فقهاء الإسلام هم أول من حدد سن الرشد بثمانية عشر عاماً

 


 

 

 


Morizig@hotmail.com
ونحن نستقبل ولادة دستورٍ جديدٍ للبلاد، أجد نفسي في مقامٍ التأصيل لمسألة من المسائل المهمة التي يجب الإلتفات والتأصيل لها لأنَّها تتعلق بكثير من الحقوق والواجبات التي يؤسس عليها الدستور ويؤسس لها أيضاً. هذه المسألة هي مسألة سن الرشد في الدستور الحديث، وللأسف ظن كثير من المسلمين أن سن الرشد في نظر الشريعة بلوغ الذكر مرحلة الإحتلام، وبلوغ الأنثى مرحلة الحيض، وقد يحدث الحلم والحيض في وقتٍ مبكرٍ جداً بسبب التغذية الجيدة أو الجينات الوراثية.
ولكن هل حقاً اعتبر فقهاء الإسلام الإحتلام والحيض علامات على بلوغ درجة الرشد كما فهم عامة الناس؟ وبكلماتٍ أخر، هل أذا حاضت الفتاة -أو إحتلم الصبي- في سن العاشرة مثلاً، وقتلت شخصاً فهل تقتل بحجة أنَّها بالغ راشد؟ وإذا ورثت مالاً كثيراً في هذا العمر فهل يُسلًّم لها المال -أو له- بحجة أنَّها بالغ راشد؟ وهل يحق لها -أو له- الزواج ومباشرة عقد الزواج في هذا العمر بحجة البلوغ والرشد؟
هذه أسئلة تحتاج لأجوبة قاطعة ليبنى عليها فقهاء الدستور السوداني نصاً دستورياً واضحاً تتفرع منه القوانين التي تحفظ وتحمي للناس حقوقهم. وقد يُفاجأ كثيرٌ من الناس ومن ضمنهم كثير من أهل العلم الشرعي والقانونيين والدستوريين والمثقفين عندما يعلمون أنَّ أول من حدد سن الرشد على أساسٍ علمي وفقهي ومنطقي بثمانية عشر عاماً هم فقاء الإسلام وليس فقهاء الدساتير في أوربا وأمريكا. وفي الحقيقة قد أخذ فقهاء الدستور الغربيين من فقهاء الإسلام هذه المسألة وضمنوها دساتيرهم وتبنوها وبنوا عليها حقوق الأفراد الدستورية والقانونية في بلادهم.
وحتى لا يتهمنا أحدٌ بالقول جُزافاً نورد في هذا المقال أقوال علماء الإسلام ليعقلها أهل الإختصاص الدستوري والقانوني في بلادنا فيكونوا على بينةٍ من أمرهم في هذه المسألة المهمة. ولقد كان مدخل فقهاء الإسلام لمناقشة المسألة ثلاث كلماتٍ قرآنية هي "الحلم أو بلوغ النكاح" و"الرشد" و "أشده" ومن هذه الكلمات القرآنية الثلاثة خرجوا لنا بثلاثة مراحل عُمرية للإنسان حددوا فيها لكل مرحلة منهنَّ عدداً من السنّين يناسبها، والمراحل الثلاثة هي:
المرحلة الأولى: بلوغ الحلم
وكلمة الحلم في القرآـن الكريم جاءت في ثلاث آياتٍ مربوطة بالزواج وقضايا العورة والنكاح فقط والأيات التي ذكرت فيها كلمة الحلم أو بلوغ النكاح هي الآتي:
1- { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} (النساء 6)
2- { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (النور 58)
3- { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (النور 59)
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُم} (النور: 59) " أي البلوغ وحال النكاح، والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء (وهي الإحتلام، وإنبات الشعر، والسن)، واثنان يختصان بالنساء وهما الحيض والحَبل. واختلفوا في إنبات الشعر والسن فقال الأُوزاعِيّ والشافعيّ وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم. وهو قول ابن وهب وأَصْبَغ و إبن الماجشون وعمر بن عبد العزيز وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربي. ووفقاً لهؤلاء تجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السنّ (أي ال15) ولا تجب دون هذا العمر.
قال أَصْبَغ بن الفرج: والذي نقول به إن حدّ البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة؛ وذلك أحبّ ما فيه إليّ وأحسنه عندي؛ لأنه الحدُّ الذي يُسْمح فيه بالمشاركة في القتال، واحتج بحديث مسلم عن ابن عمر إذْ عُرض يوم الخَنْدق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز، ولم يُجَز يوم أُحُد؛ لأنه كان ابنَ أربع عشرة سنة.
قال أبو عمر بن عبد البر: هذا فيمن عرف مولده بالتحديد، وأمّا من جُهل مولده وسنّه، فالعمل فيه بما روى نافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أُمراء الأجْنَاد: ألا تَضرِبوا الجزية إلا على مَن جَرَت عليه المَوَاسِي. وقال عثمان في غلام سَرَق: ٱنظروا إن كان قد ٱخضرّ مِئزَره فاقطعوه.
وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يُحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ (العمر) ما لم يبلغه أحد إلا احتلم، وذلك سبع عشرة سنة؛ فيكون عليه حينئذٍ الحدّ إذا أتى ما يجب عليه الحدّ.
