*** [بغروب شمس يوم أمس الموافق 2 يوليو 2018 تكون قد تصرمت 42 عاماً على أحداث المحاولة الانقلابية الجريئة والتي قادها الشهيد محمد نور سعد ضد النميري ونظامه الباطش وحكمه العسكري الثاني بتاريخ 2 يوليو عام 1976، والذي أمكن لجماهير الشعب السوداني بكل فصائله وأحزابه السياسية مجتمعة أن تنزل به الهزيمة وتلحقه مذبلة التاريخ، فلقد تكررت المحاولات الانقلابية في إسقاط حكم الفرد المطلق، بأشكال مختلفة، ووقتها توصل الحزب الشيوعي بقرآءة سياسية موضوعية وبعد ما سمي بالمصالحة الوطنية، أن ما يسمى بالمصالحة الوطنية هي محاولة من النظام لكسب الوقت وأن الديكتاتورية ستفرغها إن آجلاً أو عاجلاً من مضامينها وستتنكر لها، وما على القوى السياسية إلا أن تحزم أمرها على إسقاط حكم الفرد المطلق، وأن الآداة الوحيدة التي يمكن بها إسقاطه هي الاضراب السياسي وأن شرط نجاحه هو وحدة فصائل المعارضة الشعبية حول برنامج حد أدني توقع عليه كافة هذه القوى السياسية الحية وتلتزم بتنفيذه، وظل الحزب الشيوعي يعمل في أوساط الجماهير منذ أن طرح هذه المبادرة في أعقاب مصالحة نظام مايو مع أحزاب اليمين في عام 1977، وظل يدعو القوى السياسية الحية في أوساط شعبنا من أجل العمل لتحقيق شرط الوحدة لقوى المعارضة وبالتالي تنفيذ الاضراب السياسي كسلاح سوداني خالص ومجرب وأثبت نجاحه في ثورة أكتوبر التي استطاعت به إسقاط الحكم العسكري الأول عام 1964. وبالوقائع المتعلقة بانقلاب الثاني من يوليو إنما ننطلق من ضرورة الاستفادة من تجارب الماضي ولسان حالنا يردد " ما أشبه الليلة بالبارحة" لكل الفصائل والقوى التي تعمل الآن من أجل ما يسمى بالهبوط الناعم لكي تتفكر في دروس تاريخ البلاد وتعتبر من خبرات شعبنا. وإن إرادة الشعب لا غالب لها في نهاية المطاف]. وقائع ما جرى في انقلاب 2 يوليو 1976:ـ* ما بين الثالثة والرابعة من صبيحة يوم الجمعة، الموافق 2 يوليو عام 1976، إستيقظ سكان العاصمة وحواجبهم معقودة دهشة، على أصوات رصاص كثيف، وتراشق بالنيران وإطلاق دانات وقذائف حربية، بدأ ذلك بصورة متقطعة في بداية الأمر، ولكنه سرعان ما تكثف، مما أدخل القلق في نفوس الناس، فهرعوا إلى الشوارع لمعرفة ما يجري فيها، إلا أنهم سرعان ما ارتدوا إلى منازلهم، فأوصدوا أبوابها عليهم والذعر والهلع يحتويهم، هذا بعد أن تأكد لهم بأن ثمة محاولة لإنقلاب عسكري، ضد نظام النميري يجري تنفيذها، وقد استمرت تلك المواجهات العسكرية لأكثر من يوم، جرت فيها تصفيات واغتيالات بين الجانبين، وسُفكت فيها دماء غزيرة وعزيزة ومؤسفة بين أكثر من جانب!. وتجسد الفزع حياً يمشي في شوارع العاصمة وأزقتها نهاراً جهاراً، شاهد فيها الناس جثث المهاجمين من التي حصدها رصاص القوات المسلحة ترقد على الشوارع، منتفخة وبعضها تنهشها الكلاب الجائعة، وتسري المعلومات وتتدفق متمددة على الطرقات، فتحملها الألسنة وسرعة ذبذبات الشائعات وتأثيرها المباشر إعلامياً!