في عيد المعلم: سعد أمير طه: كاد المعلم أن يكون ساحرًا (1-2)
د.عبد الله علي ابراهيم
1 November, 2024
1 November, 2024
عبد الله علي إبراهيم
(سعد أمير هو ثالث ثلاثة أقول عنهم "استاذي" بلا مواربة: عبد الخالق محجوب، ويوسف فضل، وسعد. وجمعتني معرفة بالدكتورين عبد اللطيف سعيد والشيخ محمد الأمين بوثاق تلمذتنا على سعد: عبد اللطيف في طابت الوسطي، والشيخ في النيل الأبيض الوسطى، وأنا في عطبرة الأميرية. وكنت أرتب معهما لعقد سمنار عن سعد كمعلم استثنائي واضطرب الأمر بالحرب وإن جمعت طرفاً من آثاره من دكتور الشيخ. وتذاكرت أمره بالأمس مع الدكتور عبد الرحمن إبراهيم. وهيجتني الذكرى)
شغف كل من درس على يد المرحوم سعد أمير طه، ومنهم رئيس تحرير هذه الصحيفة (الفجر الجديد اللندنية المعارضة للإنقاذ في التسعينات الأولى)، الأستاذ يحي العوض، بالرجل صورة ومعرفة وطريقة. وكان يريح وجهه إلى جانب الكتف إذا مشى رشيقاً على الأرض. وحسبنا ذلك كبرًا وصلفاً أو "صعَّر خده" كما قال الشاعر القديم.. لا أدري. وكان صلفاً منه بهياً في عيوننا الصغيرة الكلفة بالروعة. وكان أكثر من يقلده في مشيته الغراء بيننا نحن تلاميذ مدرسة عطبرة الأميرية الوسطى في منتصف الخمسينات أخونا، ذكره الله بالخير، مصطفى محمد عثمان (الصفي) الذي ربما اقتدى بسعد أمير حين اختار التدريس على ما عداه من المهن.
علمنا بعد أن الميل في عنق سعد عاهة نجمت عن اضطراره الاختفاء في وضع عصيب على جسده حين هرب من مصر عبد الناصر عام 1954 أو نحوه إلى بلده السودان حين شدَّد نظام ناصر النكير على الشيوعيين. وكان سعد وقتئذ طالباً مبتدئاً في كلية الطب بجامعة القاهرة. وقيل إن السرطان الذي أودى بحياته، أو عاجله فيها، تأسس في العنق المصعَّر الذي عددناه في جهالتنا بطراً وعجباً و "فتونة".
سبق استلام سعد لمهام التدريس خبر أنه غشي مقهى المعلم الأبس في سوق عطبرة الكبير المقابل لمحلات حبيب بسطا والقريب من الجامع. وقيل إن سعداً لم يقبل إساءة من المعلم، وشدد عليه اللكمات و "البونية" حتى صرعه. وماكنا نحسب في صغرنا أن الله قد خلق خلقاً يصرع معلم الأبس الغليظ، الجسيم، العظيم. إذا جلس عند مدخل المقهى يمخر عباب الشيشة بأنفاسه الجمة، ويُحصي "الماركات" عدداً، ويشخط في الجرسونات. واتضح مؤخراً كذب الخبر. فالذي اشتبك مع الأبس كان هو الأستاذ صابر، الذي جاء منقولاً في ذات الوقت ليُدرِّس الرياضة البدنية بمدرسة الأقباط المصرية.
