عهد تقدم والدعم السريع: شي من لا شي
د. مجدي الجزولي
5 January, 2024
5 January, 2024
بشر علمان من أعلام تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية يوم الأربعاء ٣ يناير الناس بفرصة تاريخية لنهاية آخر حروب السودان في قول أحدهما على أساس من الإعلان الموقع بين التنسيقية وبين قائد قوات الدعم السريع في أديس أبابا في ٢ يناير ٢٠٢٤. نقلت الأخبار عن الدكتور عبد الله حمدوك، زعيم التنسيقية، قوله إن الإعلان الذي مهره بتوقيعه إلى جانب توقيع محمد حمدان دقلو فرصة السلام التي يجب على الجميع اغتنامها، وكتب ياسر عرمان، زعيم الفصيل المنشق عن أحد الجناحين المتخاصمين للحركة الشعبية لتحرير السودان في شمال السودان المنقطعة عن الحركة الشعبية لتحرير السودان الأم لصاحبها المرحوم جون قرنق و«القيادي» بأحد جناحي تحالف قوى الحرية التغيير، أن الإعلان كذلك فرصة تاريخية لتجاوز المرارات وطي صفحة الحرب...الخ.
اختبار المقولات، مهما زانتها البلاغة الوقائع. للزعيمين تاريخ قريب مع الفرص التاريخية إذا صح التعبير. تسنم الدكتور عبد الله حمدوك قيادة الجهاز التنفيذي في الخرطوم وليس أديس أبابا بفضل الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس عمر البشير في ٢٠١٩ وانعقد له لواء قيادة جهاز الدولة، بجيشه ودعمه السريع، من مكتب على شاطئ النيل السعيد. يسرت فدائية الآلاف تلك الفرصة التاريخية، بينهم والدكتور حمدوك عهد مهرته النفوس. لم يخلفوا وعدهم حتى بعد انشقاق تحالف الحرية والتغيير فصين متناحرين ثم انقلاب الجيش والدعم السريع المشترك على حكومة تحالف الحرية والتغيير في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ التي انكسر صفها من باطن. وتجدد فداءهم بنفس تلو الأخرى، حتى فض الدكتور حمدوك نفسه هذا العهد من جانبه في ٢١ نوفمبر ٢٠٢١، ثم نفض يده عن الأمر كله في يناير ٢٠٢٢ وقال ساعتها أنه لم يستطع تحقيق الاتفاق المأمول الذي تصوره وقَدَّر أن يخلي الساحة لغيره.
نهضت لنصرة الزعيم ياسر عرمان قبلها بحوالي عشرة أعوام آلاف أخرى، الأعمى شايل المكسر، في حملته «الأمل والتغيير» مرشحا لرئاسة جمهورية السودان عن الحركة الشعبية لتحرير السودان في انتخابات العام ٢٠١٠. وكانت تلك مدار التحول الديمقراطي ضمن الفرصة التاريخية التي مثلتها اتفاقية السلام الشامل للعام ٢٠٠٥ بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان التي انتهت إلى الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان ثم استقلاله في ٢٠١١. قامت لنصرة الزعيم ياسر عرمان وقتها، أملا في التحول الديمقراطي، الكتلة التي يكرر منذئذ النشيد باسمها، من النساء والشباب والطلاب ونازحين وغلابة. لكن، فَضَّل ياسر عرمان تفويت «الفرصة التاريخية» التي انعقد له لواءها وانسحب من الانتخابات وقت احتد صراعها بِراً بحسابات الحركة الشعبية الأم وقتها.
لكل من الزعيمين بطبيعة الحال أسبابا ظرفية وحوادث لتعليل تحللهما من عهد الجماهير في ساعة أزمة، وعادا كل على طريقته يتوسلان فرصة تاريخية أخري ويبشران؛ هذه المرة من غزلهما الخاص مع قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو في صالون سياسي في أديس أبابا، خالي جماهير. فما هي هذه «الفرصة التاريخية» التي ضمها عهد التنسيقية مع قائد قوات الدعم السريع إذن؟
ضم العهد الموقع بين التنسيقية والدعم السريع أهدافا عديدة جاءت بأكثر من صيغة: "إيقاف الحرب ومعالجة آثارها المدمرة، وتحقيق السلام، والعودة إلى مسار التحول الديمقراطي" ثم "إنهاء الحرب وجعلها آخر الحروب في السودان، واستكمال وتعميق مسار ثورة ديسمبر المجيدة بتحقيق ما يستحقه شعب السودان من حكم مدني ديمقراطي، ومواطنة متساوية، وعدالة في توزيع السلطة والثروة، وازدهار اقتصادي وسلم وطيد وحلول مستدامة لأزمات السودان" ثم "جيش واحد مهني وقومي يعبر عن كل السودانيين وفقا لمعيار التعداد السكاني ويخضع للسلطة المدنية ويدرك واجباتها ومهامها وفقا للدستور" و"ضمان خروج المنظومة الأمنية (القوات المسلحة والدعم السريع والشرطة وجهاز المخابرات) من النشاط السياسي والاقتصادي." قال العقد أن التنسيقية ستطرح هذه الأمور على قيادة القوات المسلحة لتكون "أساسا لحل سلمي ينهي الحرب."
