في ذكرى إبراهيم إسحاق

 


 

 

كانت سنة 1946 قدرا جميلا على حياة الأدب السوداني في تجلياته المتعددة من رواية وقصة ودراسات، فقد وُجد فيها أديبٌ وشاعرٌ وقاصٌ وروائي وباحث في إنسان واحد، وضع ميسمه الباهر على جبين الأدب السوداني الذي كان ما يزال يصطرع بين سمت عربي مغترب الملامح متجانب البيئة والمنطق والجمال، وسمت سوداني يستوعب فسيفساء شعوب السودان المتدابرة والمتقابلة والمتصاهرة وتلك التي في سبيلها لذلك، لكن يميزها ويربط بينها رباط يحيطها رغم اصطخاباتها يسمى الرباط السوداني، يحدد جغرافيتها وملامحها العامة المشتركة، ويسعى إلى تشبيك أياديها الممتدة جِبِلَّة إلى بعضها، ذلك الوشم السوداني أسس لرؤيته حمزة الملك طمبل، وأقام قواعده المحجوب، وحفر فيه وأبدع محمد المهدي المجذوب، وأعلى هديره محمد عبد الحي وصحبه.
كانت قرية "وَدْعَة" في دارفور هي مولده ومنطلقه ومكانه، بل كانت هي قَصْعَتَه التي أتى بها ووضعها في مائدة الأدب السوداني يُشْرِك فيه بها، لا يأبه بما احتاشها من تبدي، ولا بما اعتورها من إغراب قد يراه بعضهم، وضعها هكذا عارية كما خلقها الله واصطنعتها بيئتها، فما استساغها أكثرهم في مبدئه، كما لا يستسيغ ملاح "الكَوَل" غير آكليه، ولا يستطعم "التركين" غير أصحابه، لكن بشيءٍ من التجاور والتزاور والتعاشر والتبادل يطيب "الكول" لأهل التركين ويسيغ "التركين" أهل الكول، ويكتشفون أنهم يمتحون من إناء واحد زوَّرته لأعينهم أقداح الزجاج التي لا لون لها سوى أنَّها تعكس ألوان ما توضع عليه فيخاله الرائي شيئًا آخر.
كانت النشاءة الأولى حاضرةً في إبراهيم إسحق، حاضرةً في شكله وسمته وجلبابه وربطة عِمامة رأسه وكلِّ أدبه، مما أعطته الفرادة والتميُّز، كأنَّما تريد تمُدُّ لسانها لحداة البنيوية من لدن رونلاد بارت وتودوروف وصحبهم تهتف بحياة المؤلف لا موته لأنك تراه في أعماله وإبداعاته نبضًا حيَّا.
ظل معهد المعلمين كعبةً للمتميزين من أهل الطلب، فولجه إسحاق بعد تقضيه للمراحل التعليمية الأولية، فصقله وأمدَّه بأدواته المعرفية، فكان محطةً ثرَّةً في حياته ، ثم أعلى كعبه في المعرفة معهدُ الدراسات الإفريقية والآسيوية في جامعة الخرطوم، وهذا الأخير ظهرت آثاره في دراساته العلمية والنقدية القيمة التي أثرى بها معرفتنا بأنفسنا أولا، ثم المعارف العلمية، لأنَّ ما انتخبه من دراسات ما كانت انتخاباتُها عشوائية من أجل الكتابة والبحث، بل كانت تخدم مشروعه، مشروع الأدب السوداني، وقد أهَّله تخصصه في اللغة الإنجليزية للاطلاع الواسع على المنتوج الغربي لكبار مفكري الغرب، فتراهم كامنين في منعرجات نتوجاته الحداثية.
اضطلع بحمل راية السرد بعد الطيب صالح، وإنْ كان نتاجه الأول ونتاج الطيب خرجا في زمان واحد؛ إلا أن الطيب وجد من الحظِّ والحظوة فوق ما وجد إبراهيم إسحاق، ولعل مردَّ ذلك استخدام الطيب لهجة الوسط المتعارفة والمستخدمة في مساحات أوسع، واستبسال إسحاق في حواراته مصفَّدا بلهجة دارفور لا ينهزم عنها، وكان الطيب صالح يقدِّره فقد وصفه بأنَّه كاتبٌ كبيرٌ حقا، وأنَّه -عبر قراءته لمنتوج إبراهيم إسحاق- انفتح على غرب السودان وعاشه واشتاقه، وأظنُّ أن إبراهيم إسحاق نجح إذن في تعريف قارئيه على بقاعه وتلك مهمة من مهامه، أما إشادة الطيب صالح به فأكرمْ بها من إشادة، وأكرم بالطيب من أديب كلماته لها قيمتها وخطرها.
