في يوم 28 رمضان الموافق 24 أبريل 1990م والأمة السودانية على مشارف عيد الفطر المبارك، أوقع نظام الإسلامويين مذبحة قوامها 29 ضابطاً من ضباط قوات الشعب المسلحة بتهمة أنهم كانوا يرتبون لإنقلاب على سلطتهم الإنقلابية التي كان قد مضى عليها عشرة أشهر. لم يعط عسكر نظام الأخوان المسلمين خصومهم فرصة لمحاكمة عادلة. في 24 ساعة (في ليلة تستقبل فيها الأمة السودانية العيد) كانوا قد نفذوا حكم الإعدام على التسعة وعشرين ضابطاً. لا يدري أهل الضحايا حتى اليوم أين دفنوا ! أصبح السودانيون يوم 25 أبريل - يوم عيد الفطر المبارك- والحزن يخيم في أكثر من بيت ! كانت دماء ضباط 28 رمضان أولى قطرات الدم التي أراقها نظام الأخوان المسلمين في السودان، لكنها لم تكن الأخيرة. أعدموا التسعة وعشرين ضابطاً ليلة العيد. وفي الطرف الآخر للمشهد السوداني مضى تلفاز النظام وإذاعته في بث برامجهما العادية ، برامج العيد والمسلسلات وقضايا إنصرافية أخرى من بينها وعودهم للشعب السوداني بأنهم سيحولون السودان الذي وصفوه بأنه كان على شفا الإنهيار إلى جنة وارفة الظلال ..فقد جاءوا لإنقاذه !! أسفر الإنقلابيون آنذاك عن نيتهم للإنفراد بالسلطة دون مشاركة أحد. فأخذوا في تسريح عشرات الآلاف من أفراد وضباط الجيش والشرطة وموظفي الخدمة المدنية، وإحلال عضويتهم مكانهم. وتمضي ماكنية صنع الأكاذيب والتفنن التي درجت صحف وأجهزة إعلام النظام في تسويقها، بأنّ السودان سيقود القارة والمنطقة بأسرها تحت مظلة ما أطلقوا عليه "المشروع الحضاري" . ظل إعلامهم يردد الشعار الزائف : نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع!! لم يدر سودانيون كثر بأن تنظيم الجبهة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابي وحوارييه كان يبيعهم وعوداً تذهب كل يوم أدراج الرياح. ولأنّ شكل الدولة وبرنامجها هو نقطة ضعف الإسلام السياسي ، فقد سقط مشروع الوهم الحضاري وأنخرط النظام الإنقلابي في إحياء أتون الحرب في جنوب السودان بدلاً من حل الأزمة. وحشد لحروبه مليشيات بمسميات مختلفة. بل تحولت الحرب في الجنوب بيد الإسلامويين من حرب بين جيش ومتمردين – كما كان يطلق عليهم – إلى حرب دينية جهادية. حصدت آلاف الشباب الذين غُسِلت أدمغتهم بزيجات الحور العين. ومن المفارقات أنه ما مرّ عيد إلا ونصبت في بيوت كثيرة خيام المآتم والعزاء. مثال ذلك شهداء معسكر العيلفون من الشباب الغض الذين كل ذنبهم أنهم حاولوا مغادرة المعسكر لحضور العيد مع ذويهم قبل أن يتم ترحيلهم للحرب في الجنوب. فإذا بالرصاص الهمجي ينهمر عليهم ليحصد العشرات بينما لاذ البعض إلى لجة نهر النيل الأزرق الذي ابتلع من لا يجيدون السباحة.
