في فقه الأولويات: الحكمة كوستاريكية
بابكر فيصل بابكر
28 February, 2013
28 February, 2013
boulkea@yahoo.com
في تصريحٍ لهُ الإسبوع الماضي قال الفريق أول مهندس ركن عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع ( إنّ السودان بات ضمن منظومة الدول المصنِّعة للأجهزة والأسلحة الدفاعية في العالم، حيث يشارك في معرض أيدكس 2013م للصناعات الدفاعية بأبو ظبي بجانب ألف شركة من 57 دولة ). وأضاف قائلاً : ( نريد أن نكون دولة رقماً حتى نشارك في صنع الدفاع والسلام، لذلك جاءت مُشاركتنا بهذه المنتجات العديدة في هذا المعرض العالمي الشهير ). إنتهى
لا شكَّ أنَّ تواجد السُّودان في مُختلف المحافل الدوليَّة يُعتبر من الأمور الجيِّدة التي تعكس التواصل والتفاعل مع ما يدور في العالم الذي أصبح "غرفة" وليس "قرية" كما كان يُعبَّر عنه في الماضي القريب. غير أنَّ كاتب هذه السُّطور يرى أنَّ أولويات السودان في هذه المرحلة الحرجة من تاريخهِ – دون التقليل من أهمية التسليح - لا تتمثلُ في التواجد في معرض للتصنيع الحربي مثل معرض أيدكس.
إنَّ الدُّول لا تُصبح "أرقاماً" – بحسب تعبير السيِّد الوزير – في العالم إلا بعد أن تكتفي ذاتياً من أمورٍ أساسية على رأسها "غذاءها" لأنَّ من لا يملك قوتهُ لا يملك قرارهُ , و هذا أمرٌ أكثر إلحاحاً في دولة مثل السَّودان تُسمى "سلة غذاء العالم". إنّ فاتورة إستيراد الغذاء السنوية تراوحت في الثلاثة أعوام الأخيرة بين (1.7 مليار – 2 مليار دولار), وقد قفزت واردات البلد من محصول القمح وحدهُ من (21.8) مليون دولار عام 1990, إلى (800) مليون دولار عام 2012 ( نستورد 85 % من إجمالي القمح المُستهلك والذي يبلغ حوالى 2.2 مليون طن سنوياً ).
السُّودان لا يستوردُ الغذاء فقط بل تشمل قائمة إستيراده مئات السِّلع و المُعدِّات, والمواد الاولية, و المُنتجات النهائية, و المصنوعات ومُدخلاتها, ومن بينها السلعة الحسَّاسة "الدواء" الذي لا يتعدي تصنيعنا لهُ ال 20 % من إستهلاكنا بينما نستورد 80 % من الدواء المستهلك بقيمة تبلغ حوالى 428 مليون دولار في العام.
في بلدٍ يموتُ فيه الناسُ من الملاريا والسُّل الرئوي, وتنتشرُ فيه الأوبئة, و يضطرُّ سكان أطراف عاصمتهِ المثلثة لأكل "الميتة" في أسواق معروفة يجب أن لا تكون الأولوية للمُشاركة في معارض التصنيع الحربي !
وعندما يقول السيِّد الوزير إنَّ ( الشعب السوداني صبر وصابر طويلاً ودعم الإنتاج الحربي ليجد اليوم موقعه وسط منظومة الدول المصنعة لأجهزة الدفاع في العالم ). إنتهى
فإننا نقول لهُ إنَّ الشعب السُّوداني لم يصبر ويُصابر حتى يرى موقعهُ وسط منظومة الدول المُصنعة لأسلحة الدفاع, بل إنَّ هذا الشعب المغلوب على أمره يُريد فقط أساسيات الحياة الكريمة :الحُريَّة و العمل والتعليم والعلاج. أمَّا الطُموحات المدفوعة بالتفكير "الرغبوي" فهى تخصَّ فئةٍ محدودةٍ تقودها "آيديولوجيا" لا تكترث كثيراً لمُعطيات الواقع.
يُضيف السيِّد الوزير قائلاً إنّ : ( مشاركة السودان تجئ ضمن المنتجين العالميين للمنتجات الدفاعية، وذلك من خلال ما امتلكه السودان من خبرات وتجارب أهّلته لأن يعرض ما أنتجه خلال السنوات الماضية في مصانعه الحربية). إنتهى
وإذا جاز لنا ان نُجاري منطق السيِّد الوزير, ونُصدِّق أنَّ بلدنا أضحى ضمن المُنتجين العالميين للأسلحة الدِّفاعيَّة بفضل خبرته وتجاربه فإنَّ ما جرى ويجري على الأرض يُحيلنا لسؤال لا نستطيع الإجابة عليه : أين كانت أجهزتنا و أسلحتنا الدِّفاعيَّة عندما أغارت علينا الطائرات الإسرائيلية أربعة مرَّات ؟
الغارة الأولى وقعت يوم الخميس 15 ديسمبر 2011 وأصابت الطائرة الإسرائيلية المغيرة عربتين لاندكروزر وقتل فيها أربعة مواطنين من شرق السودان .وحدثت الغارة الثانية يوم الأحد 18 ديسمبر 2011 على عربة بوكس قتل جميع من فيها . كما سبق وهاجمت طائرات إسرائيلية في يناير 2009م قافلة شبيهة ، مما أسفر عن مقتل 119 شخصا وتدمير 23 شاحنة صغيرة. واخيراً هاجمت إسرائيل مصنع اليرموك للأسلحة في الخرطوم في أكتوبر 2012.
