فتحي الضو: كلما تطاولت غربتي اقتربت من الوطن أكثر

 


 

فتحي الضو
28 October, 2015

 

أتخيل سعادة مفترضة من قبل القراء بهذه المقابلة، فقد قدر لها أن تكون مع ضيفحرمنا منه لزمن طويل، لظروف وملابسات قاهرة.. عن نفسي أمضيت زمنا طويلا لكسرطوق هذه العزلة بعزم وصبر، عل براعمها تتفتح في صحيفتنا (اليوم التالي).. لم أشتكمن عسر كبير لولا أن صاحبها لديه تحفظه المعلوم من الإجابات المبتورة.. لم أستسلمفلقد ركضت ملء أنفاسي لأتمها وأزفها عروسا عبر هذه السطور، فهي مقابلة منالنوع النادر؛ بإجاباتها بالتأكيد.. هنا فتحي الضو؛ يزور الخرطوم على صدر ورقةبيضاء –طبعاً- ويزينها بالحبر الأسود.. كاتب تملؤه السيرة الذاتية، متى ما حاولت أنتفاجئه بالسؤال عن الثقافة مرة تجد الهناء والشفاء.. لاعب ماهر في مستطيلالسياسة بمفرداتها القاسية وسنداتها وشرفائها والمجرمين فيها، تسوره المواقف من كلحدب وصوب كأنه مسبحة متى عددت حباتها المنظومة بلا إفراط.. مفجوع بحب وطنهوشعبه.. لديه جراح وأفراح وابتسامات.. حثيثا اقتربنا من كل أدواته التي يستخدمهافي الحياة.. يدنو قليلا من أن يكمل سفره السادس الذي كشف عنه في هذه المقابلة؛لا قبل ذلك أبداً، ثم تجرى معه هذه المقابلة الأولى طوال سنيه العامرات بالفكروالسياسة والأدب والمؤلفات والأكاديميا، نوستالجي من الدرجة الأولى حينما يتذكرالشجرة، وقرية ود عشيب، وعنيد في نفح لهبه على النخبة بمواقفها واخفاقاتها.. يرقدعلى سرير من الرفاهية قال إنه لا يحس بها بعيدا عن وطنه.. وهاهو أمامكم.. ينهضعن خزانة ذاتية مملوءة بالقيم والتجارب.. عمل بالصحافة الكويتية بدءاً من أواخرسبعينيات القرن الماضي، وحتى مغادرته الكويت بعد الغزو العراقي في العام 1990. استقر بعدها في القاهرة مواصلاً العمل الصحافي في مكتب صحيفة الوطن الكويتية،إلى جانب مشاركته كمستقل في بدايات تأسيس فعاليات التجمع الوطني الديمقراطي،وبخاصة في مجال الإعلام.. في العام 1993 غادر القاهرة ليفتتح أول مكتب لصحيفةعربية لتغطية منطقة القرن الأفريقي (إثيوبيا، أرترييا، جيبوتي، الصومال، كينيا،يوغندا) من مقره في العاصمة أسمرا. قام بتغطية الحرب الأهلية الصومالية، ثمّالعمليات العسكرية في الجبهة الشرقية بين قوات التجمع الوطني الديمقراطي والنظامفي الخرطوم.. قام بتغطية الحرب الإثيوبية الأرتريية الثانية 1998 - 2000 وذلك منالخطوط الأمامية وعلى جبهات متعددة. في العام 2002 غادر أسمرا إلى الولاياتالمتحدة الأمريكية حيث يستقر الآن بأسرته.. أقام العديد من الندوات في كثير من المدنالأمريكية، وبعض المدن الكندية، وبريطانيا، وأيرلندا، والنرويج، وهولندا، والقاهرة.. يرأس حالياً اتحاد الصحافيين السودانيين الأمريكيين بالولايات المتحدة الأمريكية.

