في رثاء د. الطيب زين العابدين

 


 

 


نقاط بعد البث

و"آخيراً أيضاً" يختطف الموت اللعين أحد مفكري وقادة الرأي العام لأمتنا السودانية المغلوب على أمرها، بعد طول تربص بالراحل المقيم د. الطيب زين العابدين، وهو الذي كنا ضمن من أثقلت كفيه الضراعات للمولى عزً وجلً بأن يمنً عليه بالصحة والعافية لينهض كرة أخرى مساهماً في تضميد جراحات الوطن الذي أثخنت جسده المنهك الطعنات بأكثر مما تحتمله جوانحه.

نعم، أحببنا الرجل، لا غرو وقد اتخذ مواقفاً ناقدة ومشرفة صيرته أن ينأى بنفسه عن "أهل فكره" الذين كان منتمياً لهم، فخبر كل سوءاتهم، سيما وأنه كان ضمن كوادرهم الفكرية والقيادية الذين حذروا ببصيرة سياسية نافذة من مغبة الولوغ في التآمر على الديمقراطية والحريات العامة التي وفرها شعب السودان لهم ضمن كافة القوى السياسية، مناشداً بعدم المضي في تنفيذ إنقلاب الـ 30 من يونيو، حتى اتضح له أنهم قوم "لا يعقلون". ثم لم يستبينوا النصح وما يزالون!.
ولذا كنا في جهودنا الصحفية نحرص في كثير من الأحيان على محاورته واستصحاب إفاداته القيمة حول أبرز قضايا الراهن السياسي، فلم يكن ـ عليه الرحمة ـ يـضن علينا بآراءه السديدة والشجاعة. وقد مضى الراحل عبر كتاباته في نقده الصارم، مثابراً على ضرورة تصحيح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وظل على هذه الحال حتى اللحظات الأخيرة من عمره.
فقد تواصلنا معه عندما لزم سرير المستشفى في مدينة برايتون ببريطانيا للاطمئنان، مشفقين على وضعه ومؤاذرين، متمنين له الصحة والعافية، فعبر لنا بصدق عن أمانيه ـ والبلاد قاب قوسين أو أدنى من الانتصار وإزاحة طغمة الحركة الاسلامية ـ أن تتواصل الثورة الجماهيرية حتى تصل لغاياتها النهائية بالانتصار. وقد عبر مرة أخرى عن هذه المشاعر لاحقاً بعد الانتصار الفعلي، بالمقال الرصين الذي نظن أنه الأخير في حياته والذي كتبه في 15 أبريل 2019 وأذاعه راديو دبنقا ثم أعاد نشره موقع سودانايل، حيث عبر فيه عن فرحته وضمنه بعض رؤاه، مهنئاً الشعب بالظفر المبين، مشيراً لأسفه وحزنه أنه ليس مشاركاً هذه الفرحة، مؤكداً بأن التطورات المذهلة رفعت " معنوياتي مما مكنني قبل أيام رغم ضغوط المرض أن أكتب مقالة بعنوان: لا خيار للجيش إلا أن ينحاز للشعب"!.
كل ذلك شكل لدينا الأسباب الموضوعية في محبة الرجل وتقريظ مراجعاته السديدة واتخاذه مواقفاً إنحاز فيها للشعب المغلوب على أمره، لذا فقد استحق كل هذا التمجيد من عديد الكتابات الصادقة في رثائه، لا غرو وأن هذا شعب طيب وكريم الخصال، لا يبخل بالحب أبداً لمن يعطف عليه ويناجيه في خلده وأفكاره ومواقفه!.
وبهذه المناسبة أذكر أننا التقينا مصادفة د. عبد الوهاب الأفندي قبل سنوات في شقة الصديق الراحل أستاذ غازي سليمان عليه الرحمة بقلب لندن، وكان عبد الوهاب وقتها قد بدأ يتخذ مواقفاً ناقدة عن طريق مقالاته للنظام الذي كان يسانده فكرياً وتنظيمياً، أذكر أننا أبدينا إعجابنا بمواقفه حول كتاباته ووضع أرجله في أولى خطوات " النقد الذاتي" مقروناً بانتقاداته التي بدأها بصورة مكثفة للنظام وكشف عيوبه، وقد أشرنا لأهمية هذه المواقف والتي سيكون لها شأنها كونها تصدر من أحد "الدعامات الفكرية" في أوساط الحركة الاسلامية ، مذكرين بذات المواقف "النقدية" والتي بدأها أيضاً الصحفي المغدور الراحل محمد طه محمد أحمد عليه الرحمة، والذي في نقده اللاذع الذي سار فيه، بدا أنه لا يخشى لومة لائم من "أهله" رغم ما بدأ يواجهه من مضايقات ارتفع سقفها بتلك الحادثة البشعة التي استهدفت حياته نفسها، وأذكر أننا مازحنا د. الأفندي بأننا نعتبر أن ما يجمع كليهما ـ محمد طه وشخصه ـ هو أنهما " أولاد ترابلة بأكثر من كونهما "أولاد الترابي"!، وينحدران طبقياً من أسر إنعكست تربيتها عليهما في مواقفهما تلك، والتي ستصير في ميزان "حسناتهما الدينية والوطنية".!
