في السودان الآن: ثورة كبرى بكل المقاييس!
من البدهي القول بأنّ الإحساس بالظلم هو القاسم المشترك بين كل الثورات. ومن الصواب أن نقول بأنّ تراكم الشعور بالظلم هو ما ينجم عنه اندلاع أي ثورة . فليس من ثورة في التاريخ قامت بين عشية وضحاها. إنّ وعي الشعوب بالظلم الناجم عن الفقر للخبز وللحرية هو الذي يصنع تراكمات الثورة. ولعل مقولة كارل ماركس بأنّ "الفقر لا يصنع ثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة" ، تبدو عين الصواب. فقد صبرت شعوب كثيرة على الجوع والإهانة والفقر ، لكنها لا تنتفض إلا حين تكتمل شروط الوعي بما تعاني. يقول الثائر الليبي الشيخ عمر المختار: "إنني أؤمن بحقِّي في الحرية، وحق بلادي في الحياة. وهذا الايمان أقوى من كلِّ سلاح." كانت وعي الثائر عمر المختار ورفاقه بحق شعبهم في الحرية هو النقطة الفارقة بين السكوت تحت مرارة الغبن وانفجار بركان ثورتهم ضد الاحتلال الإيطالي.
قد يتساءل الكثيرون : علام تأخرت هبّة الشارع السوداني على نظام مارس عليه الإستبداد بكل أشكاله طيلة ثلاثين سنة؟ وانطلاقاً من قاعدة علم الإجتماع سالفة الذكر نقول بأنّ محاولة تغييب الوعي كانت أحد أسلحة نظام الإخوان المسلمين في مدِّ أجل سلطتهم. فلا وسيلة في تغييب وعي الشعوب أكثر من استخدام الأنظمة أو الطائفة للوازع الديني. والمتأمل لمسيرة العصبة التي استولت على نظام الحكم بانقلاب عسكري في 1989م يرى بأنها كانت ترفع في كل مرحلة من مراحل عمرها شعاراً فضفاضاً، ثم إما فشلت في إنجازه، ركلته وهرعت لسواه. فحكومة الإنقاذ تقفز من شعار تطبيق "شرع الله"- شعار "المشروع الحضاري"، وتجييش الشباب في حروب عبثية سموها جهادا ، تقفز منه إلى الإفاقة تدريجاً من الغيبوبة والبحث عن ذرائع يسوقونها للشعب الصابر بأنّ الغرب الكافر وربيبته الصهيونية العالمية وعملاءهما في الداخل وراء حصار البلاد وتخريب اقتصادها . كل ذاك وهم ينشئون قنوات التلفزة كثيرة العدد ، عديمة الجدوى إلا بما تقدمه من برامج تسلية وبرامج هدفها تغبيش الوعي. كانوا - وأعني الإسلامويين- طيلة هذه الفترة ينهبون ثروات البلاد بكل مكر ودهاء. شركات تعمل في كل شيء بما في ذلك غسيل الأموال، وتخصيص مؤسسات الدولة ومشاريعها التنموية وبيعها لمحسوبيهم في خطتهم للتمكين لتنظيمهم الماسوني السلوك! يوازيه إمعان في بث الخطاب الديني الرجعي! وحين أقول "الخطاب الديني الرجعي" فإنني أميزه تماماً عن الدين حالة كونه محركاً للوعي ضد الظلم ، وحالة كونه ركيزة في لاهوت الثورة. إذ لا ينبغي أن أضع الشيخ الثائر "أزرق طيبة" في ذات المرتبة التي يقوم فيها إمام مسجد إنتهازي بتحذير المصلين من الثورة على الحاكم ، حاشداً أحاديث مختلقة لا يقبلها عقل.