******************

فتحي الضو:

* "أجوب شوارع الخرطوم كل يوم"

* عشت في مهاجر ومناف متعددة على مدى ما يقارب الأربعة عقود زمنية.. سلبتني الديكتاتوريات نصفها

* رغم التنقل ظللت أحمل الوطن بداخلي

* كلما تطاولت غربتي اقتربت من الوطن أكثر

* أرهقتني الذاكرة "الغربالية"

* أنا كاتب أدبي ضلَّ طريقه إلى الكتابة السياسية

* النخب السياسية السودانية انتقائية

* مقولة "الخرطوم تقرأ وبيروت تطبع والقاهرة تؤلف" من أكثر المقولات صدقاً وكذباً في آن

* الصادق المهدي غزير الإنتاج ولكنه قليل التطبيق.. ينسى كل شيء حالما يجلس على سدة السلطة

* بيتي وطن مصغر

* الترابي له نشاط وافر في الكتابة الفكرية لكن تفسدها الميكافيلية

* منصور خالد مفكر ضخم ولكنه لا يطبق ما يقول

* لم أستغرب في زمن الانحطاط المعرفي أن تصبح كلمة بروفيسور ودكتور تنافس كلمة"يا حاج"

* تقديراً لك والقراء الكرام أقول إنني أضع اللمسات الأخيرة لمؤلف جديد أتمنى أنيكون "رسالة غفران"

* أنا من المتابعين والمدمنين على الاستماع للشعراء الشباب بخاصة مجموعة "ريحة البن"

* إذا أردت معرفة الواقع السياسي السوداني فعليك بقراءته ثقافياً.. أما إذا أردتمعرفة الواقع الثقافي فما عليك إلا أن تقرأ الفاتحة على روحه!

****************

* في المفتتح؛ أسأل أولاً عن فتحي الضو الغارق في الملفات السياسية والمهمل لدورالمثقف؟

- أعتقد أن هذا استهلال جيد لهذا الحوار، وأشكرك عليه لأنه مستفز ويحرض المرء على الدفاع. لكنني لست بصدد الدفاع بقدر ما أريد إقرار حقائق واقعية. الحقيقة أننيابتعدت في كتاباتي عن تناول الشأن الثقافي، ولكنني لم أبتعد عن المتابعة والقراءاتالثقافية المختلفة. والواقع أنني عندما تمضي عليّ فترة زمنية وتصرفني فيها شواغلالدنيا عن القراءة الثقافية تنتابني موجة اكتئاب وأشعر بعسر هضم لكل ما حولي، ولاأستعيد توازني إلا باللجوء إلى قراءة شتى ضروب الأدب من شعر وقصة ورواية. فأناأؤمن تماماً بأنك إذا أردت معرفة الواقع السياسي السوداني فعليك بقراءته ثقافياً، أماإذا أردت معرفة الواقع الثقافي السوداني نفسه، فما عليك إلا أن تقرأ الفاتحة علىروحه.

* لماذا كل هذا الانحياز الصارخ للكتابة الجامدة ذات الحيثيات والأرقام والمستنداترغم أن الروائيين حققوا مجداً كاملاً بخيالاتهم وكتاباتهم الرفيعة؟

- نعم، لعل جمود الكتابة السياسية ناتج من اعتمادها على لغة الأرقام والمواثيقوالوقائع المجردة. ثانياً على المستوى الشخصي، فأنا ولجت باب الكتابة السياسيةأصلاً من باب الأدب، حيث كنت أقرض الشعر وأكتب القصة في بواكير حياتي، ومنهذه الزاوية يمكنك أن تقول عني إنني كاتب أدبي ضلَّ طريقه إلى الكتابة السياسية. وأقول ضلَّ لأن الكتابة السياسية ليست إبداعية كما تعلم. وليس تبرؤا مني ولا دفاعاًعن نفسي، بل لعلني أعبر بشكل واقعي عن كل الكُتّاب الذين يتناولون الشأنالسياسي، وأقول إن ذلك قدر مفروض علينا. ما الذي تتوقعه من كُتَّاب بلد مضى علىاستقلاله نحو ستين عاماً بالتمام والكامل، استهلكت منها الأنظمة الديكتاتورية الثلاثةالتي جثمت على صدره خمسين عاماً؟. أما عن الجزء الثاني من السؤال فيؤسفني أنأقول إننا نشكوا فقراً مدقعاً في الكُتَّاب الروائيين بدليل أن جائزة الطيب صالح التيينظمها مركز عبد الكريم ميرغني لم تتلق سوى تسع روايات في مسابقة هذا العام،وبالتالي لا أعتقد أن مقاييس المجد التي ذكرتها تنطبق علينا!