لماذا لم تستطع أسلحتنا "الدِّفاعيَّة", وأجهزتنا التي شاركنا بها في معرض أيداكس كشف و إسقاط الطائرات الإسرائيلية التي جاءتنا تسعى قاطعة الفيافي والبحار ؟ مع العلم أنَّ نفس الطائرات الإسرائيلية التي هاجمت أهدافاً في السودان عجزت عن تدمير "منصَّات" صواريخ "حماس" وهى حركة محصورة في قطاع صغير من الأرض "غزة" ولا تملك إمكانيات "دولة". لقد كنا للأسف – رغم أسلحتنا الدِّفاعية – هدفاً أسهل بكثير من منصات صواريخ المقاومة الفلسطينية.
لقد ذكرت في مقال سابق أنَّ إنفاق الأموال على الأسلحة والجيوش والقوة العسكرية لا يصنعُ دولاً عظيمة , وليس أدلَّ على زعمنا هذا من حال دولة مثل "كوريا الشماليَّة", التي نجحت في صُنع "القنبلة النووية" ومع ذلك يموتُ فيها الأطفال من سوء التغذية, و يضطرُ فيها الناس إلى أكل روث الحيوانات لأنهم لا يستطيعون الحصول على الأرز أو الذرة.
ومن ناحيةٍ أخرى فقد إنتبهتُ قبل عدَّة سنوات لأداء دولة صغيرة من دول أمريكا الوسطى هى "كوستاريكا", وكان سبب إهتمامي بها هو المُواجهة التي تمَّت بين مندوب السُّودان لدى الأمم المتحِّدة حينها السفير " عبد المحمود عبد الحليم" ومندوب كوستاريكا على خلفية صياغة الأخير مسوَّدة بيان في مجلس الأمن أغضب الخرطوم, حيث وصف مندوب السودان تلك الدولة بأنها من جمهوريات الموز "بنانا ريببليك", وهو وصف إزدرائي يُطلق على الجُمهوريات "الضعيفة" في أمريكا اللاتينية.
لم يُدافع مندوب كوستاريكا عن بلدهِ بخطبةٍ عصماء, أو بهجوم لفظىٍ كاسح, أو بعبارات مُنمقةٍ مُنتقاة, بل قام بمواجهة مندوبنا بلغة الأرقام للمقارنة بين السودان وكوستاريكا ,وأظهرت المُقارنة تفوُّق بلدهُ علينا في جميع مؤشرات التنمية العالمية التي يُعبِّر عنها المؤشر "العُمدة" التنمية البشريَّة.
من بين (187) دولة إحتلت كوستاريكا في عام 2011 المرتبة رقم (69) في تصنيف الدول بحسب مؤشر التنمية البشرية, بينما إحتل السودان المرتبة رقم (169), وهذا يعني أنَّ "جمهورية الموز" التي تحدَّث عنها مندوبنا السابق في الأمم المتحدة تتفوق علينا ب(100) مركز في التصنيف, فتأمَّل !!
إنَّ مُعدَّل معرفة القراءة والكتابة في كوستاريكا يبلغ (94.9 %), وقد كان متوسط العمر المتوقع عند الولادة للكوستاريكيين في عام 2011 (81.77 عاماً), وقد احتلت كوستاريكا المرتبة الخامسة على مستوى العالم والأولى على مستوى الأمريكتين من حيث مؤشر الأداء البيئي للعام 2012, وبلغ متوسط دخل الفرد فيها (11500) دولار أمريكي في 2011. أمَّا المؤشر العددي للفقر من نسبة السكان فقد بلغ فقط (8.24 %) في عام 2011, بينما يعيش (46.5 %) من مواطني السودان تحت خط الفقر بحسب إحصاءات 2011.
إحتلت كوستاريكا مكانها ضمن أعرق الديموقراطيات إذ تُعتبر من أقدم (22) دولة ديموقراطية في العالم.
أمَّا فيما يخصُّ "الدولة النوويَّة" كوريا الشماليَّة فإنَّ دراسة استقصائية للتغذية أجرتها الحكومة الكورية الشمالية، وبرنامج الأغذية العالمي واليونيسيف في عام 2006 وجدت أن 7٪ من الأطفال يعانون من سوء تغذية حاد، 37٪ يعانون سوء التغذية المزمن، 23.4٪ يعانون من نقص الوزن، وكانت الأمهات يُعانين من سوء التغذية وفقرالدم. وتعتبرُ الأمراض المُعدية مثل السُّل والملاريا والتهاب الكبد الوبائي مستوطنة في البلاد.
المُفاجأة الكبرى – والتي ترتبطُ إرتباطاً وثيقاً بموضوع هذا المقال - هى أنَّ كوستاريكا "دولة بلا جيش", حيث تمَّ إلغاء جيشها دستورياً و بصفةٍ دائمة في عام 1949 ( الدستور لا يسمح بقيام جيش ), وقيل حينها أنَّه "سيحلُّ محلهُ جيشٌ من المعلمين", وهو ما حدث بالفعل وانعكس في نسبة الأميِّة التي تكاد تنعدم.
في الختام نقول للسيِّد وزير الدِّفاع أنَّ تجربة كوستاريكا توضح بجلاء أنَّ الدولة يُمكن أن تصبح "رقماً" في العالم دون أن يكون لديها "جيش" بالمرَّة ,دعك من أن تكون صاحبة صناعات حربيَّة تشارك بها في معارض السلاح, ولكنها لا يُمكن ان تنال تلك الصفة إذا كانت تستوردُ كل شىء من الخارج – من غذائها حتى دوائها.
ولا حول ولا قوَّة إلا بالله