أما وعود العهد المباشرة فهو ما قال نصه أن قوات الدعم السريع على استعداد للقيام به في سبيل هذه الأهداف: "وقف عدائيات فوري غير مشروط عبر تفاوض مباشر مع القوات المسلحة"، و"فتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية" و"تهيئة الأجواء لعودة المواطنين/ات لمنازلهم في المناطق التي تأثرت بالحرب (الخرطوم، دارفور، كردفان، الجزيرة) وذلك بتوفير الأمن عبر نشر قوات الشرطة في المناطق المدنية، وتشغيل المرافق الخدمية والإنتاجية"، و"تشكيل إدارات مدنية بتوافق أهل المناطق المتأثرة بالحرب، تتولى مهمة ضمان عودة الحياة لطبيعتها وتوفير الاحتياجات الأساسية للمدنيين."
وكل ذلك رهين ببيروقراطية عظيمة قوامها عدد من اللجان: "اللجنة الوطنية لحماية المدنيين وتتولى مهام متابعة عودة المواطنين/ات لمنازلهم وتأمين تشغيل الأسواق والمستشفيات والمرافق الخدمية وتحديد مسارات عبور المساعدات الإنسانية وضمان وصولها"؛ "اللجنة المشتركة للوصول لوقف وإنهاء الحرب وبناء السلام المستدام ومتابعة تنفيذ ما اتفق عليه" في إعلان أديس أبابا؛ "اللجنة الوطنية الدولية للتحقيق حول من أشعل الحرب"؛ و"اللجنة الوطنية المستقلة لرصد كافة الانتهاكات في جميع أنحاء السودان وتحديد المسؤولين عن ارتكابها وذلك بما يضمن محاسبتهم."
كما سبقت التجربة مع «الفرصة التاريخية» لكل من الزعيمين، الدكتور عبد الله حمدوك وياسر عرمان، سبقت كذلك مع اللجان التي يوكل إليها أمر مسألة فتُطمس حتى صار "التلجين" مفهوما وعبارة. أنشأ الدكتور عبد الله حمدوك من موقعه كرئيس للوزراء لجنة للتحقيق في أحداث فض اعتصام القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩، الواقعة المركزية في فدائية ثورة ديسمبر التي قامت عليها مشروعية موقعه. لم تنته هذه اللجنة إلى أي نتيجة تذكر تحت مسؤوليته حتى انفضت حكومة الدكتور حمدوك بانشقاق الحرية التغيير ثم الانقلاب في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ وتوقفت اللجنة عن العمل بحسب رئيسها نبيل أديب المحامي في مارس ٢٠٢٢ احتجاجا على اقتحام قوات أمنية لمقرها في الخرطوم.
كما أنشأ الدكتور عبد الله حمدوك في أغسطس ٢٠٢١ لجنة أخرى باسم الآلية الوطنية لتنفيذ مبادرته "الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام" التي كان أعلن عنها في يونيو ٢٠٢١، لجنة كان عرابها ياسر عرمان الذي دخل ديوان الحكم في يوليو ٢٠٢١ مستشارا سياسيا لرئيس الوزراء. قال ياسر عرمان، المرشح الرئاسي المنسحب في ٢٠١٠، وقتها أنه رفض تقلد منصبي وزير الخارجية والإعلام وجاء تعيينه ضمن تفاهم بينه وبين رئيس الوزراء. أثار تكوين الآلية (٧١ عضوا) حفيظة الحركات المسلحة التي كانت في تحالف الحرية والتغيير وانضمت إلى الحكم عبر قنطرة اتفاق السلام في أكتوبر ٢٠٢٠. كانت الحركات المسلحة علقت عضويتها في المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير في يونيو ٢٠٢١. وجاءت مبادرة الدكتور عبد الله حمدوك من موقع رئيس الوزراء لرتق الفتق فزادته حتى تأكد بالانشقاق في أكتوبر ٢٠٢١ بين جناحين، جناح المجلس المركزي بإعلانه السياسي في سبتمبر ٢٠٢١ وجناح الميثاق الوطني (لاحقا الكتلة الديمقراطية) بميثاق آخر في أول أكتوبر ٢٠٢١.