* برأيك هل نحن شعب استهلكته السياسة لهذه الدرجة حتى لم يعد له وقت لخلافهاحتى على مستوى المثقفين؟

- نعم. أتفق معك تماماً في أن الشأن السياسي استغرقنا كسودانيين. ما تحادث اثنانإلا وكانت السياسة ثالثهما. ذلك يعود في تقديري إلى أمرين، الأول هو ما ذكرت عنتسلط الأنظمة الديكتاتورية على رقابنا. أما الأمر الثاني فهو يعود إلى البيئة المجتمعية. فالسودانيون شعب منفتح على ثقافات الآخرين وهذا الانفتاح يحتم المتابعة الحثيثةلشؤونهم وفي صدارتها السياسة. لكن أعتقد أنها أصبحت حالة مرضية لن تجد لهاعلاجاً إلا بتنقيح المناهج الدراسية المختلفة وإصلاح التعليم بشكل عام والعالي بشكلخاص، والاهتمام بالثقافة والفنون، وإطلاق الحريات وأشياء أخرى لن تتوفر إلا في ظلنظام ديمقراطي. ولكن أي ديمقراطية نروم؟ هذا هو سؤال المليون كما يقولون.

* حركة الثقافة السودانية تراجعت بشكل تلقائي هل ذلك نتيجة لتقلبات سياسية أم عدمقدرة على العطاء في أجواء غير مواتية؟

- نعم بالطبع تراجعت والذي تراجع في السودان كثير. أنت تعلم أن الأنظمةالديكتاتورية بطبيعتها عدو للثقافة. ولعل مقولة جوبلز وزير الدعاية في عهد هتلر والتيقال فيها (كلما سمعت كلمة ثقافة أتحسس مسدسي) تعبر تماماً عن نظرة الديكتاتوريةللثقافة. لكن دعني أكون منصفاً إذ يمكننى أن أستثني الشعر الذي لم يتراجع بل ظلَّفي تقدم وتألق واضح. وأعتقد أن أمة حداتها أزهري محمد علي ومحمد الحسن حميدومحمد طه القدال ومحجوب شريف وهاشم صديق وآخرون، لا يمكن أن نحكم علىالشعر فيها بالتراجع. وواقع الأمر أنا من المتابعين والمدمنين على الاستماع للشعراءالشباب بخاصة مجموعة (ريحة البن)

* إفرازات الوضع السياسي وانعكاسه على الفعل الثقافي.. بتره أم كبته؟ خنقه أمإتاحة الفرصة أمامه؟

- بالطبع خنقه وهرسه وفطَّسه. دعني أقول لك حقيقة أرددها دائماً وهي أن هويتناالسودانوية ناتجة عن تحالف الجغرافيا والتاريخ. للأسف الشديد لم نستطع استثمارهذا التميز، بل على العكس فالتعدد الثقافي والإثني الذي تتوق له بلدان مثل أمريكاالتي أعيش فيها، أصبح مصدر فرقة وشتات وتناحر واستعلاء وحروب في السودان. أعود وأقول إن تلك من أمهات الخطايا التي ارتكبتها الأنظمة الديكتاتورية في حقالشعوب السودانية.

