“عوة” العسكريين وقفت فاجتنبوها (1/2)
د.عبد الله علي ابراهيم
27 February, 2023
27 February, 2023
طغى في الأسبوع الماضي نقاش المبارزة بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة السودانية، والفريق أول دعم سريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبه بمجلس السيادة على ما عداها في الوسائط السودانية. وكان اللافت استعداد دوائر وأفراد مدنية كثيرة لاستقطاب نفسها لطرف دون الآخر في تلك المماحكة. ولا جديد في هذا منذ صار العسكريون فينا لعقود ممن تهوى لهم أفئدة صفوة السياسة، وترهن بهم الخلاص من مآزقنا السياسة.
فقد أفرغت الديكتاتوريات المتطاولة والانقلابات، والحركات المسلحة عليها، فكرنا السياسي من ملكة النظر المستقل، ومن موقعه الخاص، ليرى أبعد من الإرادات العسكرية. فأعتاد السياسي والمهني في النظام الحاكم وحزبه أن يلجم نفسه بنفسه دون المجازفة برأي يشق درباً غير مطروق. واتصلت هجرة السياسي الصفوي المعارض من حيث هو إلى كهوف الحركات المسلحة آملاً خدمتها بالرأي في شروطها غير المواتية لحرية التعبير.
لم يشقق الفريق أول ياسر العطا، عضو مجلس السيادة، الكلام. فقال إن خلاف البرهان وحميدتي سياسي. وقد تستغرب أن يخرج للتعبئة السياسية من كره مثل العسكر هذه الخصومة في السياسيين ورماهم بخراب البلد بأثرها. وكانت حماية هذه البلد من وعثاء خصومة السياسيين وفسادهم هو ما انتدب الجيش نفسه له حباً وكرامة.
يقول السودانيون لمن علا صوتهم حجاجاً "عوتهم وقفت". ولو فحصنا هذه "العوة" المنعقدة فوق رؤوسنا لاتفق لنا أننا ربما بسطنا أمر العسكريين حين نطالبهم بمغادرة ميدان السياسة والعود لثكناتهم. ومتى صدقنا زعمهم بتخليهم عن السياسة نكون قد بسطنا الأمر لحد السذاجة. فلم يكد يتواضع العسكريون على العودة للثكنات حتى عادوا إلينا لا مختصمين سياسياً فحسب، بل ناشطين لكسبنا كل لصفه أيضاً.
ويبدو أن دخول السياسية ليس كالخروج منها. ففي حكم الاستحالة عودة مؤسسة كالجيش لثكناتها راضية مرضية وهي التي لم تشكل حياتنا عبر نصف قرن منذ استقلالنا في 1956 فحسب، بل تشكلت هي نفسها أيضاً في الأثناء. فلربما صعب عليها هي نفسها أن تتعرف على ذاتها في الثكنات بعيداً عن السياسة.
ومتى نظرت في المبارزة بين البرهان حميدتي وجدت خطابها من دارج السياسة ومكرها. فأكد البرهان بلا حاجة أن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة هو شرطه للمضي في دعم الاتفاق الإطاري الذي تعاقد به مع قوى الحرية والتغيير (المركزي وحلفاؤه) (ديسمبر 2022). ويعرف البرهان مع ذلك أن وثيقة الاتفاق الإطاري قضت بدمج الدعم السريع في القوات المسلحة بعبارة لا لبس فيها.
ويبدو أن قوله بأن هذا شرطه للمضي في دعم الاتفاق مما أراد به طمأنة عناصر في القوات المسلحة متحفظة على الاتفاق الإطاري. وبعض هذه العناصر سياسية مثل زميله في المجلس السيادي الفريق أول شمس الدين كباشي الذي صرح في جمهرة من الناس بأن الاتفاق الإطاري ضيق لاستبعاده القوى الأخرى. وزاد بأنه لا احترام له للدستور الذي انبنى عليه وقد وضعه عشرة أنفار. وبعض هذه العناصر مهني لم يرد للمدنيين غز لسانهم في إصلاحات عسكرية وأمنية تطال الجيش خاصة بتجريده من شركاته ما عدا تلك التي اقتصرت على الصناعات العسكرية والأمنية والتي ستخضع بدورها لرقابة وزارة المالية.
ومن هذه العناصر المهنية من ظل يستنكر وجود الدعم السريع في حد ذاته من مثل اللواء ركن عبد الباقي بكراوي، قائد سلاح المدرعات، في سبتمبر 2021. ولا يزال بكراوي ماثلاً أمام القضاء لاتهامه بانقلاب كان بمثابة احتجاج على الدعم السريع. علاوة على قرار صدر في فبراير 2022 خلال زيارة حميدتي لروسيا سحب به الجيش قوات الدعم السريع من عدة نقاط بالخرطوم مع رفع حالة الاستعداد.