أخلف الدكتور حمدوك وهو رئيس وزراء وعده بتحقيق العدالة في مقتلة فض الاعتصام وأخفق الاثنان، عبد الله حمدوك وياسر عرمان، في تأمين سلامة التحالف السياسي الذي بلغ بهما أعلى مواقع المسؤولية التنفيذية تحت شروط السلم حتى انفرط بين أيديهما فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون. فما الدلالة أن لجنة يمكن أن تقوم بالمهام التي وردت في العهد بين التنسيقية وقائد الدعم السريع، وبأي شوكة؟ وبطبيعة الحال يتساءل كل من سلبت قوات الدعم السريع داره ونهبت ماله وطردته من وطنه كيف يسترد داره أقلها؟ أيعود إلى داره في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع ويطرق الباب فيخرج من احتله «زندية» ويغادر من تلقاء نفسه، حبا وكرامة، ذلك إن وجد الدار قائمة؛ أم يتقدم بطلب للإدارات «المدنية» التي يشكلها الدعم السريع نفسه في مناطق سيطرته؛ أم يتوسل الشخصيات القومية الداعمة لوقف الحرب والتي عليها متابعة "إجراءات عودة المدنيين لمنازلهم" تتوسط عند قادة الدعم السريع أم ينتظر حتى تنتهي تحقيقات اللجنة الوطنية لرصد كافة الانتهاكات ويرجو جبر الضرر؟ وكيف يستقيم كل ذلك عبر جغرافية تمتد من الخرطوم ذات التسعة ملايين نفس وقت اندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٢ حتى الجنينة التي لن تستطيع جثث أهلها العودة إلى الديار ولو قالت بذلك لجان حمدوك ودقلو؟ لن يبارح المعقول من يحكم بأن كل ما سبق «كلام ساكت»، لا يبلغ مقدار البرق الخُلّب حتى.
فما هو وعد عهد التنسيقية وقائد قوات الدعم السريع إذن؟ لا تجد معنى العهد الذي وقعه الطرفان في نصه، ولذا ربما لم يكترث من صاغه بإحسان هذه الصياغة فديباجته وقضاياه وآلياته مضطربة بعضها فوق بعض، لكنه أحسن طمس كل ما يتصل بمسؤولية قائد الدعم السريع عما وقع بيد قواته و«تلجين» هذه المسؤولية وتبضيعها، وأطلق أملا، أملا في نهاية الألم، أملا في السلام! غزل عهد التنسيقية وقائد الدعم السريع إذن نسيجا رقيقا بين صدمة الحرب والأمل في الخلاص منها و«التطبيع» مع الدعم السريع، جرائمه، مكاسبه، إنجازاته بأي زاوية نظرت ومن أي موقع، ففي تصوير عهد التنسيقية وقائد قوات الدعم السريع الحقيقة خلاصة ثانوية من «السرد» و«الصورة» لكن لا قوام موضوعي لها، ولا يمكن التعرف عليها، وإن بانت في وسط النهار شمسا ساطعا، إلا بطقوس لجنة وطنية دولية خاصة مستقلة من شخصيات قومية داعمة لوقف الحرب...الخ.
عرضت الدكتورة ناومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة" (٢٠٠٧) لفاعلية العنف الصادم في ترويض مجتمعات بحالها، بل تصفية تكوينها المعلوم، للقبول بما لا يمكن أن تقبله تحت ظروف معتادة. وعددت ضمن ذلك كوارث طبيعية ومصنوعة، بما في ذلك الحرب كما في الغزو الأميركي للعراق في العام ٢٠٠٣ والذي انتهى ضمن أهداف أخرى إلى تصفية الجيش العراقي وتصفية الملكية العامة تحت إدارة الدولة العراقية وتحويلها بالجملة إلى ملكية الصفوة الجديدة الوكيلة للولايات المتحدة الأميركية. قالت كلاين عن التجربة العراقية أنها أوسع وأشمل تطبيق لعقيدة الصدمة وفصلت في شأن التمرد الطويل والمستمر حتى اليوم في صور مختلفة ضد النظام الخالف في العراق. لذلك ربما، جاز للمراقب أن ينظر في الصلة بين عهد التنسيقية وقائد الدعم السريع في ٣ يناير ٢٠٢٤ ومناقشة البرنامج الاقتصادي لجماعة التنسيقية في «ورشة» أخرى انعقدت في نيروبي أول ديسمبر ٢٠٢٣ تحت لافتة تشاتهام هاوس، المعهد الملكي (البريطاني) للعلاقات الدولية، والتخريب المنهجي للبنية التحتية للزراعة في حوض الجزيرة المروي بيد جنود قائد الدعم السريع.