وحين اكتملت دائرة الوعي بالظلم أو كادت ، كان لابد لشعب السودان أن يثور. ولعلّ كل متابع لواقع هذا البلد أدرك منذ واقعة عطبرة وما تبعها من تظاهرات شعبية عارمة في القضارف وبورتسودان ثم عاصمة البلاد- كل متابع للشأن السوداني، يدرك منذ الوهلة الأولى أنّ الشارع هذه المرة قد انتفض بوعي ثوري. يقوده فصيل اجتماعي مختلف في السن وفي الوعي الثوري - أعني فصيل الشباب. وأنّ تكنيك التظاهر السلمي - وإن ما رسه شعبنا في انتفاضتي اكتوبر 1964 وأبريل 1985 م - إلا إنه هذه المرّة جاء ضخماً من حيث الكم ، متسارع الوتيرة وممتداً بحجم البلاد كلها. إضافة إلى نجاح تجمع المهنيين وحلفائهم في قيادة عاصفة التظاهر السلمي . كما نجحوا في صد مؤامرات النظام وهو يحاول عبر آلة أكاذيبه أن ينسب للتظاهرات "حجوة" المؤامرات. محاولة فشلت في كبح التظاهرات السلمية المطالبة برحيل المنظومة الحاكمة كلها دون قيد أو شرط. وكلما طالت المدة نرى التظاهرات السلمية في ازدياد وتكون فوق ذلك قد حقنت الشارع بترياقين هامين: زوال عنصر الخوف وارتفاع الروح المعنوية للثوار. وعلى العكس من ذلك فإن أجهزة قمع النظام في حالة استعداد دائم. إحسب يا رعاك الله كم تكلف الخزينة الخاوية؟
إنّ ما يجري الآن في السودان ثورة كبرى بكل المقاييس . ولعلنا ننصح إعلام جيراننا العرب، ونخص قنوات تلفزتهم بأن تخرج من التنميط وسطحية التقارير الإخبارية عما يجري اليوم في السودان. ثورتنا لا تشبه الربيع العربي إلا بما تتشابه الثورات في العموميات. لهذه الثورة قيادة زرعت الوعي في الشارع وعبر الأحياء في المدن والقرى. و المدهش أنّ الشارع لا يطرح السؤال الساذج: من هم قادة التجمع المهني، أو من هم القيادة الميدانية؟ قال أحد المتظاهرين بحماس: ما عايز أعرف هسع قواد الثورة. لكن لو قالوا باكر أول رمضان، راح أصبح صايم!! أي ثقة في القيادة أكثر من هذا؟
ربما تستمر معركة لي الذراع بين شعبنا ونظام الإستبداد بعض الوقت. لكنّ واقع الحال يقول بأنّ سلاح العصيان المدني الذي سيكون خاتمة هذه المنازلة لن يطول انتظارنا له. ولشعبنا رصيد ثورتين سابقتين في إنهاء أنظمة عسكرية بسلاح العصيان المدني. هذا السلاح تملكه ثورتنا السلمية بامتياز.
ما يجري اليوم في السودان ثورة كبرى بكل المقاييس. شعب أعزل يخرج شبابه وشاباته وهم يرددون الأهازيج الوطنية والهتافات ، مشرعين صدورهم ضد الرصاص الحي ، وهتافهم في داخل البلاد وفي المهاجر (سلمية ..سلمية) و(حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب.) نقول للذين يراهنوان على بقاء هذا النظام ، إنّ قراءة متأنية لتاريخ الثورات الكبرى ( السلمية منها والعنيفة) يجد أن ثورة ديسمبر السودانية التي لم تصل محطتها الأخيرة بعد ، والتي هي قاب قوسين من الظفر أو أدنى، ستحدث زلزالاً مدوياً لن يبقى أثره في إزاحة النظام المستبد والديكتاتور المطارد من لدن العدالة الدولية فحسب ، بل ستطال عدواها المعافاة دولاً أخرى في المنطقة . وربما لهذا السبب رأى شعب السودان كيف ينظر إليه القريب والحبيب في صمت أشبه بالتآمر المريب.
فضيلي جمّاع
لندن في 5 فبراير 2019
fjamma16@yahoo.com
////////////////