* الحديث عن فشل النخبة السودانية مستمر وكذا إخفاقاتها ومواقفها واستقطابها..هل انتهى جيل النخب؟

- نعم سيظل الفشل مستمراً طالما أنهم مسؤولون عن صناعة الديكتاتوريات، وطالمابقيت هذه الديكتاتوريات في السلطة بفضلهم. فالنخب السياسية السودانية انتقائية،تجدها دائماً تتمثل بالنماذج السالبة في التاريخ الإنساني. مثلاً أغلبهم لم ير في كلالتجارب الإنسانية سوى مقولة المفكر الألماني كارل فون كلاوزوفينتر (الحرب استمرارللسياسة بوسائل أخرى) لكنهم لو قرأوا تولستوي أو فيكتور هيجو أو مكسيم غوركيلعرفوا قيمة الحرية وفداحة الحرب. والحقيقة هذا اهتمام مشترك بين الأنظمةومعارضيها. بدليل أن النظام الحالي ظلَّ يخصص جزءاً مقدراً من ميزانية البلاد للأمنوالدفاع على مدى أكثر من ربع قرن. وحتى إن اختلفنا مع برنامجه الأيديولوجي، لو أنهخصص هذه النسبة للخدمات بصورة عامة لكان قد حقق أهدافه وأحدث تغييرا جذرياًفي بنية المجتمع، لكن ذلك أشبه بمن يطلب من السماء أن تمطر ذهباً. على الجانبالآخر فالمعارضة دائما ما ترمي بثقلها على الكفة الحاملة للسلاح. حدث هذا مثلاً فيتجربة الجبهة الوطنية في يوليو 1976 المفارقة أن النظام الحاكم كان أحد أضلاعهاالثلاثة. وحدث هذا في تجربة التجمع الوطني الديمقراطي في أسمرا 1995 وكانتالحركة الشعبية سنده، ويحدث راهناً في تجربة الجبهة الثورية. والحقيقة تتكررالتجارب رغم أنه معروفة نتائجها التي يدفع ضريبتها الرازحون تحت وابل النيران، لكنالنخبة لا تكف عن التجارب حتى لو كانت باهظة الثمن!

* في تقديرك أين يكمن الخلل، لماذا الفشل رغم أن هذه النخب مؤهلة أكاديمياً وثقافياً؟

- من أكثر المقولات صدقاً وكذباً في آن واحد، هي مقولة الخرطوم تقرأ وبيروت تطبعوالقاهرة تؤلف. صحيح نحن شعب قارئ ولكننا نقرأ للمتعة الذهنية. السيد الصادقالمهدي من أكثر السياسيين تأليفاً على المستويين السياسي والفكري، فهو غزير الإنتاجولكنه قليل التطبيق، ينسى كل شيء حالما يجلس على سدة السلطة. الدكتور الترابي لهنشاط وافر في الكتابة الفكرية، لكن تفسدها الميكافيلية التي يتصف بها، لأن الكتابةكما قال ابن خلدون في مقدمته الخالدة (تشذب الأفكار وتهذب النفوس) كذلك الدكتورمنصور خالد فهو مفكر ضخم ولكنه لا يطبق ما يقول، فما جدواها إذن؟. أذكر ذات يومفي أسمرا خلال أنس مع الدكتور الراحل عمر نور الدائم، قال لي إن السيد الصادقيوفر عليه قراءة كتاب من 600 صفحة في ست دقائق. وقرأت في حوار مع الرئيسالمخلوع جعفر نميري عام 1984 في مجلة التضامن قوله إنه يقرأ أربعة كتب في وقتواحد. وهذا شطط بالنسبة لرئيس جمهورية الذي بالكاد يتوفر له وقت، لكن حتى إنكانت تلك حقيقة فلسوف ينطبق عليه المثل السوداني السائد (القلم ما بزيل بلم)،والحقيقة ما كنت أعتقد أنني سأعيش حتى أعلم أن بعض النخب تطاولت سنواتهم فيالسلطة ولم يقرأوا حتى آرسين لوبين، وأعرف سياسيين كثرا لم تتعد قراءتهم الصحفوالبيانات الحزبية. لذلك فتُطلق الألقاب جزافاً؛ إذ تسمع المفكر والأستاذ لمن لم يصدرمؤلفاً واحداً في حياته. ولذلك نحن كريمون في الألقاب، لم أستغرب في زمن الانحطاطالمعرفي الذي نعيشه أن تصبح كلمة بروفيسور ودكتور تنافس كلمة (يا حاج) فيثقافتنا السودانية، وذلك على حد تعبير صديقنا حيدر إبراهيم علي وهو محق بالطبع!