، فتصل للناس وهم يتابعون معركة حربية على شوارع العاصمة وأزقتها الخلفية والجانبية، دون أن يكون لهم رأي أو موقف محدد منها، حيث تم إقصاؤهم بالكامل من قبل الفريقين المتصارعين، فقد سرت شائعة تأكدت صحتها بأن عناصر من المهاجمين بدأت هجومها بمطار الخرطوم، حيث من المفترض وصول طائرة النميري من خارج البلاد، في وقت معلوم من فجر الثاني من يوليو 1976، ولكن قدر لتلك السفرية أن تصل قبل موعدها المعلوم ببضع دقائق، لينجو رئيس البلاد المستهدف ومرافقيه من المصير الذي كان ينتظرهم، وعلم أجهزة أمنه في الدقائق الآخيرة بمخطط المهاجمين ليعملوا على تهريب النميري خارج المطار قبل بضع دقائق فقط من بدء ساعة الهجوم المتفق عليها، والتي تم التخطيط لها بحنكة حتي يؤتى مأكولها!، كما سرت شائعة بعد دقائق معدودات، مفادها أن اللواء عبد الرحمن الشلالي قد قتل في المعركة المحتدمة وسط عاصمة البلاد!، والشلالي هو قائد السلاح الطبي والذي كان في طريقه بالفعل لمقر عمله بمستشفى السلاح الطبي بأم درمان، بعد أن علم ما يجري في العاصمة من مواجهات عسكرية، فقرر البكور لمباشرة مهامه وواجباته التي أملاها عليه ضميره المهني والوطني والطبي، في مثل هذه الظروف، فاعترض طريقه أحد مقاتلي الجبهة الوطنية، عند تخوم كبري أم درمان فأرغمه على الترجل هو وسائقه من العربة التي تقله، وسار بهما مباشرة نحو أدنى منحدر الكبري عند ضفته اليمنى ناحية مباني المستشفى العسكري نفسه ومدينة الفتيحاب، ثم لم يتوانى في تفريغ خزينة بندقيته بدزينة من الرصاص الذي انهمر على قائد السلاح الطبي البرئ، فيجندله شهيداً ضمن عشرات الشهداء من الجانبين في تلك الأيام الكالحة المعدودة!، وليس آخراً إعتقال أحد المواطنين ويعمل جندياً بالقوات المسلحة وبرتبة رقيب، وتعذيبه تعذيباً بشعاً من قبل أجهزة أمن النميري لورود معلومات مفادها أن قائد المحاولة الانقلابية مطابق لأسم الرجل، فيتضح لاحقاً بأن إسم قائد العملية العسكرية هو الشهيد العميد محمد نور سعد، وقد إستخدم إسماً مستعاراً يتعامل به وسط مقاتلي الجبهة الوطنية في مناطق الاعداد والتدريب طيلة فترة التحضير للمحاولة الانقلابية بمكان ما داخل الأراضي الليبية، وكان سوء حظ الرقيب الذي تم تعذيبه قد تطابق مع إسم التمويه الذي اختاره قائد العملية العسكرية، حيث يبدو أن مقاتلي الجبهة الوطنية قد أدلوا ضمن إعترافاتهم في التحقيقات التي أجريت معهم بإسم قائدهم العسكري، وعندما توفرت المعلومات للنظام وأجهزته الأمنية، حاول مضايرة ما أقدم عليه تجاه الرقيب البرئ بتسفيره خارج البلاد ليتلقي علاجاً مكثفاً في كبرى المستشفيات الأوروبية!. وسط كل ذلك كان مقاتلو الجبهة الوطنية يجاهدون للوصول إلى مبتغاهم لاستلام السلطة التي لا يعلمون شيئاً عن كنهها أو مكانها بالضبط أو أين تقع تحديداً، فرأتهم الجماهير يجوبون الشوارع عدواً ويسألون المارة عن مكانها بلهفة بالغة ،، مكان " السلطة"!. وكمثال لهذا كانوا يبحثون عن وجهة إذاعة أم درمان وأين تقع، فيسألون المارة في الخرطوم وأم درمان عنها، ويبدو أن إذاعة أم درمان تحديداً كانت مبتغاهم، ليبدأوا منها!