في مواسم هجرة عصافير الخريف ،، سائحون وصيف العبور للضفة المغايرة!

 


 

حسن الجزولي
18 October, 2013

 




مع أولى الانفجارات الشعبية الغاضبة سلمياً والتي شهدتها شوارع العاصمة ومدن البلاد الأخرى، ضد القرارات الاقتصادية الأخيرة، في أطار سلسلة المقاومة من أجل إسقاط نظام الانقاذ وفتح الطريق لإرساء نظام ديمقراطي تعددي، صدرت مبادرة سياسية بتوقيع "منصة مبادرة سائحون" وكان أبرز ما ورد فيها، دعوة عضويتها للتظاهر" لمناهضة القرارات الاقتصادية الظالمة ، أدانت القتل وإزهاق الأرواح وسفك الدماء وشجبت كافة أشكال العنف والتخريب، طالبت بتكوين هيئة قضائية وطنية مستقلة من رجال القضاء للتحقيق في جرائم القتل، دعت كافة القوى السياسية والفئوية وقوى المجتمع المدنى إلي تكوين جبهة عريضة للقوي الوطنية المناهضة للسياسات الاقتصادية وسفك الدماء وإزهاق الأرواح".
وهي – المبادرة - من حيث الشكل تعتبر ممتازة وبادرة تعبر عن تفاعل وطني في وجهة الانفعال بقضايا الجماهير والشارع السوداني،  نرحب بها ونتمنى لها النفاذ لأنها تصب في مجرى المطالب المشروعة لكافة الأحزاب والقوى السياسية الأخرى المعارضة لنظام الانقاذ والداعية لاسقاطه. ولكنها من حيث الجوهر ليست كافية وحدها حتى تصبح مقبولة لدى قطاعات عريضة من كيانات الشعب السوداني المعارض وللشارع العريض، حيث هناك جملة ملاحظات ستتفرع منها بالضرورة جملة "مطلوبات" لابد منها حتى تتوفر الضمانات النفسية والأخلاقية للقبول بها كمبادرة جادة وصادقة تلحق ببقية ما هو مطروح من مشاريع  سياسية، يجري الآن صياغتها لتقدم كمشروع موحد وميثاق عمل للمرحلة القادمة تتبناه كافة  قوى المعارضة السياسية.
هده الملاحظات والمطلوبات نجملها في النقاط التالية:-
1) من المعلوم أن أي كيان سياسي ينشأ ويتكون كتنظيم جديد بالساحة، لابد له أن يعبر عن نفسه  بتوضيح أهدافه الفكرية وبرنامجه السياسي، في شكل مانفيستو موجه للرأي العام.
2)  حملت المبادرة  إسم "منصة سائحون"، وهي تعبر عن مجموعة  داخل أروقة الانقاذ وتتبنى مشروعاً فكرياً أكثر راديكالية في وجهة الدولة الثيوقراطية الدينية وتبشر بأشواقها وقلوبها التي تهفو لسيرة الانقاذ في سنواتها الأولى، وبالتالي هي على خلاف فكري وعقائدي مع بقية مكونات الانقاذ  داخل حزب المؤتمر الوطني، ويعبر عن صفتها هذه تاريخ نشأتها وتربيتها العسكرية داخل ميليشيات الجبهة الاسلامية  التي خلقت لها خصيصاً "قوات الدفاع الشعبي" فيما بعد قبضتها على البلاد والعباد كتنظيم عسكري موازي للقوات المسلحة السودانية وكبديل مستقبلي، وهم يتمثلون تجارب الحرس الثوري الايراني كأحد التجارب الناجحة لتأسيس الدولة الدينية البحتة في المنطقة. وقد صقلت التجارب والخبرات هذه المجموعات المنتقاة إنتقاءاً عقائدياً، روعيت فيه الاستعدادات الفطرية والمكونات الفكرية لأفرادها ومدى تضحياتهم التي يفدون بها المشروع والبرنامج الديني لدولة الشريعة والاسلام لدى سلطة الانقاذ، وقد ساهم في صقل هذه التجارب أدغال الجنوب حيث المعارك الحربية التي أبلوا فيها وقدموا أرتالاً من شهدائهم الشجعان وهم على قناعة ويقين بأن حسناوات الحور العين في استقبالهن على أبواب الجنة ونعيمها حين انتقالهم إليها زرافات ووحداناً، رحمهم الله جميعاً.