جرت مياه كثيرة تحت جسور وأخاديد وخيران السودان منذ ذلك الوقت، ولم نر الرجل بعدها، إلا أننا ظللنا متتبعين ـ وما نزال ولا بد ـ لكتاباته عبر تلك المقالات التي بدأنا نرصد فيها ما أحبط نظرتنا الايجابية فيه وجعلنا نتيقن بأن الدكتور قد خذلنا أيًما خذلان!، خاصة بالنسبة لمقالاته الأخيرة بعد خلع نظام الانقاذ وتربسة رئيسه وسدنته، حيث لجوء الرجل للتعريض بثورة الجماهير وللتبرير والدفاع "بطرف خفي" عن مشروع "إخوانه" رغم أنه رآه قد سقط أمام عينيه ومرغته الجماهير في التراب المعفر تحت أرجلها!. وهي ملاحظة وقف عليها عديد من المراقبين والمهتمين والكتاب الذين بادروا معنا على إبراز هذا الأمر عبر مقالات خصصوها ليبينوا "الخيط الأبيض من الأسود" في مواقفه تجاه ثورة البلاد، وما نزال نرجو "الهداية" له!
إننا نرصد حالياً كتابات ـ على قلتها ـ ولكنها ناقدة وصريحة وصادقة من عدد كان يشكل كادراً قيادياً في الحركة الاسلامية، قدم فيها نقداً ذاتياً وانتقادات صريحة وصادقة دون مواربة أو "تقية" لمن كان يشايعهم، فقد قرأنا أكثر من نقد "شجاع وصميم وصادق" للأستاذ الصحفي عمار محمد آدم، دمغ فيه "أخوان ماضيه" بالفاشية واللصوصية والحرمنة ومفارقة كلمة الاسلام، مؤكداً على "ثعلبيتهم" في اتخاذ الدين الاسلامي الحنيف مطية للوصول إلى مقاعد السلطة لا أكثر ولا أقل واعترف بماضيه معهم وانتقده. وربما هناك آخرون أيضاً قد سلكوا نفس الطريق أو هم في طريقهم.
إننا نرى الواجب الذي يحتم استقبال مثل هذه الكتابات الناقدة بروح إيجابية والاشادة بها كمراجعات ضرورية، لابد من الاقرار فيها بضرورة عدم خلط الدين بالسياسة والاعتراف بالآخر المختلف واحترام خياراته، واستصحاب كافة المواد المتعلقة بالحقوق الأساسية للانسان الواردة في المواثيق الاقليمية والدولية في أسس توجهاتهم الفكرية مستقبلاً، حتى نفتح الطريق لكوادر هذا التنظيم المفارق لأسس "التعايش السلمي القويم" كقيادات وتعريفهم بقواعد وكيفية التربية السليمة على فضيلة النقد والنقد الذاتي والذي لم يتعلموه، لا في تربيتهم الاجتماعية أو حتى الدينية أو داخل تنظيم لم يكن متفرغاً لتربية عضويته على فضائل الاسلام والانسانية بأجمعها، بقدر ما كان غارقاً في مشروعه الذي بدى لأحد الظرفاء أنه كان بمثابة "مشروع سكني ،، وليس إسلامي بتاتاً"!.
نحن وفي مثل هذا الاحتفاء بقيم وشجاعة النقد والمراجعة، إنما نمهد لاحتفاء موضوعي حتى تتقدم هذه الجماعة خطوات تجاه مراجعة فكرية "صارمة" لكل تاريخها ومواقفها وطروحاتها، لكيما تتصالح أولاً مع نفسها ثم دينها وشعبها، وطلب الصفح بعد إعلانها الصادق، ليس كــ "توبة" نصوح حتى لاتكون دعوتنا لها "إستفزازية"، إنما كفراق فكري أمين لهذه الطريق الذي أودى بها لحتفها.
رحم الله أستاذنا العزيز بروف الطيب زين العابدين وغفر له، وموصول عزائنا يصل لأسرته المكلومة وأبنائه وبناته بمدينة برايتون ببريطانيا ولجميع تلاميذه وعارفي فضله ،، فقد حلً "آخيراً" يوم شكره.
ــــــــــــــــ
* شعار المرحلة: لجنة تفكيك التمكين وإزالته تمثلني.

hassanelgizuli@yahoo.com

 

آراء