الحوار الحقيقي أشبه بــ "برقصة التانغو" لا يتم إلا بين طرفين
الترابي يحاول أن يسترد كرامته السياسية بعد أن أكلت الثورة أباها
أنا ممن يعولون على الشارع العريض... و" الشعب حبيبي وأبي"
الشعارات لا تبني دولة ولا تصنع أمة
النظام يريد "زواج متعة" مع الإدارة الأمريكية ليست فيه أي واجبات
أعتبر كل من لبى دعوات النظام قد تعاطى الحرام عمداً
أشعر بالشفقة على نظام رفع عقيرته ذات يوم وبشر أمريكا بدنو عذابها
واليوم ضربه الذل والمسكنة ويريدها أن ترفع عنه عذابها
حوار: حسن محمد علي
الحلقة الثانية والثالثة/ صحيفة التيار
أتخيل سعادة مفترضة من قبل القراء بهذه المقابلة، فقد قدر لها أن تكون مع ضيف حرمنا منه لزمن طويل، لظروف وملابسات قاهرة.. عن نفسي أمضيت زمنا طويلا لكسر طوق هذه العزلة بعزم وصبر، عل براعمها تتفتح في صحيفتنا (اليوم التالي).. لم أشتك من عسر كبير لولا أن صاحبها لديه تحفظه المعلوم من الإجابات المبتورة.. لم أستسلم فلقد ركضت ملء أنفاسي لأتمها وأزفها عروسا عبر هذه السطور، فهي مقابلة من النوع النادر؛ بإجاباتها بالتأكيد.. هنا فتحي الضو؛ يزور الخرطوم على صدر ورقة بيضاء –طبعاً- ويزينها بالحبر الأسود.. كاتب تملؤه السيرة الذاتية، متى ما حاولت أن تفاجئه بالسؤال عن الثقافة مرة تجد الهناء والشفاء.. لاعب ماهر في مستطيل السياسة بمفرداتها القاسية وسنداتها وشرفائهاوالمجرمين فيها، تسوره المواقف من كل حدب وصوب كأنه مسبحة متى عددت حباتهاالمنظومة بلا إفراط.. مفجوع بحب وطنه وشعبه.. لديه جراح وأفراح وابتسامات.. حثيثا اقتربنا من كل أدواته التي يستخدمها في الحياة.. يدنو قليلا من أن يكمل سفره السادس الذي كشف عنه في هذه المقابلة؛ لا قبل ذلك أبداً، ثم تجرى معه هذه المقابلة الأولى طوال سنيه العامرات بالفكر والسياسة والأدب والمؤلفات والأكاديميا، نوستالجي من الدرجة الأولى حينما يتذكر الشجرة، وقرية ود عشيب، وعنيد في نفح لهبه على النخبة بمواقفها واخفاقاتها.. يرقد على سرير من الرفاهية قال إنه لا يحس بها بعيدا عن وطنه.. وهاهوأمامكم.. ينهض عن خزانة ذاتية مملوءة بالقيم والتجارب.. عمل بالصحافة الكويتية بدءاً من أواخر سبعينيات القرن الماضي، وحتى مغادرته الكويت بعد الغزو العراقي في العام 1990. استقر بعدها في القاهرة مواصلاً العمل الصحافي في مكتب صحيفة الوطن الكويتية، إلى جانب مشاركته كمستقل في بدايات تأسيس فعاليات التجمع الوطني الديمقراطي، وبخاصة في مجال الإعلام.. في العام 1993 غادر القاهرة ليفتتح أول مكتب لصحيفة عربية لتغطية منطقة القرن الأفريقي (أثيوبيا، إريتريا، جيبوتي، الصومال، كينيا،يوغندا) من مقره في العاصمة أسمرا. قام بتغطية الحرب الأهلية الصومالية، ثمّ العمليات العسكرية في الجبهة الشرقية بين قوات التجمع الوطني الديمقراطي والنظام في الخرطوم.. قام بتغطية الحرب الأثيوبية الإريترية الثانية 1998 - 2000 وذلك من الخطوط الأمامية وعلى جبهات متعددة. في العام 2002 غادر أسمرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يستقر الآن بأسرته.. أقام العديد من الندوات في كثير من المدن الأمريكية، وبعض المدن الكندية، وبريطانيا، وأيرلندا، والنرويج، وهولندا، والقاهرة.. يرأس حالياً اتحاد الصحافيين السودانيين الأمريكيين بالولايات المتحدة الأمريكية.