m.elgizouli@gmail.com
اختبار المقولات، مهما زانتها البلاغة الوقائع. للزعيمين تاريخ قريب مع الفرص التاريخية إذا صح التعبير. تسنم الدكتور عبد الله حمدوك قيادة الجهاز التنفيذي في الخرطوم وليس أديس أبابا بفضل الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس عمر البشير في ٢٠١٩ وانعقد له لواء قيادة جهاز الدولة، بجيشه ودعمه السريع، من مكتب على شاطئ النيل السعيد. يسرت فدائية الآلاف تلك الفرصة التاريخية، بينهم والدكتور حمدوك عهد مهرته النفوس. لم يخلفوا وعدهم حتى بعد انشقاق تحالف الحرية والتغيير فصين متناحرين ثم انقلاب الجيش والدعم السريع المشترك على حكومة تحالف الحرية والتغيير في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ التي انكسر صفها من باطن. وتجدد فداءهم بنفس تلو الأخرى، حتى فض الدكتور حمدوك نفسه هذا العهد من جانبه في ٢١ نوفمبر ٢٠٢١، ثم نفض يده عن الأمر كله في يناير ٢٠٢٢ وقال ساعتها أنه لم يستطع تحقيق الاتفاق المأمول الذي تصوره وقَدَّر أن يخلي الساحة لغيره.
نهضت لنصرة الزعيم ياسر عرمان قبلها بحوالي عشرة أعوام آلاف أخرى، الأعمى شايل المكسر، في حملته «الأمل والتغيير» مرشحا لرئاسة جمهورية السودان عن الحركة الشعبية لتحرير السودان في انتخابات العام ٢٠١٠. وكانت تلك مدار التحول الديمقراطي ضمن الفرصة التاريخية التي مثلتها اتفاقية السلام الشامل للعام ٢٠٠٥ بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان التي انتهت إلى الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان ثم استقلاله في ٢٠١١. قامت لنصرة الزعيم ياسر عرمان وقتها، أملا في التحول الديمقراطي، الكتلة التي يكرر منذئذ النشيد باسمها، من النساء والشباب والطلاب ونازحين وغلابة. لكن، فَضَّل ياسر عرمان تفويت «الفرصة التاريخية» التي انعقد له لواءها وانسحب من الانتخابات وقت احتد صراعها بِراً بحسابات الحركة الشعبية الأم وقتها.
لكل من الزعيمين بطبيعة الحال أسبابا ظرفية وحوادث لتعليل تحللهما من عهد الجماهير في ساعة أزمة، وعادا كل على طريقته يتوسلان فرصة تاريخية أخري ويبشران؛ هذه المرة من غزلهما الخاص مع قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو في صالون سياسي في أديس أبابا، خالي جماهير. فما هي هذه «الفرصة التاريخية» التي ضمها عهد التنسيقية مع قائد قوات الدعم السريع إذن؟
ضم العهد الموقع بين التنسيقية والدعم السريع أهدافا عديدة جاءت بأكثر من صيغة: "إيقاف الحرب ومعالجة آثارها المدمرة، وتحقيق السلام، والعودة إلى مسار التحول الديمقراطي" ثم "إنهاء الحرب وجعلها آخر الحروب في السودان، واستكمال وتعميق مسار ثورة ديسمبر المجيدة بتحقيق ما يستحقه شعب السودان من حكم مدني ديمقراطي، ومواطنة متساوية، وعدالة في توزيع السلطة والثروة، وازدهار اقتصادي وسلم وطيد وحلول مستدامة لأزمات السودان" ثم "جيش واحد مهني وقومي يعبر عن كل السودانيين وفقا لمعيار التعداد السكاني ويخضع للسلطة المدنية ويدرك واجباتها ومهامها وفقا للدستور" و"ضمان خروج المنظومة الأمنية (القوات المسلحة والدعم السريع والشرطة وجهاز المخابرات) من النشاط السياسي والاقتصادي." قال العقد أن التنسيقية ستطرح هذه الأمور على قيادة القوات المسلحة لتكون "أساسا لحل سلمي ينهي الحرب."