(2) وأمس القريب أعاد جنرالات مجلس عبد الفتاح البرهان تراجيديا العيد الحزين على الأمة السودانية. أعادوا السيناريو هذه المرة بدرجة من البشاعة جعلت العيد لملايين السودانيين بطعم الحنظل. فقد أجهز مئات العسكر والمليشيات على الشباب المعتصمين سلمياً فجر الإثنين التاسع والعشرين من رمضان ليحولوا ساحة الإعتصام إلى شلالات دم. ضرب وسحل وإطلاق رصاص تشبه نواياهم التي يغلفونها دائماً بالأكاذيب. كان مجلس أمن النظام المباد يعلن بمناسبة وبدون مناسبة بأنهم لن يفضوا ساحة الإعتصام. الساحة التي كانت تجربة سياسية وثقافية فريدة. كانت ساحة الإعتصام بشبابها الواعي مراناً للفعل الحضاري في سودان يستدعي وحدة شعوبنا عبر التعدد الخلاق. في أقل من شهرين جذبت ساحة الإعتصام أنظار البعيد قبل القريب. فالثورة السودانية التي ولدت من رحم الأمة السودانية دون سند خارجي ، وقد طرحت شعار " سلمية" ، وهزمت بسلميتها رصاص نظام الإسلامويين الملطخة أيادي قادتهم وجنرالاتهم بالدماء ، حاولت بسلميتها حوار مجلس أمن النظام عساها تجنب بلادنا مصائبهم وتحقن دماء بنات وأبناء شعبنا. لكن مجلس أمن النظام المباد – الذي اطلق على نفسه مسمى المجلس العسكري الإنتقالي يفاوض قوى الحرية والتغيير بلسان ويضمر الشر لشعبنا بليل. غاظتهم شعارات "سلمية" و "مدنية". غاظتهم الأغنيات الوطنية التي ولدت منذ عقود لتبعث حية في حناجر شابات وشباب ولدوا ونشأوا في سنوات الإنقاذ الكالحة لكنهم نجوا من زيفها. لم يتفضلوا عليهم بتدريسهم جغرافيا وتاريخ وطنهم. لكنهم أحبوا الوطن وقابلوا من أجل كرامته وحريته رصاص عسكر ومليشيات نظام الأخوان المسلمين الفاشي بصدور عارية إلا من الإيمان بالحرية. فكان لابد لمجلس عبدالفتاح البرهان وشريكه في الجرائم حميدتي أن يحاول إسكات هذه السيموفونية الحضارية ولو إلى حين. وكان شلال الدم الذي غطى ساحة الإعتصام السلمي فجر آخر يوم في شهر الصوم الفضيل . كان لابد أن يقلبوا فرح الناس بالعيد مأتماً كما درجوا على ذلك مذ حط طائر شؤمهم على بلادنا يوم 30 يونيو 1989م. جاء العيد هذه المرة متشحاً بثوب الحداد !!
(3) فلنخرج في خاتمة هذا المقال من التذكير بدموية وغدر نظام الإسلامويين الذي ما يزال يجر قدميه المتعبتين وقد بترأنا رأسه. لنخرج إلى تذكير قادة الحراك الثوري وممثلي الملايين بما هو أهم. أظن أنّ ممثلي قوى الحرية والتغيير – وكاتب هذه السطور لم يفقد الثقة بأهليتهم لقيادة دفة الحراك - أظنهم وعوا الدرس القاسي .. كنتم تحاورون الظل لا صاحب الظل! اليوم وقد سمع العالم كله ورأي في عصر الفضائيات المجزرة البشعة التي ارتكبها مجلس أمن النظام بمليشياته وعسكره وجنجويده .. المجزرة التي ارتدت عليهم بالساحق والماحق وحصرتهم في ركن أضيق من جحر الفار.. اليوم ومجلس الأمن الدولي ومجلس الأمن والسلم الأفريقي والإتحاد الأوروبي وكل احرار العالم قد اصطفوا إلى جانب ثورتنا التي أدهشت العالم برفعها شعار دولة الحقوق والمساواة بوجه نظام الإبادة الجماعية والإستبداد ، اليوم نقول لمن فوضتهم الملايين لترتيب الأمور باسمها: * إن محطة ما عرف بالتفاوض مع مجلس أمن النظام المباد قد تجاوزتها الأحداث وطوى الثوار صفحتها إلى الأبد. البند الوحيد في أجندتكم اليوم هو ما رفعته الثورة: قيام سلطة مدنية غير منقوصة. * سمعنا أن قد يحل اليوم ضيفاً عزيزاً علينا زعيم وقائد من أبناء قارتنا البكر هو رئيس وزراء الجارة الشقيقة إثيوبيا ، معالي الدكتور أبي احمد. لا ندري ماذا في حقيبة الرجل وهو يزور السودان بعد أن انفض اجتماع مجلس الأمن والسلم الأفريقي الذي علّق عضوية السودان وكل أنشطته كبلد عضو في هذه المنظمة الدولية ما لم يتم تسليم مقاليد البلاد لسلطة مدنية. ولأنكم تمثلون القوى التي صنعت حلم الملايين بالدولة المدنية فليكن كل ما تقولونه للضيف الكبير ومن ينوب عنهم في نقل الرسالة للمجتمع الدولي : شعبنا ليس على استعداد ليحاور الإنقلابيين فوق جثث شهدائه. إن كل ما يريده شعب السودان أن يسلمنا مجلس البرهان مقاليد الدولة المدنية كاملة غير منقوصة ، وليرحل غير مأسوف عليه ، وأن هذا التسليم والتسلم يكون بحضور وشهادة مندوبين للمنظمات الدولية وأعني الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي والترويكا بصفة خاصة. لقد مضى زمن الغفلة وحسن النوايا.
هذا كل ما ينتظر شعبنا أن تقولوه لضيفنا الكبير. نقطة.. وسطر جديد!