كأنما كلما قيل عن فساد يستشري في جسد الدولة كان هراءً قبل عودة غوش. بل ربما أراد غوش جعل مكافحة الفساد معركته الأولى قي الطريق إلى المستقبل. على هذا الدرب يستطيع الجنرال العائد تصفية خصومه ومنافسيه. هذا نهج يساهم في إعادة رسم صورة مغايرة لصورة غير زاهية في الذاكرة الجمعية للفريق إبان سطوته السابقة على رأس جهاز الأمن.
قبل عودة غوش ظل الهمس في شأن الفساد كلام غير مباح، بل جريمة. كل أهل النظام، بما في ذلك الرئيس، يزجرون من يلوح بوجود مساس من الفساد. بعد عودة غوش لم تعد الظاهرة كذباً صراحاً. أصبحت واقعاً تستوجب مكافحتها بمعاقبة جناتها كما تصفية جيوبها. هذه الإفاقة الفجائية على واقع يعج بالنهب، السطو، الإحتيال والإكتناز الحرام.
خطوات غوش على طريق مكافحة الفساد تبدو وئيدة متعثرة. هو يريد التمظهر في دور الحاسم العادل. هذه إزدواجية تنم عن تردد أكثر من صدورها عن قناعة جريئة. الحسم والعدل لن ينسجما معاً في ظل إستفحال الظاهرة على أعلى مستويات نخب النظام القابضة على مفاصل السلطة ومفاتيح خزائن المال.
في إزدواجته المتعثرة يريد غوش الإستقواء بالقانون في مواجهة جهابزة الفساد. هذا درب وعر يتطلب صبرا ممدوداً ونفساً طويلاً. الإصابة بالإحباط قبيل نهاية الطريق أقرب من قطاف النجاح. لو تسلح الفريق بالصبر فلم يتبق للشعب من قدرة على الرهانات الخائبة. جيوب الفساد باينة للجميع، أركانه معروفون لدى العامة. القصاص على هذا الدرب يتطلب جرأة شجاعة تتسلح بالقناعة عوضاً عن الإستقواء بالقانون. ما أخذ عنوة واحتيالاً لا يؤخذ بغير جرآة وشجاعة.
تشكيل لجان التحقيق المساءلة القانونية. فالمحاكمة هو الدرب الوعر الطويل. الجناة الجهابزة أدرى بشعاب التحايل والمماطلة. الشخوص الشاخصة أمام المحققين يستظلون بشبكة متينة واسعة جزرها في الدولة وفرعها في القبيلة.
في فخاخ الدولة والقبيلة يتعثر المحققون، إن كانوا مستخلصين مخلصين خلصاً قادرين على مقاومة الضغوط مترفعين عن الإغراءات .
قبل خمس سنوات هزت تركيا فضيحة أبطالها الشاخصون على المسرح أربعة من الوزراء. درب التحقيق والمساءلة إستغرق نحواً من عامين أو يزيد ثم ماتت القضية. لجنة برلمانية رفضت إحالة الوزراء إلى القضاء. رفض بإيعاز من الرئيس .أحد الوزراء هدد أوردغان بجر إبنه ،بلال ، إلى قاعة المحكمة حال الذهاب إليها. تهديد بدد التحقيق والفضيحة. سيناريو أقرب إلى تبديد جهود غوش إذا أفلح المحققون في إعداد ملفات الإدانة في وجه متهمين.
الفساد ليس فقط في المال المنهوب. هو كذلك في مصادرة حق الشعب في الطعام، التطبب والإحساس بالأمان، الإطمئنان والسلام. الفساد ليس فقط في تفريخ العنف والترهيب والإرهاب. هو كذلك في التعامل مع المواطن بسلاح الإستعلاء والإهمال. كما هو في تغييب حق المواطن في الجهر بالكلام. أكثر من ذلك فساداً تغييب المواطن نفسه لمجرد الإختلاف في الرؤى أو نقد النظام. الفساد في الإستئثار والإحتكار.
هكذا لم يكن صلاح عبدالله مخطئاً عندما استهل معاركه بمنازلة المفسدين في الإنقاذ. لكنه لم يكن موفقاً في البدء على جبهة سارقي أموال الشعب وقوته.
أوعلى وجهة أكثر دقة مقارعتهم بسلاح القانون. ربما يستجلي الفريق بعد قدر غير قليل من الجهد والصبر مقولة بعض الحاذقين من الإنقاذيين "القانون حمار". التاريخ يحدثنا حتى بين الرسل وحدهم الأنبياء المسلحون إنتصروا أما العزل فقد جابهوا الهزيمة. في عهد الإنقاذ يتسلح المفسدون بالدولة إذ الفساد يتماهى مع النظام.
غوش يريد إقناعناً بتبديل مسلمة ثانية. رئيس جهاز الأمن ليس أحد أركان النظام بل جسر بينه وبين الشعب. لينين قال: البورجوازية تزعم التحدث باسم الشعب وهي تخونه. علي بن أبي طالب قال: يجب الإعتراف أنه لم يحدث كتيراً أن ينتصر الخير عندما يتحول الناس إلى الباطل. لكن علياً نفسه هو القائل: من المألوف أن يعلوالباطل ومن النادر أن يعلو الحق لكن النادر يستطيع تحقيق الإنتصار. لكي يكسب الفريق غوش رضا الجماهير على نحو يحملهم على استبدال قناعاتهم الراسخة لابد من توجيه ضربات عاجلة، قاصمة إلى بعض من جهابزة الفساد وجيوبه. تلك غاية لن تتحقق عبر المساءلة القانونية حتى في ظل إختلاق محكمة للفساد. السبيل الأقصر في إستهداف جبهات متزامنة مع أوكار سارقي قوت الشعب وأمواله. أزمة الوقود، مثلا تشكل في أبعادها بؤرة فساد مركب. ربما كان الإنقضاض عليها في حينها فرصة لإكساب الحملة الهادئة قدراً من الإثارة كما المصداقية.
لو سايرنا الروايات الرسمية المتناقضة فإن أزمة الوقود كما فضيحة الإمتحانات تفضح قصوراً يبلغ حد اللامبالاة بحال الشعب في أكثر من موقع.
من شأن إستبدال كل المسؤولين في تلك المواقع بجريرة عدم الكفاءة نفخ شيء من الحيوية في جهاز الدولة المترهل بالمحاسيب القاصرين المنتفعين. ذلك إجراء يتطلب جرأة شجاعة. إذاً فليغير صلاح عبدالله مسلماته الإنقاذية ثم تكتيكاته لكي يبدل الشعب خيبة أمله تجاه الرهان على إحتمال إصلاح ما أفسده الإنقاذ.