في قضية أمل هباني: الفكر الظلامي وجنون العداء للمرأة ! … بقلم: فضيلي جمّاع
لم يبق في السودان اليوم موضع قدمٍ للحياد. فإما أن تكون مع الملايين من أبناء وبنات شعبنا المهانة آدميتهم والمصادرة حناجرهم، أو أن تكون مع عصبةٍ لا تجمعهم بثقافات وقيم الشعب السوداني الأصيل وشيجة. أقتبس هنا ما كتبه المفكر وعالم الإجتماع الدكتور حيدر إبراهيم عليى في سفره (أزمة الإسلام السياسي) إذ يقول: (الصراع ليس بين الإسلام والإلحاد، ولكن بين حلف الطفيليين من تجار الجبهة (الإسلامية) والمتطلعين من العسكر الفاشلين مهنياً وسياسياً، والإنتهازيين من المثقفين وصبية صغار تمّ مصادرة المستقبل من قلوبهم وعقولهم، وتنظيمٍسياسي يبطن الإرهاب بالدين، وبين بقية أهل السودان.) ص 89 ، الطبعة الثانية ، الدار البيضاء 1991م.إنتهت أكذوبة مشروعهم التي أطلقوها قبل سبع وعشرين سنة، وأزهقوا من أجلها أرواح عشرات الآلاف في كل مكانٍ من بلادنا ، مجهزين على خارطة وطن المليون ميل مربع لتقسيمها بكل برود ، وإشعال حروب الإبادة فيها.
حين قلت إننا أمام معسكرين في السودان لا ثالث لهما فإنما قصدت إما أن يكون المرء مع قيم وموروثات شعب أقامها أباً عن جد – مع قيم حضارية وثقافية تعطي الأولوية لكرامة الإنسان، وللنساء والأطفال على وجه الخصوص، حيث تغنى شاعرنا ليطرب زامر الحي منذ أجيال إذ يقول: (أنا المامون على بنوت فريقو !!)إماأن تكون مع هذه القيم السمحةأو أن تجد نفسك شئت أم أبيت في المعسكر المضاد.ليس هناك موضع قدمٍ للحياد!
إنّ ظلامية فكر الإسلامويين لا تحتاج كبير اجتهاد ليقف المرء على بنيتها السلفية الهشة. ولعلّ قراءة متأنية لأهم ما أنتج فقه دعاتهم ومفكريهم -على تعدد مدارسهم- لم تخرج عن دعوة هلامية تكثر الصياح باسم الدين ، وبناء دولة الشريعة ، وإعادة أمجاد الدين ، حتى لو كان ذلك بإراقة دماء البشر (ولترق منهم دماء ولترق كل الدماء !!) والدولة في كل حركات الإسلامويين منذ حسن البنا (حركة الإخوان المسلمين) وكتابات أبو الحسن علي الحسني الندوي (الجماعة الإسلامية في باكستان) إلى نهضة الغنوشي في تونس والإصلاحين في تركيا العلمانية وفي الجزائر و”جبهة الميثاق الإسلامي” – متعددة التسميات والبرامج والتي انتهت بنسختيها (المؤتمر الوطني) و(المؤتمر الشعبي)- أقول إن “الدولة” في الحركات الإسلاموية منذ البنّا إلى يومنا هذا هي بمثابة كعب أخيل..هي نقطة الضعف حين ينزل التفكير إلى الواقع – ولنا في السقوط المدوي لمشروع الإسلامويين في السودان خير مثال. ذلك لأنه فقه ماضوي ومعادٍ للعصر.
مشكلة هذا الفكر المنغلق أنه يحصر الفقه واجتهاداته في عداوته المرأة. ويمكن للباحث أن يحصي من نماذج هذا العداء بين سلطة إسلامويي السودان وكيان المرأة السودانية ما لا يحصى: أبدأها بحوادث الإغتصاب التي صارت نمطاً في إهانة الخصم وطمس إنسانيته في مناطق النزاع (إغتصاب عشرات النساء في دار فور) مثالاً. يلي ذلك تكميم أفواه الصحفيات متى تجرأن على الوقوف مع الحق. ويصل العدوان على الصحفيات حد الإعتقال – آمال عباس وأمل هباني وسهير عبد الرحيم وأخريات- ثم التهديد بالجلد بتحريم لباس البنطلون (لبني والبنطلون الذي أقض مضاجعهم) وأنتهاء بالحبس والاغتصاب (الفنانة صفية إسحق)، أو حلق الشعر (هندوسة)!! ناهيك عن مضايقة الكاتبات وضربهن على مرأى من الناس -الروائية رانية مامون في ود مدني – إن لم تخني الذاكرة. والأمثلة كثيرة.
واليوم يبحث نظام الخيبة في دفاتره القديمة ، فلا يجد غير تكرار مهزلة محاكمة الصحفية الشجاعة أمل هباني بدعوى أنها أساءت لأحد مخبري النظام. لقد قدمت المرأة السودانية – سليلة مهيرة ورابحة الكنانية ومندي بنت السلطان عجبنا – قدمت في مسار نضال شعبنا تضحيات جسام. أفنت الرائدات في قضية المرأة عمراً ينشرن الوعي ويحاربن الغيبوبة والظلام. وقد سعدت غاية السعادة وأنا أستمع إلى تسجيل لصوت الأستاذة أمل هباني التي رفضت دفع الغرامة مفضلة البقاء في السجن من أجل قضية عادلة- هي قضية العدل والحرية لشعبنا.
ستخرج أمل وأخريات كثيرات من محنة فقه الغيبوبة وهن شامخات الجباه. لكن علينا أن نعلم نحن الكثرة الغالبة أن نظاماً يهين المرأة على مرمى من جلابيب ولحى الرِّجال يجب أن يذهب اليوم قبل الغد.