كان سعد خلاقاً، بارعاً، حازماً. لم يكن يقبل من تلاميذه غير الكمال وله يقين مجرب أنهم سيبلغونه بضرب المثل وبالشدة. لم يكن ليقبل بحجة القائل أن خطي في الأصل قبيح ولا سبيل إلى تحسينه. فهو يجبر الطالب على تحسينه، ويريك في السبورة خطاً عجباً، وتجد أنك جيد الخط في خاتمة المطاف. ولم يكن يشتري منطق من يعتذر بأنه لم يخلق لرسم الخرط. فهو يريك كيف تُسلس لك الخرط زمامها. فلم أر بعد سعد من يرسم خرطة النيل من منبعه إلى مصبه مع البحرين الأبيض والأحمر في خطوط مستقيمة كالمثلثات فيما يشبه رسوم الأطفال. وكان يفعل ذلك في مقام التوضيح بسرعة أنيقة. وقد فرض سعد على تلاميذ الفصل الرابع، الذي يوشك على الجلوس لامتحان الدخول للمدرسة الثانوية، شراء كراسات خاصة بالخرط التاريخية، وجعلهم يرسمون كل الخرط المقررة في المنهج بالألوان: للبحر لون، وللنيل لون، وللبحيرات لون، وللجبال لون، وللحدود الدولية لون، ولمواقع المدن لون.. وهلمجرا. وقد حمل تلاميذه حملاً على ذلك. وكانت له طريقة فذة للتحايل على معرفة المواقع التاريخية التي ترد في امتحان الخرطة في ورقة التاريخ. كان يطلب منا أن "نحفظ" أياً من تلك المواقع والمواضع بالنظر إلى انحناءة في النيل، أو اعوجاجة في الحدود الدولية للسودان، أو بانبعاجة في البحرين: الأبيض والأحمر. وكان يرينا كيف أنه إذا أحسنت استغلال قسمات الخرطة نفسها تمكنت من رسم خطين أفقي ورأسي يكون الموقع المطلوب حيث تقاطعان. ويحتاج هذا إلى جهد كبير وخيال عريض. ولم يكن سعد من يعتقد أننا خلو منهما. وأذكر أن كراسات خرطه تلك ظلت حتى بعد نقله متداولة في الفصل الرابع بمدرسة الأميرية وغيرها يرثها الجيل عن الجيل. ولا غرو إن احتل تلاميذه، حيث حل، المرتبة الأولى الممتازة في مادة التاريخ.
وكان لا يقبل تمحك أو عذر من يقول أن جسمه يخذله أو شجاعته تخونه دون ألعاب الجمباز على الحصان و "البّك" ابتداء من القفز العادي حتى "السمرسولت" حماك الله.
وكان الجميع سواسية عند سعد بإزاء الرياضة فكلا السمين والضعيف يقف ولا يقع. وكانت وقفته الفارعة، الواثقة، المشجعة، الحريفة عند الحصان يعين الممارس إذا اختلت حركات عنقه أو ظهره هي سببنا للمغامرة إلى بر السلامة.
وواضح أن سعداً كان ذا ملكات كاملة خصيبة. كان خطاطاً رساماً رياضياً بعزيمة على السداد وبغير شفقة. فقد كان السوط لا يبرح يده. ولم تكن "أدبة" السوط شاذة على وقتنا بالمدارس الوسطى. فقد كان السوط بها هو المعلم الخفي غير مدفوع الراتب. وأذكر أن زميلي الشايقي القح الصامت الدقيق عمر عبدالرحمن استنكر "حقول السياط" أمام مكتب المدرسين يوماً قائلاً: "مجزرة!" وقد سبقنا إلى الشكوى من سوط المعلم الشاعر البليغ التيجاني يوسف بشير (ت 1937) الذي ذاق الهول منه في المدرسة القرآنية: الخلوة. واشتكى قهر السوط الجيل من طلاب كلية غردون السودانية في الثلاثينات. وقد كره نفر كثير هذه المجانية في العقوبة وسارت عبارة "القرايه أم دق" (أي القراءة على إيقاع السوط) مثلاً في الحاجز النفسي. ولهذا قال الدكتور بيتر ود ورد، الذي صدرت له دراسات حسنة في السياسة السودانية، أن مبالغة الرئيس نميري في ارتداف كل عقوبة من محاكمه الناجزة بالجلد، إنما كانت محاولة لاستثمار أداة عقابية تقليدية أو معروفة في التأديب والإخزاء.
وكان سعد مع ذلك مدرسة أخرى موازية للمدرسة التي عرفناها. كان عالمه وسيماً. وكانت الأخرى عادية. وكانت مدرسته بحراً والمدرسة الأخرى ساقية. وقال المتنبى:
ومَنْ قَصَدَ البَحرَ استقلَّ السَّواقيا
وأحدثكم عن بحر سعد في لقاء آخر.
ibrahima@missouri.edu
(سعد أمير هو ثالث ثلاثة أقول عنهم "استاذي" بلا مواربة: عبد الخالق محجوب، ويوسف فضل، وسعد. وجمعتني معرفة بالدكتورين عبد اللطيف سعيد والشيخ محمد الأمين بوثاق تلمذتنا على سعد: عبد اللطيف في طابت الوسطي، والشيخ في النيل الأبيض الوسطى، وأنا في عطبرة الأميرية. وكنت أرتب معهما لعقد سمنار عن سعد كمعلم استثنائي واضطرب الأمر بالحرب وإن جمعت طرفاً من آثاره من دكتور الشيخ. وتذاكرت أمره بالأمس مع الدكتور عبد الرحمن إبراهيم. وهيجتني الذكرى)
شغف كل من درس على يد المرحوم سعد أمير طه، ومنهم رئيس تحرير هذه الصحيفة (الفجر الجديد اللندنية المعارضة للإنقاذ في التسعينات الأولى)، الأستاذ يحي العوض، بالرجل صورة ومعرفة وطريقة. وكان يريح وجهه إلى جانب الكتف إذا مشى رشيقاً على الأرض. وحسبنا ذلك كبرًا وصلفاً أو "صعَّر خده" كما قال الشاعر القديم.. لا أدري. وكان صلفاً منه بهياً في عيوننا الصغيرة الكلفة بالروعة. وكان أكثر من يقلده في مشيته الغراء بيننا نحن تلاميذ مدرسة عطبرة الأميرية الوسطى في منتصف الخمسينات أخونا، ذكره الله بالخير، مصطفى محمد عثمان (الصفي) الذي ربما اقتدى بسعد أمير حين اختار التدريس على ما عداه من المهن.
علمنا بعد أن الميل في عنق سعد عاهة نجمت عن اضطراره الاختفاء في وضع عصيب على جسده حين هرب من مصر عبد الناصر عام 1954 أو نحوه إلى بلده السودان حين شدَّد نظام ناصر النكير على الشيوعيين. وكان سعد وقتئذ طالباً مبتدئاً في كلية الطب بجامعة القاهرة. وقيل إن السرطان الذي أودى بحياته، أو عاجله فيها، تأسس في العنق المصعَّر الذي عددناه في جهالتنا بطراً وعجباً و "فتونة".
سبق استلام سعد لمهام التدريس خبر أنه غشي مقهى المعلم الأبس في سوق عطبرة الكبير المقابل لمحلات حبيب بسطا والقريب من الجامع. وقيل إن سعداً لم يقبل إساءة من المعلم، وشدد عليه اللكمات و "البونية" حتى صرعه. وماكنا نحسب في صغرنا أن الله قد خلق خلقاً يصرع معلم الأبس الغليظ، الجسيم، العظيم. إذا جلس عند مدخل المقهى يمخر عباب الشيشة بأنفاسه الجمة، ويُحصي "الماركات" عدداً، ويشخط في الجرسونات. واتضح مؤخراً كذب الخبر. فالذي اشتبك مع الأبس كان هو الأستاذ صابر، الذي جاء منقولاً في ذات الوقت ليُدرِّس الرياضة البدنية بمدرسة الأقباط المصرية.
كان سعد خلاقاً، بارعاً، حازماً. لم يكن يقبل من تلاميذه غير الكمال وله يقين مجرب أنهم سيبلغونه بضرب المثل وبالشدة. لم يكن ليقبل بحجة القائل أن خطي في الأصل قبيح ولا سبيل إلى تحسينه. فهو يجبر الطالب على تحسينه، ويريك في السبورة خطاً عجباً، وتجد أنك جيد الخط في خاتمة المطاف. ولم يكن يشتري منطق من يعتذر بأنه لم يخلق لرسم الخرط. فهو يريك كيف تُسلس لك الخرط زمامها. فلم أر بعد سعد من يرسم خرطة النيل من منبعه إلى مصبه مع البحرين الأبيض والأحمر في خطوط مستقيمة كالمثلثات فيما يشبه رسوم الأطفال. وكان يفعل ذلك في مقام التوضيح بسرعة أنيقة. وقد فرض سعد على تلاميذ الفصل الرابع، الذي يوشك على الجلوس لامتحان الدخول للمدرسة الثانوية، شراء كراسات خاصة بالخرط التاريخية، وجعلهم يرسمون كل الخرط المقررة في المنهج بالألوان: للبحر لون، وللنيل لون، وللبحيرات لون، وللجبال لون، وللحدود الدولية لون، ولمواقع المدن لون.. وهلمجرا. وقد حمل تلاميذه حملاً على ذلك. وكانت له طريقة فذة للتحايل على معرفة المواقع التاريخية التي ترد في امتحان الخرطة في ورقة التاريخ. كان يطلب منا أن "نحفظ" أياً من تلك المواقع والمواضع بالنظر إلى انحناءة في النيل، أو اعوجاجة في الحدود الدولية للسودان، أو بانبعاجة في البحرين: الأبيض والأحمر. وكان يرينا كيف أنه إذا أحسنت استغلال قسمات الخرطة نفسها تمكنت من رسم خطين أفقي ورأسي يكون الموقع المطلوب حيث تقاطعان. ويحتاج هذا إلى جهد كبير وخيال عريض. ولم يكن سعد من يعتقد أننا خلو منهما. وأذكر أن كراسات خرطه تلك ظلت حتى بعد نقله متداولة في الفصل الرابع بمدرسة الأميرية وغيرها يرثها الجيل عن الجيل. ولا غرو إن احتل تلاميذه، حيث حل، المرتبة الأولى الممتازة في مادة التاريخ.
وكان لا يقبل تمحك أو عذر من يقول أن جسمه يخذله أو شجاعته تخونه دون ألعاب الجمباز على الحصان و "البّك" ابتداء من القفز العادي حتى "السمرسولت" حماك الله.
وكان الجميع سواسية عند سعد بإزاء الرياضة فكلا السمين والضعيف يقف ولا يقع. وكانت وقفته الفارعة، الواثقة، المشجعة، الحريفة عند الحصان يعين الممارس إذا اختلت حركات عنقه أو ظهره هي سببنا للمغامرة إلى بر السلامة.
وواضح أن سعداً كان ذا ملكات كاملة خصيبة. كان خطاطاً رساماً رياضياً بعزيمة على السداد وبغير شفقة. فقد كان السوط لا يبرح يده. ولم تكن "أدبة" السوط شاذة على وقتنا بالمدارس الوسطى. فقد كان السوط بها هو المعلم الخفي غير مدفوع الراتب. وأذكر أن زميلي الشايقي القح الصامت الدقيق عمر عبدالرحمن استنكر "حقول السياط" أمام مكتب المدرسين يوماً قائلاً: "مجزرة!" وقد سبقنا إلى الشكوى من سوط المعلم الشاعر البليغ التيجاني يوسف بشير (ت 1937) الذي ذاق الهول منه في المدرسة القرآنية: الخلوة. واشتكى قهر السوط الجيل من طلاب كلية غردون السودانية في الثلاثينات. وقد كره نفر كثير هذه المجانية في العقوبة وسارت عبارة "القرايه أم دق" (أي القراءة على إيقاع السوط) مثلاً في الحاجز النفسي. ولهذا قال الدكتور بيتر ود ورد، الذي صدرت له دراسات حسنة في السياسة السودانية، أن مبالغة الرئيس نميري في ارتداف كل عقوبة من محاكمه الناجزة بالجلد، إنما كانت محاولة لاستثمار أداة عقابية تقليدية أو معروفة في التأديب والإخزاء.
وكان سعد مع ذلك مدرسة أخرى موازية للمدرسة التي عرفناها. كان عالمه وسيماً. وكانت الأخرى عادية. وكانت مدرسته بحراً والمدرسة الأخرى ساقية. وقال المتنبى:
ومَنْ قَصَدَ البَحرَ استقلَّ السَّواقيا
وأحدثكم عن بحر سعد في لقاء آخر.
ibrahima@missouri.edu