قبل السقوط الأخير.. من سيُحرِك مَنسأة سُليمان؟!
منذ بداية العام الحالي، والذي صدر فيه كتابنا الأخير الموسوم (الطاعون/ اختراق دولة جهاز الأمن والمخابرات في السودان) تسنى لنا عقد أكثر من عشرين ندوة في عدة مدن أمريكية، وكذلك عدة مدن أوروبية، وأخيراً ثلاثة مدن كندية خلال الأسبوعين الماضيين. وغني عن القول إنه لولا الجهود التي قامت بها منظمات المجتمع المدني، والفعاليات السياسية، وثلة من الأصدقاء والزملاء والناشطين في كل هذه المدن، لما تيسر لنا هذا الأمر. وبالطبع هي جهود مُقدرة ترمي في اتجاه أهداف تعرية النظام الديكتاتوري الثيوقراطي البغيض والمُتحكم في مصائر الوطن ومواطنيه. وقد حاولنا بقدر الإمكان الوصول للشفرة التي نظُن أنها تقف وراء كثير من الطلاسم والألغاز في طبيعة هذا النظام وبقائه. وحريٌ بنا القول إن المحور الأمني لا يمثل العامود الفقري للنظام فحسب، وإنما آليته الرئيسية في توطيد أركان حكمه الغاشم طيلة السنوات التي تربع فيها على سدة السلطة. أي العقود التي انهمرت فيها الدماء أنهاراً، بصورة لم يشهد تاريخ السودان الحديث لها مثيلاً، ناهيك عن موبقات أُخر!
(2)
ولأن المحور الأمني من الأهمية بمكان في تفكيك البنية التنظيمية للنظام، كان من الضروري قبل الدخول إلى (عش الدبابير) تناول الإصدارات الأخيرة التي شكلت ثلاثية في ذات الهدف، وإن لم نخطط لها مسبقاً. أي أن المحور الأمني الذي كان القاسم المشترك الأعظم، بدأ في الثلاثية بكتاب (الخندق/ أسرار دولة الفساد والاستبداد في السودان) والذي صدر في العام 2012 واحتوى على وثائق دامغة، عرَّت الأزدواجية التي يتعامل بها جهاز الأمن حيال اتهامات المحكمة الجنائية ضد المشير البشير وزمرته، وهي اتهامات غليظة لم يسبقه عليها كائن على وجه الأرض. وكذلك فضح الكتاب فساد بعض أزلام النظام بالوثائق والبراهين، علماً بأن ذلك مورد خاضوا فيها فرادى وجماعات مثلما يخوض الغزاة الحاقدون في بلد استباحوا حرماته. علاوة على أن الكتاب كشف أسرار الجريمة النكراء والتي لا تسقط بالتقادم، وهي محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا في العام 1995. ثم تلاه كتاب (بيت العنكبوت/ أسرار الجهاز السري للحركة الإسلاموية السودانية) والذي صدر في العام 2016 حول جهاز الأمن الشعبي، أي الجهاز الخاص للحركة الإسلاموية. والذي أوردنا فيه تفاصيل جرائم سُفكت فيها دماء أبرياء. وأزحنا القناع عن هيكله التنظيمي الماسوني، بدءاً بمديره عماد الدين حسين، ومروراً بمدراء دوائره الثلاثة عشر، وانتهاءً بالمتعاملين معه من وراء ستار. أما المُؤلَف الأخير (الطاعون) فقد أكدت وثائقه المنشورة إن جهاز الأمن والمخابرات أوهن من بيت العنكبوت، رغم الميزانية الضخمة المخصصة له افتراءً!