* تنبؤاتك المستمرة عن ليلة السكاكين الطويلة، هل هو توقع مستمر أم مرتبط لديك بقناعة وساعة صفر ربما تأخرت كثيراً؟
الحقيقة هو تنبؤ مبني على وقائع أراها ماثلة أمامي دائماً. فإن كان لكل شيء مقدمات فليلة الساكين الطويلة مقدمات. التجارب الإنسانية في هذا المضمار تؤكد دائماً أن خلافات التنظيمات العقدية مهرها الدم. ودونك تاريخ الدولتين الأموية والعباسية، وفي زماننا الحاضر هناك كثير من الأمثلة. هناك حرب خفية تجري بين الإسلامويين أنفسهم ولا علاقة للشعب السوداني بها، هناك غبن وحالة احتقان لمشاعر سالبة حيال بعضهم البعض، هناك تفاوت طبقي وخلخلة اجتماعية، وانتشار حركات متطرفة تحت السطح وتفشي الجريمة كماً ونوعاً وسلاح متوفر بين الأيدي. وبغياب الرؤى أقول نحن مقبلون على ذات الحالة التي كان فيها السودان سلطنات وممالك ومشيخات، أو إن شئت فقل الاتحاد السوفيتي بعد تفككه. نحن فقط نلفت الأنتباه قبل ضحى الغد، ومن لم ير غير ذلك فينبغي أن يخرج من دائرة الوهم.
* المناورة أصبحت مسيطرة على الأداء السياسي دون أن يصل أي طرف لغايته، سواء معارضة أو حكومة؟
إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يُسأل النظام أولاً فهو من بيده السلطة. ما الذي يمكن أن تقدمه المعارضة من تنازلات وهي لا تملك شروى نقير. هناك حقيقتان ثابتتان بالأدلة، الأولى أن النظام درج على عدم احترام العهود والمواثيق مع كل الأطراف التي أبرم معها اتفاقيات، والثاني أن النظام ينظر لمسألة الحوار من باب شراء الوقت وهو ما درج عليه دائماً. في ظل هاتين المسألتين الاستراتيجيتين ينبغى للنظام أن ينظر لنفسه ليرى (عوجة رقبته) من قبل أن يفعل ذلك عنوةً وقوةً.
* هل ترى أي تشكيل جديد أو تغيير في نظام الحكم بكل ما طرحه من صيغ المصالحات مع القوى السياسية؟
ما لم يتم تفكيك دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن، يبقى كل ما يجري مجرد سراب بقيعة يحسبه النظام ماءً، والواقع أن النظام لم يطرح صيغ مصالحة أصلاً، هو يريد حواراً يتحكم في أجندته وفي يدعونهم إليه وفي رئاسته وجغرافيته وكل شيء. وهو في هذه الحالة يصبح خواراً وليس حواراً. هذه (عزومة مراكبية) الحوار الحقيقي أشبه بــ (رقصة التانغو) لا يمكن أن تتم إلا بين طرفين. في تقديري أن أي حلول لا تضع تصوراً واقعياً لجرائم الدم التي ارتكبها النظام على مدى ربع قرن، تعد مجرد إعادة لإنتاج الأزمة، هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم. ولا يمكن أن يكون هناك تعافٍ حقيقي في المجتمع السوداني ما لم تضمد جراح المظلومين، ولنا أسوة في دول ضمدت جراح مظاليمها.
* كيف تقرأ الأحلاف المتغيرة لنظام الإنقاذ في الداخل والخارج، هل أدت لاستطالة عمر النظام؟
التحالفات التي تبنتها الإنقاذ معالمها الانتهازية تبدو بامتياز للمراقبين. هل يمكن أن يصدق المواطن العادي أن في هذا البلد أكثر من سبعين حزباً. الإنقاذ برعت في فقه المصلحة الذي تتخذه وسيلة تغدق بها على المتحالفين عطاياها. وتبعاً لذلك تحدد معيار ما تغدقه على المتحالفين، الذين هم في الأصل مجرد صفر كبير في الحراك السياسي والاجتماعي. وهذا أشبه بوهم (الراكوبة في الخريف) على حد المثل السوداني الذائع الصيت.
* عادت تراجي من أقصى المعارضة المتزمتة وشارك الدقير والترابي ألم يمنحون الحوار ديناميته بعد؟
المعذرة أنا لا أعرف تراجي، ولكن الضجة التي أثيرت عموماً تذكرني بمقولة السيد الصادق المهدي إبان مساجلاته مع الدكتور الراحل محمد يوسف ابو حريرة وزير التجارة في الحقبة الديمقراطية الأخيرة، قال عنه إنه (وجد شطة في الجو فعطس) فما أكثر الذين يعطسون في جو كله شطة، أما الدكتور الترابي فهو يحاول أن يسترد كرامته السياسية التي أُهدرت بعدما أكلت الثورة أبيها. والترابي كما هو معلوم يتعامل بمنطق الغبائن، وهو رجل لا يستسلم بسهولة، فما بالك إن جاءته الهزيمة من الذين اشتد ساعدهم عليه من حوارييه. عموماً ما آل إليه الحوار لا يحتاج لتعليق فهو واضح للعيان، حاله أشبه بمريض سرطان أُحضر للمستشفى فأعطاه الطبيب حبوب بندول للعلاج.