مما يستغرب له المرء أن تبدو القوات المسلحة هي التي تنتظر من المدنيين في اتفاقهم الإطاري دمج الدعم السريع بعد 10 سنوات احتملته هي لا غيرها شريكاً طارئاً لها في اختصاص احتكار السلاح. ومع ذلك لابد من التنويه بأن القوات المسلحة رفضت قبوله أول نشأته كجسد في داخلها. ولكنها التزمت الصمت وهو يتحول أمام ناظريها من جهاز الأمن والمخابرات إلى قوة مستقلة بقانون مجاز من المجلس الوطني في يناير 2017. فجعل القانون عليه مجلساً ينشأ بقرار من عمر حسن أحمد البشير، رئيس الجمهورية وقتها، ويعين القائد العام له. بل صار قائد الدعم السريع عضواً في اللجنة الأمنية بالخرطوم جنباً لجنب مع ضباط الجيش العظام. وهي اللجنة التي تكونت لحماية نظام الإنقاذ من المعارضة في الشارع التي توجت بتظاهرات سبتمبر 2013. والاتهام قائم بأن الدعم السريع من ضرجها بالدم. وهي نفس اللجنة الأمنية التي قامت بانقلاب 11 يناير 2019 ضد البشير فيما قالت إنه "انحياز للشعب". وتضامن الجيش والدعم السريع بعد ذلك في مواجهة الحكومة الانتقالية ووضع العصي في عجلاتها حتى انقلبا عليها في 25 أكتوبر 2020.
ولابد للمرء أن يسأل، بعد استعراض هذا التاريخ للدعم السريع والجيش، كيف صار دمج الدعم السريع في القوات المسلحة البند الساخن للأخيرة يقف عليه الاتفاق الإطارى أو يذهب حال سبيله. وللمرء أن يسأل أيضاً كيف اتفق للبرهان بالذات أن يجعل من دمج الدعم السريع شرطه الناجز وهو الذي لم يـتأخر يوماً منذ دخوله ميدان الحكم من تمييز الدعم السريع كوجود مستقل في المنظومة العسكرية والأمنية. وبلغ تعزيزه أن قال إنه والقوات المسلحة "على قلب رجل واحد"
وجاء البرهان بعوار السياسيين ممن يتحدثون بجانبي الفم كما يقولون. فاستنكر في خطابه الأخير في بلدة الزاكياب أن يكون للإسلاميين أنصار في الجيش. وقال إن هذا القول مجرد مزايدة. ولم يجف مع ذلك ريقه بعد من كلمته في نوفمبر 2022 التي وجه فيها تحذيراً شديد اللهجة للإسلاميين أن يبتعدوا عن الجيش قائلاً "كفاكم ثلاثين عامًا في الحكم أعطوا الناس فرصة، ولا تعشموا بأن الجيش سيعيدكم مرة تانية".
umdarag1936@gmail.com
فقد أفرغت الديكتاتوريات المتطاولة والانقلابات، والحركات المسلحة عليها، فكرنا السياسي من ملكة النظر المستقل، ومن موقعه الخاص، ليرى أبعد من الإرادات العسكرية. فأعتاد السياسي والمهني في النظام الحاكم وحزبه أن يلجم نفسه بنفسه دون المجازفة برأي يشق درباً غير مطروق. واتصلت هجرة السياسي الصفوي المعارض من حيث هو إلى كهوف الحركات المسلحة آملاً خدمتها بالرأي في شروطها غير المواتية لحرية التعبير.
لم يشقق الفريق أول ياسر العطا، عضو مجلس السيادة، الكلام. فقال إن خلاف البرهان وحميدتي سياسي. وقد تستغرب أن يخرج للتعبئة السياسية من كره مثل العسكر هذه الخصومة في السياسيين ورماهم بخراب البلد بأثرها. وكانت حماية هذه البلد من وعثاء خصومة السياسيين وفسادهم هو ما انتدب الجيش نفسه له حباً وكرامة.
يقول السودانيون لمن علا صوتهم حجاجاً "عوتهم وقفت". ولو فحصنا هذه "العوة" المنعقدة فوق رؤوسنا لاتفق لنا أننا ربما بسطنا أمر العسكريين حين نطالبهم بمغادرة ميدان السياسة والعود لثكناتهم. ومتى صدقنا زعمهم بتخليهم عن السياسة نكون قد بسطنا الأمر لحد السذاجة. فلم يكد يتواضع العسكريون على العودة للثكنات حتى عادوا إلينا لا مختصمين سياسياً فحسب، بل ناشطين لكسبنا كل لصفه أيضاً.
ويبدو أن دخول السياسية ليس كالخروج منها. ففي حكم الاستحالة عودة مؤسسة كالجيش لثكناتها راضية مرضية وهي التي لم تشكل حياتنا عبر نصف قرن منذ استقلالنا في 1956 فحسب، بل تشكلت هي نفسها أيضاً في الأثناء. فلربما صعب عليها هي نفسها أن تتعرف على ذاتها في الثكنات بعيداً عن السياسة.
