فى وداع فيدل كاسترو: لماذا تركت الحصان وحيداً؟!

 


 

حسن الجزولي
27 November, 2016

 

* كان أحد أهم الذين، أعادوا صياغة التاريخ المعاصر، لكوبا وللقارة اللاتينية، على وجه الخصوص!.
* عندما لم تنجح محاولات أمريكا في اغتياله فى لجأت لمحاصرة جزيرته الصغيرة ولسان حالها يردد سهر الجداد ولا نومو!
* هل سيبرئه التاريخ كقائد أممي فذ قاد شعبه خلال سنوات شبابه وفتوته ووسامته نحو الطريق الاٍشتراكى؟!
حسن الجزولي
{كتبت هذا المقال في أعقاب شائعات سرت قبل فترة مفادها أن فيدل كاسترو يحتضر وأن مؤسسة الحكم في كوبا تتكتم على الخبر ،، وهئنذا أعيد نشر المقال كما هو ودون أي تعديل لأنه يحمل الملامح الأساسية لرثاء هذا الانسان النادر الوجود ،، أو كما أراه أنا على المستوى الشخصي}!.
التاريخ سيبرئني!
هكذا واجه فيدل كاسترو فى 16 أكتوبر 1953 قضاته، الذين أداروا له محكمة شُكلت له ولرفاقه، ومن بينهم شقيقه راؤول، فى أعقاب الاٍنتفاضة الطلابية، التى شهدتها كوبا ضد الاٍنقلاب العسكرى، الذى قادة الديكتاتور فولغانسيو باتستا عام 1952.
جرت مياه كثيرة، تحت جسر ذلك الزمن، بين تاريخ تلك المحاكمة، وتاريخ اليوم الماثل، تبدل فيها الحال، وغدا الجلاد مداناً، والمتهم ليس بريئاً وحسب، بل أحد أهم الذين، أعادوا صياغة التاريخ المعاصر، لكوبا وللقارة اللاتينية، على وجه الخصوص!.
برز فيدل كاسترو، المحامى المنتمى للطبقة الأرستقراطية، كأحد المحركات المساهمة فى تاريخ كوبا، على مستوى كاريزميته على الأقل!، حيث أثر تحريضه المباشر، ليس على رفض الواقع فحسب، بل على العمل من أجل تغييره، فانتظمت جموع الفلاحين الفقراء أولاً، والمعوزين المعدمين من بروليتاريا، أكواخ جذوع الغابات الاٍستوائية، والصفيح الصدى، لتنضم اٍليهم شغيلة المدن، وكافة طبقات المجتمع الكوبى الأخرى، التى كانت لها مصلحة اٍجتماعية، فى التغيير والاٍنقلاب الثورى، ليس فى تمثيلها واٍشراكها فى السلطة وحسب، بل لمصادرة السلطة، كل السلطة، و كامل جهاز دولتها، لمصلحة برنامجها السياسى والفكرى!.
فمن تحت أضواء شاحبة، فى حانة متواضعة بالمكسيك، اٍلتقت ثُلة من ثوار لا يتعد مجموعها خمسة عشر ثورياً، من شتى بلدان أمريكا اللاتينية، كاسترو وشقيقه وكاميليو قيان فيوقيوس، بيريز – وضمنهم بالطبع، أرنستو شى جيفارا، الذى أنهى حياة (البوهيميا)، التى كان يعيشها متجولاً، فى ربوع القارة، ليتحول اٍلى مثقف ثورى وعضوي عن حق!- وتعاهدوا على الصرامة الثورية، والاٍنحياز اٍلى جموع المعوزين، فى كوبا، وأخذ كل السلطة، عنوة واقتداراً لأجل هؤلاء!. ثم وفى يناير 1957 ومن خليج المكسيك وعن طريق العبارة (غرانما)، اٍلى أطراف الجزيرة الكوبية، وجبال "سيرا مايسترا" تقع فى قبضات الثوار، مدن كوبا ومناطقها الكبرى، الواحدة تلو الأخرى، الهوم بريتو، لابلاتا، تلال أسكاميرى، قومينتو، كابيقوان، سانتاكلارا، سنتياقو دى كوبا، ثم هافانا، ومنذ لحظة سقوط العاصمة، فى أيدى الثوار الفقراء، بقيادة المحامى الثورى اٍبن الأثرياء، فيدل كاسترو، يتم التأسيس لتحالف عريض، لكل جماهير الجزيرة، التى لها رغبة فى التحول الاٍقتصادى والاٍجتماعى.
