في تذكر القائد الوطني الحاج نقد الله

 


 

 

( كنت قد كتبت هذا المقال بمناسبة مرور 17 عاماً على نكبة الصديق المناضل الحاج عبد الرحمن نقد الله، وأعيده اليوم بعد أن رحل عليه الرحمة).
* في يوم السبت 30 مايو الحالي تكون قد تصرمت 17 عاماً على محنة عبد الرحمن عبد الله عبد الرحمن نقد الله “الحاج”، والتي حدثت له في نفس هذا التاريخ عام 2003، وحسبما تحكي شقيقته الأستاذة سارة نقد الله الكادر القيادي بحزب الأمة القومي، فقد مكث الحاج بمستشفى الصافية بعد خروجه من معتقله الذي كان قد أودع إليه مع عدد آخر غالبيتهم من ضباط القوات المسلحة بتهمة تدبير إنقلاب عسكري، وكان يجري في المستشفى فحوصات طبية في بداية الأمر بعد تعرضه لوعكة صحية تكررت، وكان قبلها قد غادر إلى المملكة العربية السعودية ليتلقى علاجاً بالمستشفى العسكري هناك وهي الرحلة العلاجية التي كان قد أشرف عليها الأميرالراحل سلطان، تقول سارة أنه وبعد أن قرر أطباء مستشفى حاج الصافي إمكانية مغادرته المستشفى ظل منتظراً في بهو المستشفى مع شقيقته وصول العربة التي ستقلهما للمنزل، وفجأة مال على كتفها مع زفير عالي، ومن لحظتها يدخل الحاج في غيبوبة ويفقد وعيه الكامل منذ التاريخ المشار إليه!.
تشير لنا شقيقته سارة أن زملائه الضباط الذين تم اعتقالهم معه، يؤكدون أنه كان قد تعرض داخل المعتقل لظروف تعذيب وحشي، لإرغامه على سرد وقائع إنقلاب عسكري أتهم بتدبيره مع بعض الضباط كما سبق وأن أشرنا، إلا أن الحاج كما تؤكد سارة لم يشر لهم عن ذلك التعذيب لا من قريب أو بعيد!. لذا فإن الأسرة تربط الظرف الصحي الذي وجد نفسه فيه بذلك التعذيب الذي أكده زملائه بالمعتقل!.
تعرفت على الحبيب الحاج نقد الله ـ رد الله غربته ـ بسجن كوبر العمومي سنوات النظام المايوي البغيض، عندما تم اعتقالنا كمال شقيقي وأنا فترة كنت ما أزال طالباً مدرسياً بتهمة حيازة صحيفة الميدان السرية التي وجدها أفراد جهاز الأمن المايوي داخل دولابي وهم يفتشون منزلنا، وبعد التحقيق المكثف الذي أجري معنا بجهاز الأمن، تم إيداعنا قسم الشرقيات بسجن كوبر العمومي، الذي وجدناه خالياً من أي معتقل، وفي صبيحة اليوم الثاني انفتح باب القسم ليطل علينا الزميل الظريف السر النجيب أحد الكوادر القيادية النقابية النشطة في الحزب الشيوعي، وفي نفس اليوم مساءاً يلحق بنا شاب فارع الطول يرتدي زياً أنصارياً مهندماً، فجلس أربعتنا على نمرة المعتقل “برش” بالأرض بمنتصف حوش الشرقيات الفسيح وبدأنا التعارف وتجاذب أطراف الحديث، فبدت لي إبتسامة ذاك الأنصاري وكانها “ماكرة” أو قل “ثعلبية” تعبر عن “شقاوة وشيطنة” صاحبها!، وهو الأمر الذي تأكد لي تماماً في الشخصية التي عرفناها فيما بعد داخل المعتقل باسم الحاج نقد الله، أحد كوادر الصف الثاني القيادية بحزب الأمة وقتها، وقد إنضمت إلينا فيما بعد مجموعة من هذه الكوادر دفعة واحدة لأسباب لم ندري كنهها!، فلربما أن أجهزة أمن االنميري قد رصدت تحركات لهم بشكل أو آخر، ولم تمض سوى أيام قلائل حتى امتلأ قسم الشرقيات بمجموعة كبيرة من المعتقلين السياسيين بمختلف توجهاتهم وأحزابهم المعارضة للنظام المايوي، ولكن كانت كل من كوادر الشيوعيين والأنصار تشكلان النسبة الأكبر، فضلاً عن أبرز الشخصيات السياسية المعارضة كالقيادي الأنصاري الراحل صديق نمر ود. محمد سليمان عن الحزب الشيوعي إلى جانب الشهيد العميد محمد نور سعد الذي تم اعتقاله إثر عودته من رحلة له زار فيها زوجته الألمانية ببرلين الغربية!. والذي سيطلق سراحه ليقود فيما بعد المحاولة الانقلابية الجريئة في الثاني من يوليو عام 1976 التي نعتتها دوائر النظام المايوي البغيض بغزو المرتزقة، فيتم القبض عليه ويعدم رمياً بالرصاص.