(3)
بيد أن الحديث لم يقتصر حول الثلاثية المذكورة، فقد كانت الجهات المُنظِمة تميل دوماً إلى ضرورة تناول الأوضاع السياسية الراهنة باعتبارها عنواناً جاذباً، وهو بالطبع كذلك، لا سيما، وقد كاد أن يصبح ذلك تقليداً سودانياً محضاً، إذ إن معظم، إن لم تكن كل الندوات التي عُقدت حول الشأن السوداني في سنين القحط والجفاف، باتت تتخذ من (الأزمة الراهنة وكيفية الخروج من المأزق) عنواناً كلاسيكياً لن تجد له منافساً في موسوعة (جينيس) للأرقام القياسية. ولهذا يبدو لي أن ذلك أمر طبيعي في خضم أزمة ظلت تتناسل عاماً بعد عام، بل وفي بلدٍ لا يسمع المرء من أخباره سوى الكوارث والأزمات تحت هيمنة حكم (البدريين) الجدد. لكن ومن جانب آخر فقد أقلقني الحديث على ذاك النحو، الذي يوحي لكأنما نحن أمة ضمرت مواهبها الإبداعية السياسية عن ابتكار وسائل خلاقة تواكب الطفرة النوعية التي حدثت في عالم اليوم، علماً بأننا كُنا السباقون في مضمار ما سُمي (الربيع العربي). فنحن على سبيل المثال لا نكف عن استدعاء ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وهما بلا شك ثورتان عظيمتان دكتا معاقل ديكتاتوريتين بغيضتين، لكن الذي تغافلنا عنه إن الثورة الثالثة التي نتوخاها لن تكون كما (الحِجِل بالرِجِل) كما يقال في أمثالنا الدارجة. وذلك نظراً لطبيعة السلطة التي استهدفت آليات التغيير مبكراً وأوصدتها كما هو معلوم، علاوة على التغييرات الراديكالية التي طرأت على طبيعة المجتمع نفسه تقف شاخصة أبصارها!
(4)
في خضم هذا التباين، وحتى لا نكون كمن يصارع طواحين الهواء، زهدنا في تلك الندوات عن الحديث عن الأوضاع السياسية الراهنة إلا لُماماً. نظراً لأن الحديث عنها أصبح مكروراً، وربما مألوفاً حتى للأجنة في الأرحام. بل لعل من سخرية الأقدار إن الأبالسة أنفسهم صاروا يتقدمون الصفوف في نقد دولة الفساد والاستبداد التي صنعوها بأنفسهم. ومن باب المضحك المبكي فقد تباروا في نشر قصص وروايات الدولة السائبة، لكأنه لم تكِّل يد المعارضين عن تناولها في السنوات العجاف من قبل. وتبعاً لذلك كان لزاماً علينا تجاوز ذلك الواقع العليل، بالتركيز في القضايا المستقبلية أو المسكوت عنه في ذات الواقع المريض، فعلى سبيل المثال لدينا قضايا الدين والدولة وهي أس الأزمة، وقضية الديمقراطية وهي (خشم بيوت) كما يقال، وقضية نظم الحكم وهي موضع تباين، هل سيكون ولائياً أم إقليمياً أم اتحادياً أم فيدرالياً أم كونفدرالياً يضم جزءاً عزيزاً انفصل عنوةً، زد على ذلك قضية الثروة التي بعثرها البغاة، وقضية التعليم الذي بات يحدد مسار أي دولة في القرن الحادي والعشرين، وخاتمة المطاف قضية المحاسبة وهي (أم المعارك) وهلمجرا. وكلنا يعلم أن تلك القضايا تعد من أمهات القضايا السودانية المستقبلية، بل كلنا يعلم أيضاً أن السكوت عنها هو نتاج خشية ورهبة أو ربما عجز ولا مبالاة. ولكن الذي ينبغي علينا تأكيده إن إثارتها الآن تأتي من منطلق ديدننا في ضرورة الجهازية التي ينبغي أن تتحصن بها القوى السياسية حتى لا تباغتها رياح التغيير القادم، وتًقبل عليه بفؤاد أفرغ من جوف أم موسى. ولعل ذلك هو ما حدث بالضبط من قبل، ودفع الشعب السوداني ضريبته الباهظة في ما أسميناه (دوران الحلقة الشريرة)!