لم يدخل ذلك البهجة فى قلب أم" الاٍمبريالية العالمية " لتبدأ منذ ولادة القوى الجديدة فى الجزيرة التى تبعد عنها 90 ميلاً فقط، ولادة أخرى للتآمر، ومحاولات متعددة، لاٍدارة عقارب الزمن اٍلى الخلف، اٍضافة لأكثر من مائة محاولة مصاحبة، لاٍغتيال المحامى الثورى، الذى قاد جحافل المعدمين والفقراء، من أطراف بوادى الجزيرة للعاصمة هافانا!، ومن طرائف ما سجلته وثائق المخابرات المركزية الأمريكية، صنعها (لسيجار) فاخر، حشوه بقنبلة زمنية صغيرة موقوتة، تنفجر حال اٍشعالها!، اٍلا أن تلك الوكالة، وبعد أن أعدت لكل شئ، فات عليها أمر بسيط.. من الذى سيقدم السيجار؟!، وبعد أن أعياهم التفكير، اٍنصرفوا عن الخطة بكاملها!، وعندما لم تنجح محاولاتهم فى اٍغتيال كاسترو، لجأوا اٍلى محاصرة الجزيرة الصغيرة، ذات الاٍمكانيات المتواضعة، وحال لسانهم المتطاول يردد (سهر الجداد ولا نومو)!. ولا زال الحصار مستمراً!.
وخلال فترة وجيزة، تتحول الجزيرة الجميلة، من ماخور خلفى، لهواة العربدة بالقمار والنساء الفارهات والخمور المندلقة، وجميع أنواع المخدرات، والموائد الشهية، واٍقاعات الموسيقى الكوبية الملتهبة!، وسط مظاهر البؤس والفاقة، للغالبية العظمى من أبناء وبنات الجزيرة، التى كانت فى واقع الأمر، وطناً أماً (للشماسة)، الذين كانوا يعيشون، على قارعة الطريق، (كحثالة ورجرجة ودهماء) عن حق وحقيقة!. يتحول كل ذلك اٍلى (كميونة) ثورية، تتفجر فيها طاقات الجماهير، التى انتظمت لتتسيد على وضع الخطط المبرمجة للاٍقتصاد الكوبى والتنمية، ومازال الحصار مستمراً.
وفى فترة وجيزة، تسجل كوبا التى انحازت للطريق الاٍشتراكى، أعلى المعدلات، فى اٍنهاء الأمية والبطالة، وتجفيف منابع البغى، الذى كان يستشرى فى خاصرة الأمة الكوبية، فتعاد برمجة الصناعات، بزيادة معدلات الاٍنتاج للثروة القومية، فى مجالات السكر والتبغ، وتنشأ المستشفيات بمختلف تخصصاتها، لتقضى على الأمراض التى كانت مستوطنة تفتك بالمرضى، واٍلى ذلك تقوم المدارس،المعاهد والجامعات، خاصة جامعات وكليات الطب بكل تخصصاته، حتى فاضت الجزيرة، عن حاجة أطباءها فتصدرهم ، للدول المجاورة، مساهمة منها فى تطبيب أبنائها !، ومازال الحصار مستمراً.
وتتفجر كذلك طاقات الأمة الكامنة، فى نفوسها فى مجالات الثقافة والفنون والابداع والتربية الوطنية، واٍحياء التراث الوطنى، على خطى الزعيم الكوبى الوطنى "خوسى مارتى"، محرر الجزيرة من الاٍستعمار الاٍسبانى، فى منتصف القرن قبل الماضى، وما اٍلى ذلك ، من تعبيد للطرق، وتسهيل لوسائل المواصلات، وتوفير للسلع التموينية، الأساسية والترفيهية، كالمتاحف وصالات العرض السينمائى، والمسارح المختلفة التخصصات فى الموسيقى والدراما والبالية والأوبرا، وملاعب وصالات الرياضة، التى حصدت الميداليات الذهبية الدولية فى مختلف الضروب، وتعيد العافية والبهجة، فى نفوس شبيبتها، كأمل للمستقبل، باٍنسانيتهم التى أعادها لهم الأمل الاٍشتراكى بعد أن كانوا عبيداً يعيشون على هامش الحياة العامة وقاع المجتمع المدينى، بل أكثر من هذا وذاك، يتجهون للفضاء لغزوه بمصاحبة أحد مواطنيهم لـ (السوفيت العظام) !. ومازال الحصار مستمراً!.