* بقدر ما رفعت المعارضة من برامج لاسقاط النظام منحته مزيداً من القوة والمنعة. أين الاشكال في عقلية وخطط المعارضة أم في ذكاء النظام؟
الحقيقة لم يكن النظام قوياً ولا ذكياً في يوم من الأيام، وتطاول سنواته في السلطة يعود بالدرجة الأولى لضعف المعارضة. إن شئت فهو صراع الضعفاء، المعارضة ليست بأحسن حالاً من النظام. لكن يجب ألا نذعن للفهم المغلوط القائل إن المعارضة هي القوى السياسة والحركات المسلحة فقط. الواقع أن المعارضة الحقيقية لهذا النظام تكمن في الشارع العريض بكل مكوناته الاجتماعية. ولهذا الشارع مطلوبات أخرى غير المطلوبات السياسية التي تتحدث عنها تلك القوى. أنا من الذين يعولون على الشارع العريض هذا، إيماناً مني بأن هذا الشعب (حبيبي وأبي) كما قال شاعره محمد المكي إبراهيم.
* أين السودان الجديد في دعوات الحركة الشعبية وأين السودان الحديث في دولة المشروع الحضاري؟
دعنا نكون موضوعيين، هذه كلها محض شعارات لا تغني ولا تسمن من جوع. فالشعارات لا تبني دولة ولا تصنع أمة. فكرة السودان الجديدة كان فكرة واعدة ولكنها انتحرت لأنها تمحورت حول شخص الدكتور الراحل جون قرنق. أما أصحاب المشروع الحضاري فقد ضربوا رقماً قياسياً في الشعارات والأفكار البوهيمية لدرجة أصبحت مثار سخرية من الناس. السودان ما زال أمة تحت التكوين، لذلك اتخذه الكثيرون ساحة للتجارب كما الفئران في المعامل العلمية.
* الأزمة في دارفور كيف تراها من خلال النظرة الخارجية وانتشارها في الميديا العالمية وهل من أفق للحل؟
هذه القضية أصابها الكثير من التشويه الذي كان النظام سبباً فيه، فهي من ناحية التوصيف يجب أن يقال عنها أزمة السودان في دارفور وليست أزمة دارفور. فغالبية وسائل الإعلام والمراكز البحثية وقت في خطأ توصيفها بمشكلة دارفور حيث لا يذكر السودان إلا لماماً. إفرازات هذا الخطأ كانت كارثية في تقديري فقد أدى إلى بروز العنصرية بشكل واسع ومضطرد. وللأسف أصبحت قاسماً مشتركاً بين النظام ومعارضيه. الأمر الثاني سياسة النظام في انتقاء بعض النخب الدارفورية خلقت استقطاباً حاداً زاد من تعقيدات الحل. ثالثاً لست متفائلاً بحل في الأفق إلا في إطار حل شامل لكل قضايا السودان، وعلى رأسها قضية الديمقراطية. واعتقد إلى حين ذلك سيستمر عرض المأساة.
* المشاريع المطروحة على مستوى الكتل المعارضة في الجبهة الثورية أم نداء السودان هل ستصل لغايتها وتجد المساندة الشعبية؟
أي مشاريع لا تحظى بمساندة شعبية واسعة وقوية لن تحقق غايتها. من خلال هذا المنظار يمكن القول إن المعارضة الممثلة في الجبهة الثورية أو نداء السودان لم تستطع حتى الآن الوصول إلى الطموحات الحقيقية التي يتأملها المواطن السوداني في شتى بقاع الوطن. النخبوية ما زالت هي العامل المسيطر على أنشطة هذه القوى، أي وقعت في نظرية ما يُسمى بالهرم المعكوس. أما العامل الثاني الذي يحد من مساندة مشاريع تلك القوى فهو يكمن في التطبيق العملي، إذا نظرت لأطروحات هذه القوى على المستوى النظري تصل لنتيجة مفادها أنها لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ووضعت لها حلاً، ولكنها تعجز عن تطبيق ذلك على أرض الواقع.