وسط كل هذا الحشد انعقدت علاقة حميمة بيني وبين الأمير نقد الله، كانت تحفها الدعابات والمشاغبات، سيما وأن نوع تركيبة شخصيته تروق لي وأحرص على أن أصطفيها، كونها منفتحة بأريحية دون تحفظات قد تبدو عند القياديين من أحزابنا، لا غرو وأن “الحاج” كان شاباً يمتلئ حيوية وانطلاق، فقد درس المرحلة الابتدائية بمدارس الراهبات ثم اختار له والدة في المرحلة المتوسطة أن يدرسها بمنطقة المسلمية فعاش طيلة فترة دراسته بالداخلية، وبعدها أنهى دراسته الثانوية بمدرسة الأحفاد، وكان قد أنهى دراسته الجامعية حديثاً بجمهورية رومانيا وقتها والتي نال منها درجة الماجستير في الاقتصاد الزراعي، وكان قبلها قد بدأ دراسته الجامعية بروما التي لم يستمر فيها لسبب ما، لذا فقد كان ما يزال محتفظاً برشاقة الطلاب و”شغب الطلاب”، كانت أولى ملاحظاتي حول شخصيته هي عندما سألته عن ظروف إعتقاله لمدة أكثر من أسبوعين بإحدى حراسات أم درمان قبل أن ينقلوه إلى سجن كوبر العمومي، حيث كانت الطريقة التي سرد لي بها وقائع وتفاصيل الاعتقال في الزنزانة غاية في الطرافة والظرف البين، فقد كان يجسد الشخصيات التي عاش معها داخل زنزانة تلك الحراسة، وكانوا خليطاً من أصحاب سوابق متعددة في الجنوح الاجتماعي من مختلف السحنات وقبائل السودان، فارتحت لشخصيته التي وضح لي أنها آثرة ومؤثرة، كانت له قدرات فائقة على تجاوز روتين الحياة الممل داخل إعتقال كهذا الذي وجدنا أنفسنا فيه، فقد كان خلاقاً ومبدعاً في تنظيم البرامج الترفيهية مثال تأسيسه مع كمال الجزولي والشهيد محمد نور سعد لـ “نادي البعاعيت” وهو نادي كانت عضويته تنتظم في شكل حلقة داخل إحدى الزنازين المهجورة دون إضاءة، وتتناوب في سرد القصص والحكايات المخيفة والواقعية من التي حدثت في مختلف بقاع السودان، كالموتى الذين ينهضون من قبورهم و”السحاحير” الذين يطوفون الأحياء ليلاً، وأولئك الذين يتحولون إلى ذئاب وقطط في الليالي البهيمة!
ولا ننسى له ـ أقال الله عثرته ـ تلك الحلقات من الذكر اليلي بالنوبة التي صنعها من الكرتون، فتجده يتوسط حلقة الذكر التي أسسها يومياً وهو يضرب نوبته التي تئن وترجحن، بينما حلقة الذكر من حوله غارقة في غيبوبتها الصوفية، وهي تهتز وتميل يمنة ويسرى، وكان البعض يبدو وكأن ولهاً صوفياً حقيقياً قد تقمصهم حقيقة بتهويماتهم الشهيرة!، وما أن يغرق القوم في ذلك التجلي حتى تجد الحاج “يكسر” فجأة إيقاعات نوبته بإيقاع أخر أكثر حرارة فيحول حلقة الذكر إلى شئ آخر، حيث يسوق مجموعة الذكر بإيقاع صاخب للنوبة إلى تظاهرة حقيقية تهتف في ذلك الليل البهيم بشعارات سياسية حماسية منددة بالنظام المايوي وضد توجهات النميري الديكتاتورية، قبل أن يتوجه القوم ليخلدوا إلى نومهم، وهكذا يكون قد انصرم يوم في حياة المعتقل ريثما يعاودون ناموس حياتهم في صبيحة اليوم التالي وكل واحد منهم لا يدري متى يحين موعد خروجه إلى أهله من هذا “الجب” القاتم!.