وبكاريزميته يتحول فيدل كاسترو، وهو يقود كل تلك المنجزات، لوطنه وشعبه، اٍلى ملهم لشعوب جديدة، حيث يبرز كأحد زعماء دول العالم الثالث، اٍلى جانب كل من نهرو وجمال عبد الناصر وجوزيف بروز تيتو وشوان لاى، من خلال قيادتهم المشتركة لمجموعة دول عدم الاٍنحياز. وفوق كل ذلك، تتحول كوبا الاٍشتراكية، اٍلى سند معضد، لنضالات شعوب العالم الثالث، حينما تمد أيادى التضامن، لمؤازرة حركات التحرر الوطنى، فى فيتنام ولاوس وكمبوديا والجزائر ومصر، وفى موزمبيق وأنجولا وناميبيا وجنوب اٍفريقيا، ونضالات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية فى معاركها المصيرية ضد الهيمنة الاٍسرائيلية. ومن فوق أعلى المنابر الدولية، يطالب كاسترو بأهمية، اٍلغاء ديون الدول الفقيرة، بل محرضاً، على عدم تسديدها!. فيلتقيه ويحاوره ويصادقه عدد من أبرز أدباء وكتاب وفنانى العالم، كجان بول سارتر وسيمون دى بوفوار، قابريال قارسيا ماركيز وأرنست هيمنجواى، والصحفى الفرنسى ريجس دوبرية، الذى انحاز لاٍطروحات جيفارا، حول حرب العصابات، بعد أن تجشم مخاطر السفر بحثاً عنه، فى أدغال بوليفيا، ودفع الثمن تحقيقاً وسجناً!. ومازال الحصار مستمراً.
ومع اٍستمرار الحصار، وفيدل يحتضر فى هذه (اللحظة)! ، وقد كان هو " الحصان"- الاٍسم المحبب الذى كان رفاقة فى حرب العصابات يطلقونه عليه- وهو الذى لم يكل يوماً، ولم يمل، فى منازلة القهر والعسف والجور وقاطعى طريق العدالة الاٍجتماعية.
حتماً فاٍن غيابة عن المسرح الاٍقليمي والدولي سيمثل نهاية لحقبة، كتم فيها العالم أنفاسه، وهو يتابع بوادر، مواجهة كونية أخرى، بسبب أزمة نصب الصواريخ السوفيتية على الجزيرة، ومعارضة الولايات المتحدة لها، وأنذارها الشهير بخصوصها لـ (السوفيتات)!، وشهدت فيها أمريكا اللاتينية ولادة الحوار الفكرى المتحضر، بين أفكار ثواره وبين كنائس المنطقة، ليولد "لاهوت التحرير"!، والذى كان فيدل نفسه يمثل روح (الراهب الثورى) الهادى للمنفستو الذى تم التوصل اٍليه، والذى مهد لما آلت اٍليه، توجهات القارة بانحياز شعوبها، اٍلى البرامج ذات التوجه الاٍشتراكى!، كما شهدت الحقبة المنتهية، نهاية الحرب الباردة، بهزيمة المعسكر الاٍشتراكى، وتفكك الاٍتحاد السوفيتى، وترجله عن (دفة) اٍقتسام العالم، لتتفيأ الولايات المتحدة الأمريكية، ظلال المقعد الوثير، لتسجل معدلات نموها الاٍمبريالى أعلى مراحلها!، فتتحول بكاملها اٍلى اٍمبراطورية، تكشف للعالم عن وجهها البشع، الجشع غير الأخلاقى، لتدير العالم وفق ما تهوى وتشتهى!، وشهدت – الحقبة المنتهية - أطول حصار اٍقتصادى، (شبه عسكرى)، تشهده دولة( فتية) مثل كوبا!، ومازال الحصار مستمراً!.
ثم بداية لمرحلة أخرى ، ستُطرح بخصوصها كثير من الأسئلة، التى لن تُوجد لها اٍجابات، على أصعدة مهمة، بالنسبة للمراقبين للشأن الكوبى، ومن أهمها ما سيتشكل، فى رحم الغيب من توجهات، فى سياسات النظام الثورى، الذى ظل يحكم، منذ منتصف القرن الماضى، على هدى شمولية أبناء (العمومة) فى المعسكر الاٍشتراكى!، والذى انهار نتيجة لهذه (العمومية)، خاصة والنظام فى كوبا، ورغم كل اٍنجازاته التنموية الاٍجتماعية، التى يشهد بها العدو قبل الصديق، فاٍنه ليس بالبرئ، فى مجال الديمقراطية، والحريات العامة، وحقوق الاٍنسان، اٍلى جانب موضوعات أخرى تتعلق بالشفافية وحكم القانون، تلك القضايا المشكوك فى برائتها فى كل الأحوال!، فهل بعد رحيل كاسترو سيتفكك النظام الاٍشتراكى ياترى، باعتبار أن الـ (سى.آى اٍيه) لن تدع الجزيرة وشأنها، وهى التى شكلت شوكة فى حلقها لأكثر من عقد، وها هى الفرصة، قد واتتها برحيل مهندس اللعبة الأساسى، وهل بالفعل سيتكشف المسرح الداخلى، للأوضاع السياسية الكوبية، عن بنية مخلخلة، كانت فى واقع الأمر هشة وقشرة خارجية فقط،، بديكور اٍشتراكى وهمى، لاسند له جماهيرياً؟