* ماذا تتوقع أرفف المكتبة السودانية من إصدارات جديدة لفتحي الضو؟

- ما كنت أود الإفصاح عن هذا، ولكن تقديراً لك والقراء الكرام أقول إنني أضعاللمسات الأخيرة لمؤلف جديد أتمنى أن يكون (رسالة غفران) وشفيعاً لي في غيابيعن قراء المقالات الراتبة. وكما تعلم فأنا أساساً مهتم بالجانب التوثيقي، وإن سألتنيلماذا؟ فسأقول لك لقد أرهقتني الذاكرة (الغربالية) إن جاز التعبير التي نتمتع بها،فالنسيان يعد إحدى صفاتنا السالبة، لهذا تتكرر تجاربنا البائسة.

* الذي يرى عنفوان شخصية فتحي الضو وهو يدخن السيجارة يراها الآن ذابلة..الغربة أم هو الغبن أيهما تختار في الإجابة؟

- الحقيقة لست ذابلاً، ربما تراءى لك ذلك، فأنا أرى نفسي في قمة عنفوانها الوطنيرغم تساقط السنين. فأنا ما زلت أحلم وأعتقد أن تلك مهمة صعبة في زمن وجدنا فيهالقابض على وطنه كالقابض على الجمر. عشت في مهاجر ومناف متعددة على مدىما يقارب الأربعة عقود زمنية، سلبتني الديكتاتوريات أكثر من نصفها، ولكنني رغمالتنقل ظللت أحمل هذا الوطن بداخلي وهي المهمة الأصعب. اكتشفت أنه كلما تطاولتغربتي اقتربت أكثر منه. أما الغبينة فلست ممن يتعاملون بها لأنني أمتثل للمثلالسوداني القائل (الفشَّ غبينته خرب مدينته).

* أنت من جيل لم يمش كثيراً على شوارع الخرطوم ويشهد تجلياتها الأخيرة بسببسفرك وغربتك الطويلة.. ماذا تركت لأبنائك من ذكرى وطن؟

- الحقيقة بالمفهوم المعنوي أنا أجوب شوارع الخرطوم كل يوم، طيلة هذه السنوات وأناأعيش هذا الوطن بكل دقائقه وتفاصيله كل يوم. لدي أربعة من البنين والبنات وجميعهمولدوا في بلدان مختلفة، ومع ذلك يمكن القول إنني نجحت في تعريفهم بوطن لميعيشوه ويتعفروا بترابه. لذلك سأكون منصفاً ولا أزعم أنهم يحبونه كما أحبه. فالوطنالذي نتحدث عنه لم يمنحهم شيئاً يذكرهم به، بل على العكس لا شيء يأتي منه يسعدبالنسبة لهم، لا سيِّما وقد ارتبطت الأوطان في أذهانهم بمنطق الحقوق والواجبات. أعتقد أنهم يشفقون عليّ أحياناً من هذا الاستغراق في حضرة من أهوى، ذلك الذيقال عنه الشاعر الراحل محمد الفيتوري (عشقي ينفي عشقي وفنائي استغراق).