وأذكر أنه من ضمن “تكسير حواجز” الروتين القاتل الذي دائماً ما يستهوي المناضل الحاج، فقد اتفق معي في ليلة وقفة عيد الأضحى المبارك، أن نذهب لصلاة العيد صباحاً في حوش القسم الفسيح، وكل منا يرتدي ملابس الآخر، حيث فوجئ المعتقلون بأن الحاج نقد الله يرتدي بنطلون شارلستون عريض وقميص بلون الفستق من قماش التريفيرا على موضة سنوات السبعينيات وصرختها تلك، بينما أرتدي أنا جبة “على الله” الآنصارية الشهيرة والناصعة البياض وعلى رأسي عمامة تتدلى منها العزبة “المهدوية” الطويلة. وقطعاً فإن طقساً كهذا لابد له أن يلفت الأنظار ويدخل البهجة على قلوب “إنكسر خاطرها” وهي بعيدة عن عوائلها وأطفالها وأهلها في صبيحة أول أيام لعيد الأضحى المبارك!.
وهكذا وبفضل تواجد الحاج نقد الله مع بعض المعتقلين الخلاقين استطعنا داخل المعتقل أن ننسق لحياة سياسية واجتماعية مشتركة، في البرامج الثقافية والرياضية والاجتماعية، وأذكر أشهرها كانت مسرحية “فتح الخرطوم” التي أخرجها كمال الجزولي من الحزب الشيوعي وأدى فيها الحبيب الحاج نقد الله من حزب الأمة دور الامام المهدي والسر النجيب من الحزب الشيوعي دور غردون ود. محمد سليمان دور الشاعر العباسي بينما تولى الشهيد محمد نور سعد دور المقاتل المهدوي حمدان أبعنجة، بالاضافة إلى تصميمه على الأرض “كجندي” للخارطة العسكرية لموقعة حصار الخرطوم بشكل خلاق ومدهش للاعتماد عليها في محاضرته العسكرية التي كان قد قدمها صبيحة ذلك اليوم حول كيفية سقوط الخرطوم، كنت أنا قد توليت مهمة مساعد المخرج لتلك المسرحية، وكان تقديمها قد تم في مساء يوم السادس والعشرين من يناير ذكرى تحرير الخرطوم، وأذكر أن حراس وضباط السجن العمومي قد إعتلوا سور وأسطح مباني السجن التي تحيط بقسم الشرقيات لمشاهدة المسرحية التي استمرت زهاء الساعة وكان إخراجها قد اعتمد على “تكسير الحائط الرابع” بالاستفادة من كل مساحات حوش قسم الشرقيات ليصير كخشبة للمسرح وليس حيزاً محدوداً فقط.
الملمح الأخر لشخصية الحاج نقد الله، أذكر له أنه لم يكن يتحفظ في آداء وترديد الأناشيد الثورية الجماعية التي تمجد بها جموع الشيوعيين السودانيين مواقف شهدائها من العسكريين والمدنيين داخل المعتقلات، فكان يردد مع جوقتنا وهو ينتظم معنا أناشيد محجوب شريف:ـ ” يا يابا الشفيع الساس وضلالة هجير الصيف ،، ويا تار البلد جوزيف” كما لم يكن يستنكف أن يردد معنا أيضاً نشيد ” حزبنا ،، قلبنا السواي وما حداث” وتراه يستمتع بنشيد ” عبد الخالق هداي المسالك أب قلباً حجر” الأمر الذي شجع بعض المعتقلين من الأنصار للمشاركة معنا أيضاً، كما شجعنا أيضاً للمشاركة في تأليف وتلحين وآداء بعض أناشيدهم في حزب الأمة، فطفقنا نردد معه ذاك النشيد الذي كتبه أحدهم وشارك في تلحينه كل من الراحل عمر محمد عمر الشهير بـ “الشهيد” من حزب الأمة والحاج نقد الله نفسه والسر النجيب من الحزب الشيوعي:ـ ” زعيمنا الصادق الصديق وجاسر ما بمسكو القيد”!.