، وأن ما كان على السطح، اٍنما هو نتاج لحكم ديكتاتورى باطش، من نوع جديد، ظل يحكم بالحديد والنار، تماماً بمثل ما آلت اٍليه الأوضاع فى الاٍتحاد السوفيتى وباقى منظومة الدول الاٍشتراكية الأخرى ؟!، وفى هذا الصدد، ثمة مفارقتان لابد من الاٍشارة اٍليهما، وربان السفينة يودع وطنه وشعبه، الذى أفنى زهرة عمره وشبابه، من أجل اٍسعاده، الأولى أن المراقبين للشأن الكوبى، يشيرون اٍلى أن الذين يصرون، على المضى قدماً، بذات البنية القديمة للنظام، دون اٍحداث، أى تحولات حتى ولو طفيفة، ليسوا هم فى واقع الأمر الحرس القديم، من (عواجيز) قيادات الحزب، الذى عاصر بدايات اٍنتصار الثورة الكوبية، وساهم فى بناء (البنية التحتية والفوقية) للنظام الاٍشتراكى فى كوبا، بل هم الجيل الذى صعد اٍلى مواقع المسئولية القيادية للحزب وللدولة، وهم الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد، صبيحة اٍقتحام ثوار حرب العصابات، للعاصمة هافانا!، وهم فى الحقيقة من ظل كاسترو يستمد صموده منهم، فى وجه من يطالبون بالتغييرات الراديكالية! ، أما المفارقة الثانية فاٍن كاسترو وهو يودع ، العالم فى هذه اللحظة، اٍلى عالم آخر، يحيل تركة مثقلة بالكثير من الأسئلة، والتى ستؤول مسئولية الاٍجابة عليها، لمن سيخلفه، بينما تستقبل قارته اللاتينية، وعموم الجنوب الأمريكى، رياح التغيير السياسى والاٍجتماعى فى عالم جديد، على هدى التعددية و صناديق الاٍقتراع والاٍلتزام بخيارات الأغلبية!.
لقد تشرفت وسعدت- ضمن الآلاف- برؤية فيدل كاسترو، اٍبان اٍنعقاد المهرجان الحادى عشر للشباب والطلاب، والذى عقد فى نهاية سبعينات، القرن الماضى فى هافانا، ضمن وفد هيئة تحرير مجلة الشبيبة السرية، الناطقة بلسان اٍتحاد الشباب السوداني، وظفرت بمصافحته حتى عندما ظهر كاسترو، فجأة وسط حشد من بعض الوفود، شاءت الصدف أن أكون من بينها. وظفرت ضمن البعض بمصافحته حتى، والقوم يتدافرون نحوه، وقد كان ذلك فى (جزيرة الشباب)، المكان الذى يقع فيه السجن الرهيب، الذى حُبس فيه كاسترو ورفاقه، بعد المحاكمة التى حملته، مسئولية تفجير الاٍنتفاضة الطلابية، وقد حُول السجن، بعد انتصار الثورة اٍلى متحف، كتبت فى واجهته، باللغة الاٍسبانية، كلمات فيدل، التى أنهى فيها مرافعته، أمام قضاته :-
:- التاريخ سيبرئني!.
فهل عن حق، سيبرئه التاريخ، كقائد أممي فذ، قاد شعبه، خلال سنوات شبابه وفتوته ووسامته، مستمسكاً بالطريق الاٍشتراكى، باعتباره الطريق الوحيد، المفضى اٍلى سعادة الشعوب، رغماً عن دغدغة الاٍعلام الرأسمالى، لأحلام جيل اليوم الكوبى، الذى يصور لهم اٍقتصاديات السوق الحر، كجنات عدن، التى تجرى من تحتها، أنهار السعادة الخالدة؟! حتى أمس كاسترو (فرساً) هزيلاً ضامراً، تتكتم مؤسسات حكمه، على حالته الصحية، وكأنها تتوجس، ولو من (برهة) غيابه، الذى سيشكل عن حق فداحة، للعالم الشاسع (فى بُعده الاٍنسانى والأخلاقى) على الأقل!، باعتباره آخر عظماء القرن العشرين، الذين حاولوا أن يساهموا، بشكل أو آخر فى اٍعادة صياغة اٍنسانية هذا الكون؟!. أياً تكن الاٍجابات، فاٍن ما سأقوله مع الذين أتفق ويتفقون معى فيه هو .. أننا سنظل نذكر فيدل .. (الحصان) الذى كان!. فعلام، ولمّ ترك وحيداً؟! ،، ومازال الحصار مستمراً!.
ـــــــــــــــــــــــ
* عن صحيفة الميدان

helgizuli@gmail.com

 

آراء