اتخذ إسحاق من بيئة غرب السودان-دارفور تحديدا- مكانًا لإبداعه كما أشرنا، فمتح منها فكرته وهمومه وشجونه وخيالاته وشخوصه ولغته، فضخ في أعماله الماتعة من متعة المكان بتفاصيله وتشابكاته، وأوعر على قارئيه من غير أبناء بيئته بتمسكه بلغة المكان، مما يومض ذواكرنا بأحاديث من كان يتباصر بالغريب في الأدب العربي – مع الفارق بالضرورة- والغريب إنَّما أغربه الزمان، أما غريب إبراهيم إسحق فقد أغربه المكان، وأبعدنا –المكان أيضًا-عن تَشَوُّف جماله وتشنف وقعه، لكن إسحاق أحضره لنا جَذْعَةً، وأعاضنا ذلك الحرمان بالحضور المكثف الشجي.
ويتجلى أثر المكان في روايته "حدث في القرية" و "مهرجان المدرسة القديمة" بكثافة فقد أحضر الصورة الشعبية لبيئته كاملة وقذف بها في آتون الأدب السوداني، وهذا ما نحتاجه، فتلك البقاع كانت مجهولة لدى كثير من السودانيين كما ذكر الطيب صالح ومثَّل لهذا الجهل بنفسه، ووسط السودان وإن تنوعت قومياته، ووفدته قوميات شتى من كامل التراب السوداني، لكنَّه استقام على هيئة محددة الملامح والسمات والأصوات، وصارت معروفة لكل الشعب السوداني، هنا -يحاول إسحاق إرفادها بدفقات جديدة من معين دارفور النابض، قُلْ: على الأقل على سبيل التواصل والإفهام والامتاع، كما أراد القذف بصور مكانه إلى المخيال العريض تُثْرِيه.
رفد إبراهيم إسحاق الأدب السوداني وملأه وأنضجه من فن القصة القصيرة، كما فعل مع الرواية، فكانت "أناس من كافا" و"وعرضحالات كباشية" وغير ذلك مما نراه في قائمة منتوجه، وبذلك أعلى من شأنه وزاد في وتيرته، ووسع في مجراه. وإبراهيم إسحاق كاتب شامل له مشروعه الذي يعمل فيه في أكثر من مجال، فنرى له دراساتٍ مقتدرة في الفلكلور، من ذلك دراسته القيمة الموسومة ب "هجرة الهلاليين من جزيرة العرب إلى شمال إفريقيا وبلاد السودان" والحكاية الشعبية في إفريقيا، ثم في ميدان الدراسات النقدية له إسهامات جليلة.
تقول سيرته: إنَّه بدأ مسيرته الأدبية بكتابة الشعر، ولعل ذلك اتباعًا لمن سبقه في مشروع الأدب السوداني فحمزة والمجذوب والمحجوب كانوا شعراء، لكن يبدو أنَّه وجد أنَّ الشعر يحصره فلا يتمكن من تصوير منتجعه الذي انتجع إليه من خارطة الأدب السوداني فآثر السرد، ونعم الاختيار اختار، فالسرد أوسع وأقدر على تمثُّل مشروع الأدب السوداني من الشعر، كما أنَّ هذا الجنس الأدبي كان ما يزال محوجًا إلى سودنة وتبييء.
ولنرجع إلى استخدامه اللهجة المحلية الدارفورية، وهذه الميزة بالتحديد هي ما أثار سخط بعضهم عليه، دافعُ رهط منهم انتياشه لأسوار الفصحى التي هم حراسها وسدنتها، ورهطٌ لا يتحرجون في إدغام العامية في السرد ولا يتورعون، لكن أزعجتهم عامية دارفور، فكأنهم اعتمدوا عامية الوسط لغةً معيارية لا يطيقون السماح لغيرها من تسور أسوار الأدب السوداني، وهم بذلك وقعوا فيما وقع فيه حراس الفصحى، فالفصحى لسبب أو لآخر صارت فصحى وكانت في مبدئها لهجة من لهجات العرب، وغلب على ظنِّ العلماء أنَّها لهجة قريش توافرت أسبابٌ عدة في تسيدها وهيمنتها، إذن كلا الرهطين ينزعان من منزع واحد وإن بدا لنا افتراقهما.