وعن أبي حنيفة رواية أُخرى: تسع عشرة سنة؛ وهي الأشهر عنه. وقال في البنت: بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر، وروى اللُّؤْلُئي عنه ثمان عشرة سنة.
وقال داود رافضاً تحديد الرشد بالسن: "لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة" ففي نظره الإحتلام هو الحَكم.
فأما إنبات الشعر فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ؛ وروي ذلك عن ابن القاسم وسالم، وقاله مالك مرةً، والشافعي في أحد قوليْه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقيل: هو بلوغ؛ إلاّ أنه يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت من المقاتلين ويترك الأطفال الذين لم ينبتوا الشعر.
وقال ابن القاسم: سمعت مالكاً يقول: العمل عندي على حديث عمربن الخطاب: لو جرت عليه المَواسِي لحددته. قال أصْبَغ: قال لي ابن القاسم وأحبّ إليّ ألاّ يقام عليه الحدّ إلا باجتماع الإنبات والبلوغ. وقال أبو حنيفة: لا يثبت بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دِلالة على البلوغ. وقال الزهري وعطاء: لا حدّ على من لم يحتلم؛ وهو قول الشافعيّ، ومال إليه مالك مَرّة، وقال به بعض أصحابه. وظاهره عدم اعتبار الإنبات والسنّ.
المرحلة الثانية: الرشد:
وكلمة (الرُشدُ أو الرَشَد) في القرآن الكريم جاءت دائماً مربوطة بحسن التصرف في الأموال والأفكار والعقائد وهذه المرحلة مذكورة في 13 آية بتصاريف مختلفة نذكر منها:
1- قوله تعالى: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ......} (النساء 6)
2- قوله تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة 256 )
3- { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} (الاعراف 146)
4- {يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } (الجن 2)
5- { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } (الجن 10)
6- {وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } (الجن 14)
7- {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } ( الجن 21)
8- { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } (هود 78)
9- {قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } (هود 87)
10- { فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } (هود 97 )
11- { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } (الكهف 10)
12- إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً} (الكهف 24)
13- { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف 66)
قال جميع المفسرين إنَّ معنى قوله تعالى { حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} يعني الحُلُم، والمقصود بها علامات النضج والكمال الجسماني بالإحتلام أو الحيض. أمّا بخصوص قوله { فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً } فختلفوا فيه على أربعة أقوالٍ هي:
أولها: إنَّ الرشد هو العقل والمقصود به القدرة على التمييز، وهو قول مجاهد، والشعبي.
الثاني: أنَّه العقل والصلاح في الدين، وهو قول السدي.
الثالث: أنَّه صلاح في الدين وحسن إدارة المال، وهو قول ابن عباس، والحسن، والشافعي والبيضاوي.
والرابع: أنَّه الصلاح والعلمُ بما يُصلحه وينفعه، وهو قول ابن جريج.
والآية كما هو واضح فرقت بين بلوغ الحلم وبلوغ الرشد. فبلوغ الحلم له علامة مادية واضحة أهمها خروج المني ودم الحيض، أما بلوغ الرشد فمسألة متأرجحة ولهذا السبب تركها الله تعالى مطلقة للتقدير فقال: { فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً} أي أبصرتم ورأيتم وعلمتم وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنًى واحد ولهذا السبب اختلف فيها أهل التفسير. وقراءة الجمهور «رُشْداً» بضم الراء وسكون الشين. وقرأ السُّلْمِيّ وعيسى والثّقفِيّ وابن مسعود رضي الله عنهم «رَشَداً» بفتح الراء والشين، وهما لغتان. وقيل: رُشْداً مصدر رَشَد. وَرَشَداً مصدر رَشِد، وكذلك الرّشاد. والله أعلم.
