولا أهلي وناسي ، نملك سلاحنا، وإن كنا نملك لساننا ، ومثلنا أحفادي . ولكن أين هم الآن . لماذا لم يأتوا ، ليتفقدوني كعادتهم .. أثار تعجبي منهم ، وأندهاشي . أنهم في الأيام الأخيرة ، وبغير عادتهم وجدتهم، يتحلّقون حولي ، تحت ظل ، شجرتي الظليلة . أسعدوني بوجودهم قربي . ولكنهم أحزنوني بحواراتهم ، فعن طريقهم ، عرفت الحرب ، التي تدور حولنا ، عرفت بسببها .. أغلقت مدارسهم – وعرفت حينها سبب تحلقهم حولي – عرفت منهم ، أن الناس هناك ، يهربون من قراهم ، إلى الكهوف، في جبالهم يختبئون .
ما أدمى قلبى ، أن إثنان من أكبر أبنائي ، قد التحقا بها – تلك الحرب اللعينة – ما أدمى قلبى أكثر ، أن أحدهم ، يحارب في جانب ، والآخر في الجانب المقابل . وما أدمى قلبى ، أكثر وأكثر : أن اثنان من أحفادي ، تعاركا أمامي ، كُلٌ : دفاعاً عن والده . وأنا العاجز أصلاً ، وجدتني عاجزٌ عن الفهم ، وعاجزٌ أكثر ، عن وقف عِراكهما أمامي ، فقط .. ما قدرني عجزي عليه، أن دمعت عيناي ، كما الآن .. فقد دمعت عيناي ، لهذا الذي مر بخاطري ، حتى غامتا ، ولم تريا ، أصحاب تلك الأقدام ، التي أخذت تحوم حولي ، بل تتقدم نحوي ، أراهم الآن .. ينحني أربعة منهم ، تقبض أياديهم على أركان ، نقالتي الخشبية .. المتآكلة ، بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، أحسست بعدهاة، بارتفاعي المفاجئ عن الأرض ، بعنف لم أعهده ، في أحفادي ، حين يحملونني برفق ، ليتحركوا بي ، من موقع لآخر . وبعنف أقوى .. مشوا بي ، إلي أين؟.. لست أدري ، فقط مشوا بي ، ثم مشوا . ثم فجأة توقفوا ، ودون انتظار ، دون إنذار ، أطلق أربَعتُهم ، سراح أيديهم ، من أركان ، نقّالتي الخشبية .. المتآكلة ، بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، وبعنفٍ .. تركوني ارتطم بالأرض ، وقبل أن أفيق قليلاً ، انحنى اثنان منهم ، ومن جانب واحد ، من نقّالتي الخشبية ، دفعا بي إلى أسفل .. ولكن دون نقالتي الخشبية !!. ووجدتني داخل حفرة ، وإن لم تكن عميقة، لسرعة وصولي .. قاعها ، وحين أفقت .
وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس..!!
وبدأت أتبين ما حولي . أجساد محترقة ، إنهم أهلي .. ناسي. هؤلاء الأربعة .. إنهم أحفادي ، عرفتهم .. بإحساسي عرفتهم ببصيرتي . إثنان منهما ، متلاصقان .. متماسكان ، يحضنان بعضهما ، هل يا ترى ، كانا يتصافحان ، أم كانا يواصلان عراكهما .. لست أدري !!.. ما أدريه فقط الآن ، أن نظري وقع ، على جسد آخر . إنها زوجة حفيدي: صغير السن .. صغيرة السن ، وهي بكامل زينتها . تزوجها حفيدي، قبل عام مضى، أقام لهما والده حفل زواج ، ظل حديث قريتنا زماناً طويلاً ، رقص فيه الشباب .. فتياناً وفتيات ، كما لم يرقصوا من قبل ، استدعوا فيه ، كل موروثاتهم المتنوعة .. رقصاً وغناءً . ولكن .. ما أرى؟.. إنها دماء ، دماء على ساقيها ، دماء على فخذيها .. يا الهي .. لقد أتوها ، حتماً أتوها .. ولكني لا أدري .. إن كان أتوها ، قبل موتها.. أم بعد موتها .. أتوها . ظللت طيلة سنوات عجزي ، بالنية داخلي.. أصلّي. الآن.. على صباها أصلّي . وأنا أصلّي .. أتاني من خلفي أنين ، إنه أنين طفلة ، تيقنت منه ، إنه منبعث ، من ابنة حفيدتي .. آخر عهدي بها ، ذاك النهار ، جاءتني .. وتحت ظل شجرتي الظليلة ، علي الأرض ، جلست تحفر ، بأظافرها الرقيقة.. اذكرها ، حين التفتت نحوي ، نادتني ، جدي .. جدي.. " أنا جعانة ".. أخذني منها ، صوت آخر ، إنه هدير جرّافة ، أعرفها هذه الجرّافة ، عملت عليها أيام الجندية ، دائماً جاهزة ، هذه الجرّافة .. للحفر والردم .
- مالهم هؤلاء الناس !!.. هل سيدفنوننا، بهكذا عجلة !!.
تذكرت أجدادي.. في ذلك الزمن البعيد ، يحكون.. أن مواراة الميت الثرى عندهم ، تستغرق أياماً بلياليها ، يعدون حفرة الدفن ، بمرقدها .. يتوسدها الميت ، يحيطونه ببعض، مقتنياته الثمينة . أما هؤلاء .. فما اعجلهم !!.
أسمعها .. الجرّافة ، تتحرك.. تملأ جوفها ، بالرمل والحصى والتراب .. تتقدم نحونا ،
ولا يزال أنين حفيدتي يأتيني من خلفي ، والجرّافة تُفرِغ ما بجوفها ، في حفرتنا .. فيسكت الأنين . أصرخ أنا من داخلي .. يا هؤلاء:
هل جئتم تسكتون جوع حفيدتي ، أم جئتم تسكتون أنينها..؟؟
وعادت الجرّافة مرة اخرى ، بعد أن ملأت جوفها .. بالرمل والحصى والتراب .. وأفرغت حمولتها في حفرتنا ، وبعدها.. لم أعد أرى !!.
ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس ..!!
وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب .. وقبل أن تُفرِغ حمولتها ، صحت بكل قوتي ، ومن داخلي مرة اخرى .. أمهلني يا هذا ، حتى.. أتشهد !!. ولكنه .. لن يسمعني.. لم يسمعني . بل سمعته أنا.. يردد: "وقتلاهم في النار" .
ثم أفرغ حمولته ، في حفرتنا.
وبعدها .. لم أعد أسمع !!.
ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس ..!!
وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها.. بالرمل والحصى والتراب.. وأفرغت ما في جوفها ، في حفرتنا .
وبعدها.. لم أعد حياً !! .
ولكني .. وجدتني ، ما زلت .. أتنفس !! .
***
*************
omeralhiwaig441@gmail.com