ولهجة دارفور في غالبها عربية، ويشتعل الصراع في أيهما أدنى للفصحى أهي أم عامية الوسط، وليس هذا محل الحكم والتفصيل، ولا يعنينا هذا الحكم في شيء البتة، إنما نرمي بذلك قطعًا لمن لا يستسيغونها ويستسيغون عامية الوسط ويرتضونها، فكلاهما يأخذ من الفصحى بقدر وينتحي منها ناحية، وكلاهما ينتجع نحو اللغات السودانية القديمة ويستلب منها، مع استواء أو إرجاح لإحداهما دون الأخرى من الاستلاف، لا يهمنا الحكم هذا أيضا في شيء، إنما يهمنا هو اقتدارها على تأدية وظيفتها الاجتماعية، ونقل مشاهدات واقعها بطريقة كلية، تعجز أي لهجة أخرى أن تنقلها بها، وهذا هو السرُّ في بقائها هكذا حتى تَبَرَّجَهَا لنا إسحاق والكلمات تبقى وتندثر بمقدار نجاحها أو فشلها في تأدية المعنى.
وقد بقيت عامية دارفور هكذا لتعبر وتستوعب الموروث الحضاري والبيئة والعادات التي لا تشابه إلا دارفور، فيتمكن الأديب أن يعبر عن حياته دون حواجز بين اللغة وتلك الحياة؛ وهذا ما جعل في الأدب السوداني جانباً من التفرد، ولغة الوجدان الفنية لا تتأتى لأديب إلا عن طريق التحامه بالحياة الاجتماعية التي هي الصلة بين القائل والمستمع، وانطلاقاً من عنصر الصدق والأصالة يجد الأديب السوداني نفسه في صراع بين الإحساس بالشيء والتعبير عن ذاك الإحساس، تلك الازدواجية تبرر للأديب لواذه بعاميته.
وجد إسحاق إهمالًا وصدا في بداياته ولم تتمهد له أبواب النشر، ولم تحتضنه ندوات وصحف المحافظين، لكن رحَّب به المحدثين وساندوه وما زال يتقحم مشروعه، يدفعه بكلتا يديه أمامه، أو يجرَّه تارة خلفه، ما يتزحزح عنه حتى أحضره واقعًا، وتهالكت رايات السرد على جيده تتلفعه.
في بعض أقواله عن قصصه ورواياته يكشف أنه يحاول قراءة المنتج المتعدد النواحي من اللقاء بين الأعراب والأهالي فأورث التماهي والتصاهر، العربي مع الإفريقي السوداني فخلقا وعيًا جديدا، هذا الوعي عززه أيضا تأقلم مكاني، ويحسب أن إلقائه بالعامي وسط السياق الفصيح هو ما اقتدره من جمال نثره على أعماله، رغم ما التبسه من صعوبة، فالجمال صعب، وعلى المتلقي أن يجتهد لكشف خباياه، ومهمة التحشية والشرح ليست قضية المبدع ومهمته، إنما مهمته أن ينقل صور محيطه بأمانة وصدق، ولغة قومه بلا تزييف، واللغة الإبداعية عنده تنبجث من عربية سودانية، لا عربية معيارية، فلا مناص عن كثير من الألفاظ السودانية التي تحتشد في عباراته، لكنه يجتهد ليستوعب القارئ التركيب الدقيق لصورته الفنية المعقدة بكثافة الإيحاءات في نصوصه السردية، وربما فات على القارئ العادي ذلك وهنا يأتي دور النقاد المفقود حسب زعمه فعليهم تنبيه القراء إلى التكثيف والإيحاءات

gasim1969@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء