خطر في بالي لبعض الوقت أن شيخي الدكتور عبد الله علي إبراهيم ربما كان من سنخ الشيوخ الذين لا يمنحون التلميذ، أو الحُوار، أكثر من فرصة واحدة عند الوقوع في المعاصي أو الولوغ في الخطايا التي يصعب غفرانها. وكنت أظن والحال كذلك أن الشيخ قد غفر لي ما تقدم من ذنبي في أمر مقالٍ كتبته قبل سنوات، تصديت فيه لدعاوى كان قد خرج بها على الناس حول مزاعم زعمها، وزحم بها الدنيا عن عمالة الدكتور منصور خالد للمخابرات الأمريكية. وكان مقالي ذاك قد نال من شيخي منالا، وأوجعه أيّما وجع، وأقضّ مضجعه زمانا طويلا.
وكان أكثر ما أوجعه وقتها هو أنني كشفت عن الدافع الحقيقي وراء سعيه المثابر للتنكيل بالدكتور منصور خالد وتشويه صورته. وكنت قد تحصلت على إفادات وشهادات من ثلاث شخصيات وطنية رفيعة عاصرت تلك الحادثة في العام 1970 من القرن الماضي التي أذل فيها الدكتور منصور شيخي وكسر كبريائه عندما طرده من موقع كان يفترض أن يكون فيه مساعدا للدكتور منصور في شأن عمل من أعمال السلطة الحاكمة وقتها، وكان الشيخ عهدذاك ناهضا في تشييد بنيان الدولة المايوية.
كنت قد راسلت الدكتور منصور نفسه متحريا ومستوثقاً، ولكنه تمنع إذ كان قد اتخذ موقفا قاطعا بعدم التعرض لتلك الاتهامات العبثية أو الاشتغال بصاحبها احتقارا له وتسفيلاً لقدره. ولكنني ألححت إلحاحاً ووظفت في درب غايتي ومبتغاي الحبيب الدكتور الواثق كمير الذي ناقش منصور واستنطقه فأكرمني بإفادته، وكانت مطابقة لرواية الشخصيات الثلاث مطابقةً كاملة.
كذلك آذى شيخي وأرهق نفسه أيما رهق أنني استعنت بتحليل مستفيض منشور خطه بنان الراحل الكبير الخاتم عدلان في مورد تقويم شخصية عبد الله بعد أن عايشه وزامله شخصا وفكرا، ولازمه دابّاً فوق الأرض ومستخفيا تحتها لأزمنةٍ طالت واستطالت.
وقد جاء مقال الخاتم في خمسة آلاف وسبعمائة وتسعين كلمة، تجرعها الشيخ كلمةً كلمة كما يتجرع السم. وظل ذلك المقال مبذولاً في عرصات الوسائط منذ كتابته في فبراير 2002 وحتى وفاة عدلان في أبريل 2005 دون أن يجرؤ الشيخ على الاقتراب منه أوالرد عليه، مع أنه يتصدى بالرد على كل كلمة تطاله أرضاً وإسفيرا، ويفرط في ذلك فلا يتورع حتى عن الرد على بذاءات الدهماء في بريد موقع (الراكوبة) الإلكتروني.
وقد خيّل لي لبرهة من الوقت أن شيخي عبد الله قد تنفس الصعداء عند إعلان نبأ وفاة الخاتم وقد أغناه الموت عن ملاحقة الملاحقين له بالسؤال المؤلم: أين الرد؟ وتذكرت عندها مقال الكاتب نديم شاؤول أحد أخلص تلاميذ أدونيس، وكانت للأخير موجدة أزلية وكراهية ناضحة لمحمود درويش. إذ كتب شاؤول في صحيفة (النهار) اللبنانية عند وفاة درويش: "اليوم توفي محمود درويش فشكراً له"! ولكنني استعذت بالله وطردت تلك الخاطرة الشريرة من رأسي. حاشاه شيخي، فمهما كان من أمره ليس هو من تبلغ به المرارات ذلك السقف المنتن من الحقد والكراهية.
عبّر الخاتم عن اعتقاد راسخ أن رفيق دربه الطويل عبد الله رجل خاوي الوفاض، ذو مظهر براق بالثقافة وباطن أجوف، وذكر عنه أنه: (يعتمد على تكتيكات معينة في تسويق أفكاره وفي الإيحاء للآخرين من خلال هذه التكتيكات بأنه عالم كبير لا يُشق له غبار وأنه علم من أعلام التنوير في بلادنا.. وهي أوصاف تجانب حقيقة عبد الله مجانبة تكاد تكون كلية). ومن رأي الخاتم أن عبد الله يسيطر عليه وهم المقولات الذاهلة، وأنه يتوسل لمقام المفكر بالتنطع في التنظير والإغراب في التعبير.
وقد طابقت تلك المقولات ووقعت وقع الحافر على الحافر على قناعات تبلورت عندي أن عبد الله يميل إلى الفرقعات الإعلامية مثل إطلاق تصريحات فاقعة الألوان في شكل ألعاب نارية بين الفينة والفينة، ويجهد إلى إكسابها جلال الثقافة عن طريق القولبة الدرامية والتقعر اللغوي.
وكنت بمقالي وموقفي ذاك قد نلت جائزة أول حُوار في التاريخ ينال من شيخه ويأخذ بلحيته و(يبشتنه) ويهدر هيبته أمام الناس. وفي المقابل فقد وفق الله شيخي عبد الله غاية التوفيق عندما نال الأسبوع الماضي جائزة أول شيخ في التاريخ يشتم حواره في مقال منشور بألفاظ سوقية من شاكلة: يا نذل، ويا رقيع، ويا خِرِع، ويا رخيص!
أقول كنت أظن ذلك، والظن لا يغني عن الحق شيئا. وكان الشيخ قد طمأنني أنه تجاوز وغفر وصفت نفسه. ذكر لي يومها أن الشيطان نزغ بيننا، وأن ذلك المقال إنما كان نفثة من نفثات الشيطان صادفتني على غير وضوء. ولكن الأيام سخرت مني ومدّت لي لسانها. وكشفت لي أن ذلك الجرح لم يبرأ أبداً بل ظل غائراً في قلب الشيخ، وأن الغفران لم يجد مدخلا ومستقراً في نفسه قط، فظل على توالي السنوات يترصّد ويتحيّن ويتلمس السبيل إلى شفاء صدره.
ومن هنا كانت غضبة شيخي المضرية الماحقة، التي نسي فيها نفسه، فتجرد من ثيابه عملاً بحكمة السوادنة: (البجيني متشمر بلاقيهو عريان). مع أنني، يشهد الله والناس، لم أتشمّر ولم أتنمّر، وإنما تحشمت في حضرته وتأدبت، وخفضت له جناح الذل من الرحمة، ودعوت ربي أن يرحمه كما رباني صغيرا.
غضب الشيخ عندما رآني أتجرّأ وأناصحه جهاراً حول أفضل السبل المتاحة أمامه لكي (ينملص) بسلاسة من تاريخه الضافي في خدمة أجندة العصبة المنقذة ورسالاتها، ورعاية شريعتها ومشروعاتها، وتجنيد الجنود من أمثالي، كما سنبيّن ونستفيض، للمنافحة عنها والذود عن بيضتها.
والحق أنه قد أبرحني وأثقل على نفسي مرأى الشيخ على تلك الهيئة النكراء، وقد فكّ إزاره وفقد وقاره وسقط من فوق ظهر حماره. وأنا أعلم عن شيخي أنه من مواليد العام 1939، والسقوط من ظهور الحمير لمن بلغ الثمانين ليس مما يُستهان به ويُستخف.