* هل هم مدركون الآن لتشكل شخصية سودانية في عوالم بعيدة وأخرى؟.. هل يعرفونالكسرة وزحام المواصلات؟

- بالطبع هم أكثر إدراكاً مني نسبة لوسائل المعرفة التي تلقوها. بيتي وطن مصغر،أستطيع أن أقول إنني حافظت على بيت سوداني مائة في المائة، ليس بمنطق الانعزالعن مجتمع نعيش فيه، وإنما بمنطق أننا نضيف له ثقافة جديدة إلى ثقافاته المتعددة. هذه الثقافة تشمل كل جميل في عاداتنا وتقاليدنا وسلوكياتنا وغالباً ما يكون ذلكمصدر دهشة لمعارفنا من الأصدقاء الأمريكيين أو غيرهم. وللإنصاف فإن زوجتيالراحلة لعبت دوراً كبيراً في كل هذا.

* كيف وجدت الخرطوم في عودتك الأولى بعد غياب دام سبعة عشر عاماً؟

- سُئل الأديب جيمس جويس بعد عودته من منفاه الاختياري في فرنسا: كيف وجدتإيرلندا؟ فقال وهل غادرتها؟ هذه بالضبط نفس مشاعري في العودتين. الأولى التيذكرتها كانت في العام 2006 بعد سبعة عشر عاماً، لم أشعر بالدهشة التي تتلبسالناس في مثل هذه المواقف، ذلك لأنني كنت مهموماً برؤية الإنسان وليس العمران. أماالزيارة الثانية فقد كانت في مناسبة غير سعيدة لا أذكر منها شيئاً علق بالذاكرة.

* ما الذي اختفى من الشخصية السودانية حتى الآن برأيك في تقلبات العولمة وظهورعوالم الرقمية والهواتف الذكية؟

- هذا سؤال كبير ومهم جداً. المجتمع السوداني ظلَّ في حالة تحولات جذرية، كلنا نعلمأنه في ظلّ الأنظمة الديكتاتورية تظهر المشاعر السالبة من حقد وحسد ومقت وكراهيةونفاق وأنانية واستعلاء وهلموا جرا. هذه التحولات لا تحتاج لمثقفين حتى يرصدوهاوإنما تحتاج لمتخصصين في علم الاجتماع. سألت أصدقاء عن عدد الكلياتالاجتماعية في الجامعات السودانية، ارتد إليّ سؤالي وهو حسير. عندما رفع النظامالحالي شعاراً نازياً ومستفزاً سماه (إعادة صياغة الإنسان السوداني) ارتعدت فرائصالدنيا كلها إلا نحن لم نول المسألة الاهتمام المطلوب، وكانت النتيجة المؤلمة أن النظامنجح في صياغة البعض وفق مفهومه الأيديولوجي، وهذا ما نرى محصلته في التغييراتالعنيفة التي طرأت على المجتمع ويختصرها الناس بالقول المندهش (والله الناساتغيروا..) من جهة أخرى، نعم الهواتف الذكية قربت المسافات، ولكنني منزعج جداً منسوء استخدام البعض لها، فما لمثل ما نراه صنعت هذه الوسائل.

* ألا تحن لجلسة في مدينة الشجرة تستعيد بها بعضا من أيام ماضية وزمن جميل؟

- الحنين – النوستولوجيا – هو جزء من مكونات الشخصية السودانية، لذلك تجدها رغمكثافة الهجرة وتطاول سنواتها لم تندمج بشكل كامل في المجتمعات التي تعيش فيها.أنا بالطبع لا أستثني نفسي من هذا الحنين الذي يجرفني ويغمرني ليل نهار. أنا ولدتفي الحماداب التي يطلق عليها أيضاً الشجرة وأحن لتفاصيل الحياة فيها وهي رغممدينيتها وقربها من الخرطوم إلا أنها ما زالت تتمسك بأخلاق القرية السودانية. وبالقدرنفسه أحن لنصفي الآخر وهو قرية ود عشيب في الجزيرة، وأظن أنني من خلالالاثنتين معاً توسلت حب هذا الوطن العظيم.

الحلقة الاولي من الحوار نشرت اليوم في صحيفة اليوم التالي

 

آراء