، ولكن ناشت سهامهم، وبهذا الخصوص يبدو أن مقامهم كان في مقام الحركة الشعبية لتحرير السودان فيما بعد، مع فارق في التكتيك والأهداف، ففي سؤال وجهته صحيفة فرنسية للراحل جون قرنق في مؤتمر صحفي، عن مغزى تكرار مهاجمته للكرمك، وتحريرها بين فترة وأخرى، رد قائلاً بسرعة بديهته الساخرة: "عندكم في فرنسا يبدأ التعارف مع المرأة بتقبيل يدها، لذلك كان لا بد لنا أن نبدأ من مكان ما!". ومع صبيحة الأحد الرابع من يوليو، اليوم الثالث للمحاولة الانقلابية، التي دبرتها فصائل الجبهة الوطنية السودانية من ليبيا، لاسقاط نظام النميري، وقادها بجرأة الشهيد العميد محمد نور سعد. كانت قوات النظام المايوي، قد استعادت سيطرتها تماماً على الأوضاع عسكرياً بالعاصمة، وأمسكت بدفة توجيه أحداث تلك الأيام، بعد أن باغتتها المحاولة الانقلابية الشجاعة لاسقاط النظام المايوي منذ صبيحة تلك الجمعة. إذن لم تعد هناك ثمة مقاومة تذكر مع الرابع من يوليو في ذلك اليوم، إلا من بعض جيوب لبقايا الانقلابيين "السودانيين"! الذين تشتتوا هنا وهناك بمناطق متفرقة من العاصمة، بينما قوات النظام تطاردها وتضيق الخناق عليها. ولأن الانقلابيين قد باغتوا النظام، فإن الناس قد عاشوا وسط معلومات متضاربة وبها كثير من الضبابية، فيما لم يتسن لأي جهة، معرفة هوية المهاجمين للعاصمة أو أهدافهم، حيث لم يتمكن الانقلابيون، من إذاعة بيانهم الأول لأسباب فنية، حتى تتعرف عليهم الجماهير!، وكما يشير عصام الدين ميرغني أبو غسان في كتابه (الجيش السوداني والسياسة) قائلا " فمن ما يقارب الألف ومائتي مقاتل لم ينج سوى تلك المجموعة الصغيرة، وقتل معظم قادة وأفراد قوات الجبهة الوطنية وهم يقاتلون في شجاعة وبسالة منقطعة النظير لتحقيق هدف كبير لاستعادة الديمقراطية مهما كان نوعها – مرشدة ومستدامة – قُتلوا في معركة كبيرة توحد ضدهم فيها الشعب وقواته المسلحة نتيجة لقراءة سياسية خاطئة من قيادة الجبهة الوطنية ونتيجة لاخراج سئ للحركة قاد إلى رفض قبولها" ومضى موضحاً أن إخفاق الجبهة الوطنية في تنظيم العملية المساندة من تنظيم عسكري داخل القوات المسلحة للمساعدة في اسقاط النظام واستلام وتأمين السلطة قاد إلى أن " أصبحت المواجهة مع القوات المسلحة وليست مواجهة مع النظام المايوي، أقتنعت القوات المسلحة أنها المستهدفة، فخرجت في توحد وجماعية كاملة للدفاع عن نفسها، والدفاع عن شرفها من مغبة الهزيمة من غزاة لا تعرف هويتهم"!.
وحول "إرتزاق وعمالة" المقاتلين المهاجمين، فقد أوضح عصام الدين في كتابه المشار إليه قائلاً " نهض الجندي السوداني لمحو عار الهزيمة من قوة مدنية غزته مباغتة دون إنذار أو تمهيد ولا يعرف هويتها بل يشك في سودانيتها فكل المؤشرات الواضحة تؤكد أنها قدمت من خارج حدود الوطن" وما يعزز من وجهة نظره هو ما اشاراليه د. منصور خالد في نفس الكتاب قائلاً " أما الجيش السوداني فقد أفلح في التقاط أنفاسه منذ اللحظات الأولى لسببين الأول هو أنه كان يدافع عن كرامته قبل دفاعه عن النظام .