فتعيّن اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه أو علمه بحسب اختلاف حال الراشد. وقد اختلف العلماء في تأويل «رُشْداً» فقال الحسن وقتادة وغيرهما: صلاحاً في العقل والدّين. وقال ابن عباس والسُّدِّي والثَّورِيّ: صلاحاً في العقل وحفظ المال. وقال سعيد بن جُبير والشَّعبيّ: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده؛ فلا يُدفع إلى اليتيم مالُه وإن كان شيخاً حتى يؤنَس منه رشده. وهكذا قال الضحاك: لا يُعطَى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يُعلم منه حسن إدارة المال. وقال مجاهد: «رُشْداً» يعني في العقل خاصة. وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد بلوغ الحلم والحيض، ومن لم يرشد بعد بلوغ الحلُم لا يزول عنه الحجر ولا تزول عنه الوصاية وإن شاخ ؛ وهو مذهب مالك وغيره.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحرّ البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً إذا كان عاقلاً.
إذا ثبث هذا فاعلم أن دفع المال لليتيم يكون بشرطين:
1- البلوغ
2- إيناس الرشد
فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال لليتيم، كذلك نص الآية، وقد أسقط أبو حنيفة وزفر والنخعي إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. وفي هذا قال الإمام الشوكاني: ومن علامات البلوغ الإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة. وقال مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة، وهذه العلامات تعم الذكر، والأنثى، وتختص الأنثى بالحبل، والحيض. أما قوله تعالى: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ } إلا بعد بلوغ غاية هي: بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد، فلا بد من مجموع الأمرين، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ، وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم. والمراد بالرشد: نوعه، وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله، وعدم التبذير بها، ووضعها في مواضعها. ويقول الإمام البضاوي: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ } بمعنى اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف، أما قوله { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ } أي حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم، أو يستكمل خمس عشرة سنة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة، كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود "، وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وبلوغ النكاح كناية عن بلوغ الجسد لمرحلة الكمال العضوي الذي بقود للتوالد. وأضاف أبو حنيفة قائلاً: إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين (أي أصبحت 25 سنة تقريباً) فهي مدة معتبرة في تغير الأحوال، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة، دفع إليه المال وإن لم يؤنس منه الرشد. بمعنى أن الشخص إذا بلغ ال25 عاماً لا يسأل عن رشده ولا تحجر أمواله لأن هذا عمر كافٍ ليميز ما له وما عليه.
المرحلة الثالثة هي مرحلة الشدة:
وكلمة أشدّه وردت في القرآن الكريم في سياق الحكم والعلم وكمال التجربة الحياتية وهذه المرحلة مذكورة في أربع آياتٍ هي:
1- { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ} (يوسف 22)
2- { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (الإسراء 34)
3- { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ} (القصص 14)
4- { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ} (الأحقاف 15)
5- { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} (الأنعام 152)
يقول الإمام الرازي : " وأما قوله { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. وأما معنى الأشد وتفسيره قال الليث الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة، والشدة القوة والجلادة، والشديد الرجل القوي (التفسير الكبير، الرازي ، تفسير سورة الأنعام 152)
قال الإمام الطبري: "أما قوله: { حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ } فإن الأشدّ جمع شدّ، والشدّ: القوّة، وهو استحكام قوّة شبابه وسنه، كما شدّ النهار ارتفاعه وامتداده. فلـما بلغ يوسف أشدّه أي لـما بلغ منتهى شدّته وقوّته فـي شبـابه، وذلك فـيـما بـين ثمانـي عشرة إلـى ستـين سنة، وقـيـل إلـى أربعين سنة، وقد اختلف أهل التأويـل فـي الذي عنى الله به فـي هذا الـموضع من مبلغ الأشدّ، فقال بعضهم: عُنـي به ثلاث وثلاثون سنة وهو قول مـجاهد. وقال آخرون: بل عُنـي به عشرون سنة وهو قول الضحاك، ورُوي عن ابن عبـاس أنه قال: ما بـين ثمانـي عشرة سنة إلـى ثلاثـين. وجائز أن يكون قد آتاه الله حُكْماً وَعِلْـماً وهو ابن ثمانـي عشرة سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن عشرين سنة، وجائز أن يكون آتاه وهو ابن ثلاث وثلاثـين سنة، وقال مـجاهد: { حُكْماً وَعِلْـماً } هما العقل والعلـم قبل النبوّة.