كل ذلك كان يتم بالطبع ضمن محاولات للبحث عن الحد الأدنى من المشترك السياسي في سبيل وحدة قوى المعارضة الشعبية التي كنا ندعو لها في حزبنا الشيوعي والتي التأم شملها آخيراً في الساعة الواحدة من صبيحة السادس من أبريل بتوقيع قادة أحزاب المعارضة الأساسية على ميثاق قوى المعارضة لقيادة العصيان المدني والاضراب السياسي للاطاحة بحكم الفرد المطلق، والذي تم بالفعل بإسقاط نظام النميري الديكتاتوري العسكري وإلحاقه بمزبلة التاريخ وانتصار الشعب السوداني في ذلك اليوم المجيد من تاريخ شعبنا المجيد.وقد كان الحاج نقد الله أحد هؤلاء الكوادر القيادية داخل المعتقلات وخارجها من الذين ظلوا يؤمنون إيماناً عميقاً بضرورات الوحدة والوئام واحترام أسس وطبيعة التحالفات وعلى أهمية المضي بتلك التحالفات الجبهوية حتى آخر أشواطها المتفق عليها دون تراجع أو نكوص!.
وهو ما فهمته فيما بعد من حرص السر النجيب كمسؤول سياسي لفرع الحزب الشيوعي بقسم الشرقيات على إطلاع عدد محدد من عناصر القوى السياسية الأخرى داخل القسم على ” دورة اللجنة المركزية للحزب ” والتي كان صدورها قد صادف وجودنا داخل الاعتقال، وقد كان كل من الحاج نقد الله والعم الراحل صديق نقد عن حزب الأمة إضافة للشهيد محمد نور سعد يطلعون عليها، وقد علمت فيما بعد أن حرص النجيب كقيادي حزبي في ذلك المكان كان يهدف إلى أن تتعرف قيادات وكوادر محددة في أوساط أحزاب المعارضة داخل المعتقل ولها قدرات فكرية وسياسية متقدمة، على الخط السياسي للحزب الشيوعي!.
كما أن هناك واقعة سياسية ذات معزى ودلالة، فقد اتفق أن أقام التجمع الوطني الديمقراطي بجامعة أم درمان الأهلية تسعينات القرن الماضي برنامجاً سياسياً كان من المفترض أن يتحدث فيه الحاج نقد الله بركن فرع حزب الأمة القومي بالجامعة، ولسبب ما يخص الفرع فقد تم الغاء ليلة الحاج التي كان من المفترض أن يتحدث فيها، ولانقاذ الموقف أصر فرع الجبهة الديمقراطية أن يتحدث الحاج، فاتصلوا به ووافق على الحضور، حيث شكل طلاب الجبهة الديمقراطية حماية له عند دخوله حرم الجامعة للتحدث، ودوت هتافاتهم وهو محمول على أعناقهم بالشعار الشهير للأنصار وحزب الأمة ” الله أكبر ولله الحمد”!.
رد الله غربته عزيزنا الحاج عبد الله عبد الرحمن نقد الله، لا غرو فقد كان والده عليه الرحمة حفياً بالقوى السياسية الأخرى التي يلتقي معها إن دعى داعي العمل المشترك، وكان يكن للشهيد عبد الخالق محجوب إحتراماً ومعزة، خاصة في السنوات الأخيرة من فترة الديمقراطية الثانية، سيما في فترة المحنة التي مر بها عبد الخالق وحزبه إبان الأحداث المفجعة في أعقاب فشل إنقلاب 19 يوليو، حيث وقبل اعتقال الشهيد وبينما أجهزة أمن النميري راحت تلاحق الرجل وتبحث عنه، فقد وجه الراحل الأمير عبد الله نقد الله أعوانه وأهل بيته بضرورة الجد والاجتهاد في البحث والوصول بسرعة إلى المكان الذي يتواجد فيه عبد الخالق، لتأمين حياته من أجل الحيلولة دون اعتقاله من قبل أجهزة النميري!. إنهم عن حق يمثلون كأسرة ” عيال نقد الله ،، خدام الأنصار والأمة “! كما أطلقوا عليهم في أروقة حزبهم الوطني العريق.
له الرحمة العم الراحل عبد الله عبد الرحمن نقد الله والدعاء الصادق لابنه الحاج، الصديق العزيز بالشفاء التام ومنح الصحة والعافية له، لينهض كرة أخرى من أجل المساهمة في “قيادة رسن قافلة شعبه” نحو مشارف التوحد الصميم والحريات العامة والتنمية المستدامة في ظل براحات السلام والوئام والعدل الاجتماعي.
ــــــــــ
* لجنة التفكيك تمثلني ومحاربة الكرونة واجب وطني.

hassanelgizuli@yahoo.com
///////////////////

 

آراء