ومتى نظرت في المبارزة بين البرهان حميدتي وجدت خطابها من دارج السياسة ومكرها. فأكد البرهان بلا حاجة أن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة هو شرطه للمضي في دعم الاتفاق الإطاري الذي تعاقد به مع قوى الحرية والتغيير (المركزي وحلفاؤه) (ديسمبر 2022). ويعرف البرهان مع ذلك أن وثيقة الاتفاق الإطاري قضت بدمج الدعم السريع في القوات المسلحة بعبارة لا لبس فيها.
ويبدو أن قوله بأن هذا شرطه للمضي في دعم الاتفاق مما أراد به طمأنة عناصر في القوات المسلحة متحفظة على الاتفاق الإطاري. وبعض هذه العناصر سياسية مثل زميله في المجلس السيادي الفريق أول شمس الدين كباشي الذي صرح في جمهرة من الناس بأن الاتفاق الإطاري ضيق لاستبعاده القوى الأخرى. وزاد بأنه لا احترام له للدستور الذي انبنى عليه وقد وضعه عشرة أنفار. وبعض هذه العناصر مهني لم يرد للمدنيين غز لسانهم في إصلاحات عسكرية وأمنية تطال الجيش خاصة بتجريده من شركاته ما عدا تلك التي اقتصرت على الصناعات العسكرية والأمنية والتي ستخضع بدورها لرقابة وزارة المالية.
ومن هذه العناصر المهنية من ظل يستنكر وجود الدعم السريع في حد ذاته من مثل اللواء ركن عبد الباقي بكراوي، قائد سلاح المدرعات، في سبتمبر 2021. ولا يزال بكراوي ماثلاً أمام القضاء لاتهامه بانقلاب كان بمثابة احتجاج على الدعم السريع. علاوة على قرار صدر في فبراير 2022 خلال زيارة حميدتي لروسيا سحب به الجيش قوات الدعم السريع من عدة نقاط بالخرطوم مع رفع حالة الاستعداد.
مما يستغرب له المرء أن تبدو القوات المسلحة هي التي تنتظر من المدنيين في اتفاقهم الإطاري دمج الدعم السريع بعد 10 سنوات احتملته هي لا غيرها شريكاً طارئاً لها في اختصاص احتكار السلاح. ومع ذلك لابد من التنويه بأن القوات المسلحة رفضت قبوله أول نشأته كجسد في داخلها. ولكنها التزمت الصمت وهو يتحول أمام ناظريها من جهاز الأمن والمخابرات إلى قوة مستقلة بقانون مجاز من المجلس الوطني في يناير 2017. فجعل القانون عليه مجلساً ينشأ بقرار من عمر حسن أحمد البشير، رئيس الجمهورية وقتها، ويعين القائد العام له. بل صار قائد الدعم السريع عضواً في اللجنة الأمنية بالخرطوم جنباً لجنب مع ضباط الجيش العظام. وهي اللجنة التي تكونت لحماية نظام الإنقاذ من المعارضة في الشارع التي توجت بتظاهرات سبتمبر 2013. والاتهام قائم بأن الدعم السريع من ضرجها بالدم. وهي نفس اللجنة الأمنية التي قامت بانقلاب 11 يناير 2019 ضد البشير فيما قالت إنه "انحياز للشعب". وتضامن الجيش والدعم السريع بعد ذلك في مواجهة الحكومة الانتقالية ووضع العصي في عجلاتها حتى انقلبا عليها في 25 أكتوبر 2020.
ولابد للمرء أن يسأل، بعد استعراض هذا التاريخ للدعم السريع والجيش، كيف صار دمج الدعم السريع في القوات المسلحة البند الساخن للأخيرة يقف عليه الاتفاق الإطارى أو يذهب حال سبيله. وللمرء أن يسأل أيضاً كيف اتفق للبرهان بالذات أن يجعل من دمج الدعم السريع شرطه الناجز وهو الذي لم يـتأخر يوماً منذ دخوله ميدان الحكم من تمييز الدعم السريع كوجود مستقل في المنظومة العسكرية والأمنية. وبلغ تعزيزه أن قال إنه والقوات المسلحة "على قلب رجل واحد"
وجاء البرهان بعوار السياسيين ممن يتحدثون بجانبي الفم كما يقولون. فاستنكر في خطابه الأخير في بلدة الزاكياب أن يكون للإسلاميين أنصار في الجيش. وقال إن هذا القول مجرد مزايدة. ولم يجف مع ذلك ريقه بعد من كلمته في نوفمبر 2022 التي وجه فيها تحذيراً شديد اللهجة للإسلاميين أن يبتعدوا عن الجيش قائلاً "كفاكم ثلاثين عامًا في الحكم أعطوا الناس فرصة، ولا تعشموا بأن الجيش سيعيدكم مرة تانية".
umdarag1936@gmail.com