وخلال تطور تجربة الحكم والمحطات التي مرت بها سلطة الانقاذ، وما شهدته من صراعات وتكالب على المغانم، لم يستطع الصراع داخل  أروقة الحزب الحاكم سوى أن يعبر عن نفسه رغم محاولات حصره داخل حوش الحزب، الأمر الذي أدى لمواجهات على المكشوف، عبرت عن نفسها بسيناريوهات تفجر الصراع داخل مؤتمر الحركة الاسلامية، وأدى لهزيمة مجموعة سائحون، وما أعقبها من حرب المذكرات التي حوت مطالب  لا علاقة لها بقضايا الجماهير ولم تمس عصب المشاكل والأزمات التي تسبب نظام الانقاذ في خلقها على المستوى الاقتصادي والأزمة السياسية بقضايا الحريات والتحول الديمقراطي ومصادرة الحقوق الأساسية للجماهير كحرية التنظيم والصحافة والتعبير والاحتجاج، ما جعل الجماهير تعزف عن الانفعال بتلك المذكرات كونها تعبر عن صراع داخلي في الحزب الحاكم ولا يهم الجماهير كثيراً، ثم توج الصراع بمحاولة الانقلاب العسكري التي أتهمت بها بعض القيادات العسكرية النافذة في الحزب والنظام وداخل القوات المسلحة كود إبراهيم وصلاح قوش إضافة لآخرين عسكريين ومدنيين. ثم شهدنا تداعيات  ذلك الانقلاب بتراجع النظام عن الترتيبات التي كانت جارية لمحاكمة رموزالانقلاب وذلك بالقرار المفاجئ بإطلاق سراحهم وسراح المحاكمين منهم والعفور الشامل عن الجميع. ثم رأينا  بوادر إنتظام  هذه المجموعة المتململة من عضوية حزب المؤتمر الوطني في كيان تنظيمي أطلق عليه إسم "سائحون" كمعنى مبهم لدى العامة ولا يعبر بشكل مباشر عن الارتباط بقضايا الشارع مما فاقم  وزاد من غربته. الأمر الذي كلفهم لاحقاً مشقة تفسير معانيه باعتباره مقتبساً من القرآن وتحديداً من الآية االكريمة التي تقول (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.) ولا ندري السر في اختيار أغرب المعاني في الآية الكريمة وليس الأقرب لمفاهيم عامة المسلمين، كمعبر عن قضاياهم وأهداف تنظيمهم، لماذا لم يستخدموا إسم "التائبون" مثلاً.
3) إن ما ورد في المبادرة حول " الازمة الاقتصادية الحالية كنتاج للأزمة السياسية، والدعوة لتكوين حكومة إنتقالية قومية حقيقية ممثلة لكافة قوي المجتمع السوداني، والمطالبة بمعاني المساءلة والمحاسبة، وطرح بدائل إقتصادية إصلاحية، والايمان العميق بأن الخروج من الأزمة الراهنة التى تمر به البلاد لا يمكن ان يتم إلا بمشاركة جميع القوى الوطنية فى المجتمع السودانى دون إستثناء" إنما تعبر عن فهم متقدم وإيجابي، يوطد مستقبلاً لمشاركة وطنية صادقة في البحث عن حلول لقضايا الوطن المتشابكة.
ورغم أنهم قد تراجعوا مؤخراً - بعد أن إعتقدوا بأن العاصفة قد هدأت -  فأعلنوا أنهم في واقع الأمر لا ينطلقون من أهداف إسقاط النظام، إنما إصلاحه، وبالتالي نفوا أنهم سينسقون مع أحزاب وقوى المعارضة، مما يؤكد إنتهازية وحربائية وعدم مبدئية هذا التنظيم في الأساس،  ولكنا نرى مبدئياً  أن وصولهم لأي من صيغ التنسيق والمشاركة مع  قوى المعارضة الساعية لاسقاط النظام القمعي للأخوان المتأسلمين وإقامة البديل الديمقراطي، لا بد له أن يمر عبر هذه الطرق والمحطات كشروط أساسية لقبولهم ومن أهمها:-
* إن الشارع السوداني الذي أصبح شديد الحساسية تجاه كلما يرتبط شكلاً ومضموناً بما خبره من أساليب وحيل يجيدها أهل الانقاذ مجتمعين، فإنه في حوجة لكي يطمئن قلبه من وساوس الخدع واللدغات، عليه فإن التظيم السياسي الذي يتوسل عن طريق هذه المبادرة السياسية التي طرحها بالانضمام لمسيرة نضال الشعب السوداني لاسقاط نظام الانقاذ الشمولي وبناء الدولة الديمقراطية. عليه يقع عبء:-
* التوضيح بلغة شفافة ليس بها غموض أو تلبس للمعاني، لبرنامجه السياسي وأهدافه ومنطلقاته الفكرية وموقفه من إصرار جماعات الاسلام السياسي على تطبيق الشريعة الاسلامية والتي تتحمل فشل إمكانيات تطبيقها دوماً جماهير الشعب السوداني التي تكلفها تضحيات عظيمة الشأن، كذا موقفه ورويته  للقضايا الاقتصادية، وموقفه من التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة وقضيا القوميات وحقوق أهل الهامش وكيفية وقف الحرب في مناطق النزاع العرقي. والموقف من قضايا حقوق الانسان وحرية الصحافة والحريات العامة  وحريات التعبير والمعتقد.  