قال الإمام الزمخشري : "قيل في سن الأشدّ: ثماني عشرة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون. وقيل: أقصاه ثنتان وستون. (الكشاف تفسير سورة يوسف)
قال القرطبي: " قوله تعالىٰ: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } يعني قوته، وقد تكون في البدن وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولا بُدّ من حصول الوجهين، فإن الأشُدّ وقعت هنا مُطلقة. وقد جاء بيان حال اليتيم في سورة «النساء» مقيدة، فقال:
{ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } (النساء: 6) فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد، فلو مُكِّن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهواته وبَقَى صُعْلوكاً لا مال له.... والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده. وفي الكلام حذف؛ فإذا بلغ أشدّه وعُلم منه الرشد فادفعوا إليه ماله. وٱختلف العلماء في أشُدّ اليتيم؛ فقال ابن زيد: بلوغه وقال أهل المدينة. بلوغه وإيناس رشده. وعند أبي حنيفة: خمس وعشرون سنة." (تفسير جامع الأحكام للقرطبي, تفسير سورة النساء آية 152)
قال الإمام الرازي:
"روى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس (أنّه قال) ولما بلغ أشده أي ثلاثاً وثلاثين سنة، وأقول إنَّ هذه الرواية شديدة الانطباق على القوانين الطبية.
وذلك لأن (الأطباء) قالوا إنَّ الإنسان يحدث (يولد) في أول الأمر ويتزايد كل يومٍ شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال، ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء، فكانت حالته شبيهة بحال القمر، فإنَّه يظهر هلالاً ضعيفاً ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدراً تاماً، ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق.
إذا عرفت هذا، فنقول مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسر، فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام، كان كل قسمٍ منها سبعة أيام، فلا جرم (أنَّ الأطباء) رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع (الأربعة)، فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين (7 سنوات)، ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة (أي صار عمره 14 عاماً) فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في (بداية) الأسبوع الثالث. وهناك (أي عند سن ال15) يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة، ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين (21 عاماً) ، وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين، وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء (وهو سن الرشد عند ال 21) ، فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون (28 عاماً) فقد تمت مدة النشوء والنماء، وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف (مرحلة الشدة)، وهو الزمان الذي يبلغ فيه الإنسان أشده، وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة، ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان، فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبدأ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب، والله أعلم بحقائق الأشياء." (التفسير الكبير للرازي)
وخلاصة الموضوع هو أن فقهاء الإسلام هم أول من فرق بين سن الرشد العقلي وبلوغ الجسم مرحلة الكمال بالإحتلام والحيض وأقل رقم نزلوا إليه في مسألة التكليف هو خمسة عشر عاماً وإذا وفقنا بين الآراء فسنجد أنَّ الثامن عشر (18) هي الوسط في سن الرشد التي تلي سن التكليف. ويجب أن نسأل أنفسنا هل مقصد الشريعة تأسيس الأسرة على البلوغ أم على الرشد؟ أم على كلاهما؟ والجواب هو أن الشريعة تريد أن تبنى الأسرة على البلوغ من أجل الإنجاب وإستمرارية النسل الإنساني وفي نفس الوقت تريد للأسرة أن تبنى على الرشد لتضمن إستمرارية الزواج وسعادة الأسرة كما حرص على مال اليتيم فنهت أن يدفع له ماله قبل سن الرشد وإن بلغ مرحلة الكمال الجسماني حتى لا يتبدد ماله فيقعد ملوماً محسوراً فيندم ويشقى.

 

آراء