* أمريكا من جانبها تساند النظام يمكن ملاحظة ذلك في جلسات مجلس حقوق الإنسان. وبالمقابل فقدت المعارضة سندها الدولي الذي تعول عليه كثيراً؟
لا.. لا ليس الأمر بهذه البساطة. ما زال الطريق طويلاً أمام النظام لكي يلبي المطلوبات الأمريكية وهي عصية، ولا أعتقد أن الإدارة الأمريكية يمكن أن تقدم على خطوة كهذه في ظل مناخ الانتخابات الماثل. ماكنيزم القرار في الإدارة الأمريكية معقد جداً، بعض من في السلطة يعتقد أنه من شاكلة (النار ولّعت وأتوطأ فوق جمرها) هناك الكثير من أرباب الأنظمة المغضوب عليها يظنون أن مجرد تصريح إيجابي عابر لمسؤول أمريكي يعني تحسن العلاقة. النظام في الخرطوم يريد (زواج متعة) مع الإدارة الأمريكية ليست فيه أي واجبات. والحقيقة أشعر بشيء من الشفقة على نظام رفع عقيرته ذات يوم وبشر أمريكا بدنو عذابها، واليوم ضربته الذل والمسكنة ويريدها أن ترفع عنه عذابها.
* التشكيلات في منطقة القرن الأفريقي حسب تجربتك كيف تنظر لها؟
دعني أقول لك شيئاً، قضيت عشر سنوات متجولاً في كل دول هذه المنطقة، غطيت حروبها ونقلت أنشطتها التنموية والسياسية والثقافية، وأستطيع أن اقول إنها كانت أخصب الفترات في حياتي العملية، استفدت منها حتى في تشكيل شخصيتي المهنية، وورثت منها علاقات إنسانية مع شرائح متعددة من تلك المجتمعات ما زالت مستمرة ومصدر اعتزازي. هذه المنطقة ما تزال بكراً في كل شيء، مأساتها تتمثل في الحروب والديكتاتوريات القابضة على مصائرها. وددت لو أن الصحافيين السودانيين اتجهوا إلى هناك لرصد مجريات الأحداث لربما أفادوا القارئ وإستفادوا معرفةً وتثقيفاً.
* الصراع حول المياه وخاصة سد النهضة إلى أين سينتهي برأيك؟
لا أعرف كبير شيء من الناحية العلمية عن هذا الموضوع، لكنني أثق جداً فيما ظلَّ يطرحه صديقنا خبير المياه الدولي دكتور سلمان محمد أحمد سلمان. لكن ما أود أضيفه هو التأكيد على أن هذا العالم ليس غابة كما يظن البعض، إذا كانت هناك خطورة من هذا السد فهل تعتقد أن ذلك سيكون حصراً على السودان ومصر؟ وهل يمكن للعالم أن يقف مكتوف الأيدى أمام سد يهدد ملايين بانهياره؟ اعتقد أن ما يروجه البعض لا يجد سنداً ولا منطقاً، لذا أتوقع أن يمضي في طريق اكتماله وسيصبح واقعاً ملموساً وفق ما خططت له أثيوبيا، وما على الآخرين سوى النظر في كيفية التعامل مع هذا الواقع بالفوائد والمنفعة المشتركة.
* التحالف العربي وأثر الربيع العربي مفردات وطلاسم أين نجد حلها؟
هي مصطلحات وتسميات عبرت لا وجود لها على أرض الواقع، فلا تحالف يذكر ولا ربيع يذكر أيضاً، وستظل كذلك كجزء من التراث الذي تحب الذهنية العربية الانغماس فيه. أنا لا استطيع أن اقول إن الربيع العربي فشل أو نجح، لأن الشعوب في حالة صيرورة دائمة للبحث عن النظم التي تتواءم معها. يخطيء بعض المراقبين حينما يحاولون تأطير كل دول الربيع العربي في كتلة واحدة، علماً بأن لكل بلد خصائصه التي تختلف عن الآخر، ولهذا من الطبيعي أن تكون النتائج متباينة.
* السعودية صعدت نوعاً ما على حساب مصر وروسيا تغلغلت إلى الاخر في حماية حلفائها بقوة السلاح؟
المنطقة العربية عموماً ومنطقة الشرق الأوسط تحديداً أشبه بالرمال المتحركة، ذلك ما انعكس على التحالفات التي بدأت تأخذ منحىً جديداً. وفي ذلك يجب التركيز على أن هذا صراع قوى كبرى تظل فيه الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها الأوربيين القوة المؤثرة. روسيا تتغلغل بعقلية انتهازية واستغلت ضعف إدارة أوباما في السياسة الخارجية. لكن لا أظن أن ذلك يمكن أن يدوم طويلاً، لأنها في الأساس محاصرة من دول الاتحاد الأوروبي فيما يخص أوكرانيا. السعودية إذا حققت أهدافها في حرب اليمن فلسوف تفرض هيمنتها على دول المنطقة بالتنسيق مع مصر، هذا بالرغم من اختلاف مصالحهما في الملف السوري، ولكن هذا أيضاً لن يستمر طويلاً. إذن نحن أمام واقع متحرك كما ذكرت.