أما وعود العهد المباشرة فهو ما قال نصه أن قوات الدعم السريع على استعداد للقيام به في سبيل هذه الأهداف: "وقف عدائيات فوري غير مشروط عبر تفاوض مباشر مع القوات المسلحة"، و"فتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية" و"تهيئة الأجواء لعودة المواطنين/ات لمنازلهم في المناطق التي تأثرت بالحرب (الخرطوم، دارفور، كردفان، الجزيرة) وذلك بتوفير الأمن عبر نشر قوات الشرطة في المناطق المدنية، وتشغيل المرافق الخدمية والإنتاجية"، و"تشكيل إدارات مدنية بتوافق أهل المناطق المتأثرة بالحرب، تتولى مهمة ضمان عودة الحياة لطبيعتها وتوفير الاحتياجات الأساسية للمدنيين."
وكل ذلك رهين ببيروقراطية عظيمة قوامها عدد من اللجان: "اللجنة الوطنية لحماية المدنيين وتتولى مهام متابعة عودة المواطنين/ات لمنازلهم وتأمين تشغيل الأسواق والمستشفيات والمرافق الخدمية وتحديد مسارات عبور المساعدات الإنسانية وضمان وصولها"؛ "اللجنة المشتركة للوصول لوقف وإنهاء الحرب وبناء السلام المستدام ومتابعة تنفيذ ما اتفق عليه" في إعلان أديس أبابا؛ "اللجنة الوطنية الدولية للتحقيق حول من أشعل الحرب"؛ و"اللجنة الوطنية المستقلة لرصد كافة الانتهاكات في جميع أنحاء السودان وتحديد المسؤولين عن ارتكابها وذلك بما يضمن محاسبتهم."
كما سبقت التجربة مع «الفرصة التاريخية» لكل من الزعيمين، الدكتور عبد الله حمدوك وياسر عرمان، سبقت كذلك مع اللجان التي يوكل إليها أمر مسألة فتُطمس حتى صار "التلجين" مفهوما وعبارة. أنشأ الدكتور عبد الله حمدوك من موقعه كرئيس للوزراء لجنة للتحقيق في أحداث فض اعتصام القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩، الواقعة المركزية في فدائية ثورة ديسمبر التي قامت عليها مشروعية موقعه. لم تنته هذه اللجنة إلى أي نتيجة تذكر تحت مسؤوليته حتى انفضت حكومة الدكتور حمدوك بانشقاق الحرية التغيير ثم الانقلاب في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ وتوقفت اللجنة عن العمل بحسب رئيسها نبيل أديب المحامي في مارس ٢٠٢٢ احتجاجا على اقتحام قوات أمنية لمقرها في الخرطوم.
كما أنشأ الدكتور عبد الله حمدوك في أغسطس ٢٠٢١ لجنة أخرى باسم الآلية الوطنية لتنفيذ مبادرته "الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام" التي كان أعلن عنها في يونيو ٢٠٢١، لجنة كان عرابها ياسر عرمان الذي دخل ديوان الحكم في يوليو ٢٠٢١ مستشارا سياسيا لرئيس الوزراء. قال ياسر عرمان، المرشح الرئاسي المنسحب في ٢٠١٠، وقتها أنه رفض تقلد منصبي وزير الخارجية والإعلام وجاء تعيينه ضمن تفاهم بينه وبين رئيس الوزراء. أثار تكوين الآلية (٧١ عضوا) حفيظة الحركات المسلحة التي كانت في تحالف الحرية والتغيير وانضمت إلى الحكم عبر قنطرة اتفاق السلام في أكتوبر ٢٠٢٠. كانت الحركات المسلحة علقت عضويتها في المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير في يونيو ٢٠٢١. وجاءت مبادرة الدكتور عبد الله حمدوك من موقع رئيس الوزراء لرتق الفتق فزادته حتى تأكد بالانشقاق في أكتوبر ٢٠٢١ بين جناحين، جناح المجلس المركزي بإعلانه السياسي في سبتمبر ٢٠٢١ وجناح الميثاق الوطني (لاحقا الكتلة الديمقراطية) بميثاق آخر في أول أكتوبر ٢٠٢١.