فلا أحسب أن جيشاً يقبل الإنهزام أمام قوة مدنية من (الملكية) - وتلك هي أعلى مراحل التحقير عند العسكريين - تجيئه في عقر داره وتعتمد دون مواربة على غطاء خارجي يشهد عليه ما كان يردده راديو طرابلس عن الدعم الليبي المرتقب " هذه إذن هي الأسباب التي أدت لعزلة الحركة، بالشائعات التي أصبحت تتمدد في الشوارع والأزقة والتي مفادها أن "مرتزقة" من أثيوبيا وأرتريا وتشاد وأفارقة آخرين، هم ضمن من هاجموا العاصمة!. وما حدث هو أن إعلام مايو وصمهم بالمرتزقة والعملاء قصداً ليصطاد أكثر من عصفور بحجر واحد، فقد كان يسعي من جانب لاسترداد كرامته "الأمنية" التي هزتها الخطة الجريئة والمحكمة التي فاجأ بها الانقلابيون نظام مايو وعروا دعايته الفارغة في عدم قدرة تحرك أي قوة لهز أمن نظام مايو ونميري ومن الجانب الآخر لكي يستدر عطف الجماهير والشارع عندما اكتشف أن لا قواعد معه تسنده فدغدغ المشاعر بفرية الغزو الأجنبي من ليبيا وخلافه ،، ولقد شهد لهم الناس، وهم يزحفون لاحتلال القيادات العسكرية، أنهم كانوا يوجهون الناس على قارعة الطريق بالابتعاد عن أماكن الضرب خوفاً على حياتهم، فلم يمسوا إنساناً بسوء وكانوا عندما يذهبون للحوانيت القريبة لشراء حاجياتهم من بسكويت وخبز وتمر وطحنية وسيجائر وتنباك وخلافه كانوا يدفعون ثمن مشترواتهم عداً نقداً، ولم تسجل لهم ولو حالة سلب أو نهب واحدة ،، وفوق كل هذا وذاك شهد الناس لهم أنهم سودانيون شحماً ولحماً. وعليه فقد طوردت أعداد كبيرة، من هذه الجنسيات في أرجاء العاصمة، وتمت تصفية بعضهم، وضمنهم سودانيون لحماً ودماً، من مناطق "دارفور بغرب السودان وجبال النوبة" تحديداً!. وهكذا سيتجه النظام منذ تلك اللحظة وأجهزته المتعددة، إضافة لآلة إعلامه المجبولة على لي عنق الحقائق وطمسها - كما هي عادة كل عهد ديكتاتوري باطش وغاشم - وكما سبق وأشرنا إلى نعت أولئك السودانيين الشجعان بـ "المرتزقة قصداً"!، وذلك في محاولة للتقليل، من شأن الاقدام والبطولة والجرأة، التي إتصفت بها كامل محاولاتهم الانقلابية، لاسقاط النظام الديكتاتوري المايوي!.
ورغماً عن هزيمة نظام مايو وإداعه مزبلة التاريخ، إلا أن المستغرب هو تجاهل قيادات تلك الأحزاب لهؤلاء الشهداء المحسوبين عليهم حتى الآن، فلا نكاد نرى ثمة حفظ أي حقوق وطنية أو حتى شخصية لهم ولأسرهم، ولو في أبسط المعاني، في إطار تمجيد ذكرى استشهادهم رداً لاعتبارهم!. رحم الله شهداء ذلك الحادث من الجانبين،، لقد راحوا جميعاً ضحايا عنجهية النظام الديكتاتوري الباطش لمايو والنميري في محاولة منه للبقاء متشبثاً بالسلطة وترسانة الأسلحة والقوانين القمعية رغماً عن إرادة الشعب وكافة القوى السياسية الرافضة له والتي انتصرت عليه في خاتمة المطاف ،، لأن إرادة الجماهير لا غالب لها!. ــــــــــــــــــــ * نشرت بصحيفتي الميدان والجريدة. * بتصرف من الفصل الأول بعنوان "مدخل صادم" ضمن كتابنا "زمن وليم أندريا،، غزال السبعينات الأسمر"، تقديم التشكيلي إبراهيم الصلحي، دار مدارك للنشر، الطبعة الأولى 2015. helgizuli@gmail.com ///////////