* داعش حركة بلا أبوة شرعية ويحتار المراقب في تصنيفها حتى الآن هناك من يحتاج أن يراها عبر عدستك؟
أبوتها يا صديقي تجلس بالقرب منك في الخرطوم. إذا العالم كله احتار فلا ينبغي علينا في السودان أن نندهش أو نحتار. فقد شهدنا الكثير من ممارسات داعش وأكثر. فهي قد جاءت من مساماتنا وغفلتنا وممارساتنا وفهمنا الخاطيء لعقيدة سامية. عموماً تحليل الظاهرة نفسها يطول فيه الحديث ولكن مع كل هذه الضجة المثارة، فأنا أميل إلى أنها حالة طارئة، ستبقى بيننا ردحاً من الزمن، ولكن ستذروها الرياح حتماً. ستبقى مجرد جيوب هنا وهناك مثل القاعدة.
* الرفاق والزملاء والأساتذة أخوان الخنادق أين انتهى بهم المطاف؟
هذا سؤال عاطفي مؤثر، بطبعي أنا كائن اجتماعي أحب الناس، واعتبر أصدقائي وقرائي هم زادي في هذه الرحلة الطويلة، التي صمد فيها من صمد وسقط فيها من سقط ورحل فيها من رحل. ما زلت اعتز بأصدقاء وزملاء يعضون على قضية هذا الوطن بالنواجذ، لا أعرف أحداً خنع من الذين يعيشون في الخارج عدا اثنين أو ثلاثة. أما الذين في الداخل، فأنا أشعر بكثير من الأسى عندما أقرأ لبعض الزملاء من الذين يمارسون فهلوة الحواة وينسون أمانة القلم وأن للتاريخ عين راصدة. بالقدر نفسه أحيي زملاء آخرين وهم يبذلون فوق طاقتهم رغم الواقع المرير الذي يعيشون فيه.
* هل لديك أي اتصالات من النظام وهل وجهت لك أي دعوة للعودة للخرطوم؟
لا.. ليس لدي اتصالات، ولم توجه لي دعوة، بل لا انتظرها، وحتى إن جاءت فهي مرفوضة سلفاً، واعتبر أن كل من لبى دعوات النظام قد تعاطى الحرام عمداً. مع ذلك فأنا أشعر بأن أوان العودة اقترب وإن طال السفر.
* أسالك ماذا تعلمت من الهجرة والمنافي؟
قضيت أكثر من ثلثي عمري وأنا أحمل قضية وطني من مهجر إلى منفى.. وهذه قصة طويلة، تعلمت منها الكثير بحسب البيئات التي عشت فيها. فأنا عشت في الخليج وفي مصر وفي منطقة القرن الأفريقي وأخيراً في الولايات المتحدة الأمريكية، وزرت العديد من دول العالم. لكن لو قدر لي أن أذكر عاملاً مشتركاً لقلت إنني استفدت كثيراً من التنوع الثقافي في كل هذه البلدان وكيف أثرى حياتي بالتعامل الإيجابي معه. وتبقى التجربة الأخيرة في أمريكا مهمة جداً لأنها أرهقتني بالمقارنات، حين أرى تعليم أبنائي يقفز ذهني مباشرة إلى الذين ما زالوا يبحثون عن قلم وكراسة، وحينما أذهب مستشفياً لدور صحية تأتيني صور الذين لا يجدون الدواء، بل حتى تجدني حزيناً كلما مارست حقي الانتخابي وحريتي في الاختيار، اتذكر الذين يعذبون لمجرد الإدلاء برأيهم. وهكذا تجدني مثقلاً برفاهية لا أجد لها طعماً.
* إذن عن ماذا يبحث فتحي الضو؟
باختصار أنا أبحث عن من يحب هذا الوطن.. وبالمفهوم السارتري الوجودي أنا أبحث عن ذاتي. واشكرك إن جعلتني أتحسسها من خلال هذا الحوار، لا كما تحسس جوبلز وزير الدعاية الهتلري مسدسه، ولكن كما يتحسس الطفل ثدى أمه. ولكني أخشى يا عزيزي أننا حينما نجده يكون الوطن قد تلاشى والله يكضب الشينة أو كما قيل!