أخلف الدكتور حمدوك وهو رئيس وزراء وعده بتحقيق العدالة في مقتلة فض الاعتصام وأخفق الاثنان، عبد الله حمدوك وياسر عرمان، في تأمين سلامة التحالف السياسي الذي بلغ بهما أعلى مواقع المسؤولية التنفيذية تحت شروط السلم حتى انفرط بين أيديهما فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون. فما الدلالة أن لجنة يمكن أن تقوم بالمهام التي وردت في العهد بين التنسيقية وقائد الدعم السريع، وبأي شوكة؟ وبطبيعة الحال يتساءل كل من سلبت قوات الدعم السريع داره ونهبت ماله وطردته من وطنه كيف يسترد داره أقلها؟ أيعود إلى داره في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع ويطرق الباب فيخرج من احتله «زندية» ويغادر من تلقاء نفسه، حبا وكرامة، ذلك إن وجد الدار قائمة؛ أم يتقدم بطلب للإدارات «المدنية» التي يشكلها الدعم السريع نفسه في مناطق سيطرته؛ أم يتوسل الشخصيات القومية الداعمة لوقف الحرب والتي عليها متابعة "إجراءات عودة المدنيين لمنازلهم" تتوسط عند قادة الدعم السريع أم ينتظر حتى تنتهي تحقيقات اللجنة الوطنية لرصد كافة الانتهاكات ويرجو جبر الضرر؟ وكيف يستقيم كل ذلك عبر جغرافية تمتد من الخرطوم ذات التسعة ملايين نفس وقت اندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٢ حتى الجنينة التي لن تستطيع جثث أهلها العودة إلى الديار ولو قالت بذلك لجان حمدوك ودقلو؟ لن يبارح المعقول من يحكم بأن كل ما سبق «كلام ساكت»، لا يبلغ مقدار البرق الخُلّب حتى.
فما هو وعد عهد التنسيقية وقائد قوات الدعم السريع إذن؟ لا تجد معنى العهد الذي وقعه الطرفان في نصه، ولذا ربما لم يكترث من صاغه بإحسان هذه الصياغة فديباجته وقضاياه وآلياته مضطربة بعضها فوق بعض، لكنه أحسن طمس كل ما يتصل بمسؤولية قائد الدعم السريع عما وقع بيد قواته و«تلجين» هذه المسؤولية وتبضيعها، وأطلق أملا، أملا في نهاية الألم، أملا في السلام! غزل عهد التنسيقية وقائد الدعم السريع إذن نسيجا رقيقا بين صدمة الحرب والأمل في الخلاص منها و«التطبيع» مع الدعم السريع، جرائمه، مكاسبه، إنجازاته بأي زاوية نظرت ومن أي موقع، ففي تصوير عهد التنسيقية وقائد قوات الدعم السريع الحقيقة خلاصة ثانوية من «السرد» و«الصورة» لكن لا قوام موضوعي لها، ولا يمكن التعرف عليها، وإن بانت في وسط النهار شمسا ساطعا، إلا بطقوس لجنة وطنية دولية خاصة مستقلة من شخصيات قومية داعمة لوقف الحرب...الخ.
عرضت الدكتورة ناومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة" (٢٠٠٧) لفاعلية العنف الصادم في ترويض مجتمعات بحالها، بل تصفية تكوينها المعلوم، للقبول بما لا يمكن أن تقبله تحت ظروف معتادة. وعددت ضمن ذلك كوارث طبيعية ومصنوعة، بما في ذلك الحرب كما في الغزو الأميركي للعراق في العام ٢٠٠٣ والذي انتهى ضمن أهداف أخرى إلى تصفية الجيش العراقي وتصفية الملكية العامة تحت إدارة الدولة العراقية وتحويلها بالجملة إلى ملكية الصفوة الجديدة الوكيلة للولايات المتحدة الأميركية. قالت كلاين عن التجربة العراقية أنها أوسع وأشمل تطبيق لعقيدة الصدمة وفصلت في شأن التمرد الطويل والمستمر حتى اليوم في صور مختلفة ضد النظام الخالف في العراق. لذلك ربما، جاز للمراقب أن ينظر في الصلة بين عهد التنسيقية وقائد الدعم السريع في ٣ يناير ٢٠٢٤ ومناقشة البرنامج الاقتصادي لجماعة التنسيقية في «ورشة» أخرى انعقدت في نيروبي أول ديسمبر ٢٠٢٣ تحت لافتة تشاتهام هاوس، المعهد الملكي (البريطاني) للعلاقات الدولية، والتخريب المنهجي للبنية التحتية للزراعة في حوض الجزيرة المروي بيد جنود قائد الدعم السريع.
m.elgizouli@gmail.com