* إثبات صدق توجهاته نحو ضفة الشعب بانتقاد جاد ومسؤول لكامل تجربة الانقاذ منذ تغولها على حكم ديمقراطي مهرته الجماهير بدماء شهداء إنتفاضة عزيزة أرست أسساً للتداول السلمي للسلطة، إنتقاد لممارسات حكم نظام الانقاذ الذي أهدر مقدرات البلاد الاقتصادية وفرط في وحدة الوطن بالسياسات التي أدت لانفصال جزء عزيز من بلادنا، وممارساته السياسية غير المسؤولة تجاه قطاعات من شعبنا أدت لاشتعال أكثر من بؤرة ومناطق توتر وحروب في الهامش قضت على الانسان والحيوان في تلك المناطق وأدت لاهدار المزيد من أموال الشعب، وتلك السياسات القمعية في انتهاكات حقوق الانسان التي شهدتها البلاد منذ وقائع أرتال الشهداء في 28 رمضان وبيوت الأشباح ومذابح العيلفون وكجبار وبورتسودان، ولاحقاً في دارفور وبقية بقاع البلاد حتى آخر نقطة دم سالت من شهداء انتفاضة سبتمبر المجيدة، تلك الممارسات البشعة واللا إنسانية التي أدانتها ووثقت لها المنظمات الدولية والاقليمية، وسياساته في مصادرة حقوق كافة الجماهير،  الانتقاد الواضح لسياسات نهب المال العام من الخزينة العامة دون مسائلة، وسياسات المحاباة  لعضوية الحزب الحاكم عن طريق التمكين الذي قبض خيرات البلاد في أيادي المتنفذين في الحزب وأصبح ضيعة يرتعون من  خيراتها دون رقيب أو حسيب.
* المبادرة بالكشف الفوري عن كل المعلومات التي في حوزة أعضاء التنظيم ولا بد والمتعلقة بتلك التجاوزات التي أشرنا إليها أعلاه.
* المبادرة بالاعتذار الواضح والصريح للموسسة العسكرية، حيث أن غالبية العسكريين في تنظيم "سائحون" ليسوا من أبناء القوات النظامية، وقد أتوا إليها عن طريق التمكين الذي تحدثنا عنه، وتبوأوا مناصباً قيادية وحازوا على رتب عسكرية دون وجه حق لا سيما في القوات المسلحة، فإن الواجب يقضي باعتزار علني عن كل ما قاموا به من تخريب لمؤسسة وطنية كالقوات النظامية وبينها الشرطة والقوات المسلحة، وهزوا بممارساتهم الدخيلة عن تقاليد المهنة هيبة تلك المؤسسات وخربوا أصالتها واستقلاليتها كمؤسسات وطنية تعتبر من أعز ممتلكات الشعب والوطن. كما يقع عليهم عبء الكشف عن كل المعلومات المتعلقة بالفساد والمحسوبية وأدق تفاصيل سياسات التمكين وتحويل القوات النظامية كأحد الشعب التنظيمية لحزب المؤتمر الحاكم.
بهذا " التطهر" وحده نرى أن الطريق حينها سيغدوا سالكاً لمجموعات كانت حتى الأمس القريب مشاركة كعضوية أصيلة  في غالبية ما تم على أيادي الحزب الحاكم، وحينها سيكون الانتقال سلساً من مركب الانقاذ التي تمور وتتقاذف بها أمواج الغضب الشعبي، إلى ضفة الشعب وقواه الحية، حينها فقط سيعتريهم الاحساس بأنهم قد إعتصموا بقمة جبل أمنهم من غضب الله والوطن.
تبقت ملاحظة لا بد من ذكرها، فقد أجلنا أمر نشر هذا المقال عند الأنباء التي وردت بخصوص الترتيبات التي يجريها حزب المؤتمر الوطني لمحاسبة عضويته التي وقعت على المبادرة ، خاصة التلميح بإمكانية تعرض المجموعة لانتهاكات في حقوقهم الطبيعية  في التعبير، فما كان الواعز الأخلاقي والأدبي يدفعنا لنشر المقال وقتها، وأما بعد أن نبأ إلى علمنا بأن أحداً منهم لم يمس بسوء، خاصة بالنسبة للدكتور غازي صلاح الدين والتي نفت مصادر مقربة منه واقعة " اعتقاله أو وضعه قيد الإقامة وقالت ان الرجل الآن يتحرك بحرية كاملة وانه قام امس الجمعة بزيارة إجتماعية لمنطقة نعيمة جنوبي الخرطوم وعاد ليلا إلى منزله بضاحية الخرطوم بحري". مما يؤكد أنه لم يتم "إعتقالهم" أو "التحقيق" معهم أو "ملاحقتهم" أو حتى "توجيه الرصاص لصدورهم" عندما نادوا بنفس ما نادى به "الناس" على الشوارع والطرقات.
والله من وراء القصد.    

hassan elgizuli [elgizuli@hotmail.com]
////////

 

آراء