(5)
للتأكيد لم يكن كل الذي ذكرت أعلاه من أسباب هي دوافعي التي طرحتها بين يدي القراء في قضايا مستقبلية. فلرب سائل مستغرباً جرأة كاتب يجهر برغبته في عبور الجسر قبل الوصول إليه؟ ولربما زادت إجابتي تلك من حيرته إن لم يكن حضوراً في تلكم الندوات. وعليه أقول من منطلق المسؤولية الأخلاقية والصدق والشفافية وكل القيم النبيلة التي ربطت بيننا وتمتنَّت عبر مسيرة طويلة خبرنا فيها بعضنا قيماً ومُثلاً وأخلاقاً، أقول بكل ثقة تضع مصداقيتي في امتحان عصيب، أن نظام العصبة ذوي البأس الحاكم في السودان قد سقط نسبياً. أما الهيكل الذي نراه أمامنا فهو نظام مستند على منسأة سليمان في انتظار من يحركها لتهوي به أرضاً. وحتى نبيِّن الأمر أكثر، أقول وفقاً لقناعاتي الشخصية في طبيعة الأنظمة الديكتاتورية والشمولية في حياة الأمم والشعوب، هناك ما اسميه (المنظومة الثلاثية) التي تحدد تراجيديا سقوط تلك النُظم. إذ تبدأ الثلاثية بالسقوط الأخلاقي، وهو ما ظلَّ ملازماً للنظام منذ تصيَّده السلطة في العام 1989 وزاد عليه بربط ممارسته الفاسدة تلك بقيم السماء، الأمر الذي أدى لانعكاسها سلباً على قِيم الدين نفسه، الذي يدين به غالبية أهل السودان. ثمَّ أعقبه السقوط المعيشي أو ما أسميه بالسقوط (البطيني) ويسمه أهل العلم بالسقوط أو الانهيار الاقتصادي. وأياً كانت تسمياته، فقد تفاقم أمره الآن لدرجة أصبح الحديث عن الخبز ترفاً يعلو على الحرية. ومن المعروف أن لا ثورة انتفضت في التاريخ لم يكن الخبز محورها ومرتكزها. ولكن على كلٍ، ففي ما يبدو أن أمور السودان وأهله أبت إلا أن تنضج على نار هادئة، ففي غضون السقوط البطيني المشار إليه، تراكمت الشروط الذاتية والموضوعية، والتي ستؤدي حتماً لختام الثلاثية في (السقوط السياسي) الأخير المنتظر قريباً!
(6)
بما أن الشيء بالشيء يُذكر، طرح عليَّ أحد الحاضرين في إحدى الندوات سؤالاً كان فحواها حول المدى الزمني لاكتمال الشروط الذاتية والموضوعية الذي ذكرت. وقال إنه يزعُم أنها فاقت تلك الدرجة الآن؟ وفي واقع الأمر لم يكن مخطئاً في ما زعم، لا سيَّما، وأن الظروف التي يعيش تحت وطأتها الشعب السوداني في هذه الأيام، بلغت في السوء درجة تقاصرت معها حبال الصبر. إلا أن ردي البسيط له كان التأكيد على أن الشروط الذاتية والموضوعية ليست بضاعة جاهزة تُشترى من الأسواق ويتعاطاها الشعب عند اللزوم. ولكنها عبارة عن عمليات تراكمية Process وفي غضون ذلك التراكم تصنع الأحداث فصلها الأخير بصورة مليودرامية، قد تُفاجيء الحاكم والمحكوم معاً. علماً بأن مخاضها من الناحية الزمنية لن يطول كثيراً. والجدير بالذكر أيضاً أنه متى ما اكتملت تلك الظروف الذاتية والموضوعية، لن يستطع أي نظام مهما أوتي من القوة وجبروتها من الوقوف أمامها. فهي تسقط داوية كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علٍ. ولعله لن يغيب عن فطنة القارئ أن المشهد الذي نتحدث عنه تجري وقائعه التراكمية أمام أعيننا الآن، بل يعيشها الناس ضنكاً في كل شيء. وعليه يمكننا القول إن النظام الحاكم سقط أخلاقياً منذ أمد بعيد، وهيأت الأزمات المتناسلة الملعب بُغية اكتمال السيناريو الأخير في السقوط البطيني أو الاقتصادي. وبدورها هي المرحلة التي تنذر بالاقتراب من دائرة السقوط السياسي الشامل. وأقول واثقاً - بقراءة منطقية - لواقع ماثل، لست ممن يرجمون بالغيب ولا الذين يضربون الرمل، ولكنني أزعم بأنني أرى ما رأته زرقاء اليمامة بالأمس.. شجراً يسير!
(7)
تماثلاً مع قانون نيوتن الثالث (للفعل رد فعل مساوٍ له في الشدة ومعاكس له في الاتجاه) ذلك يومئذٍ لن يكون درساً من دروس الفيزياء وحدها، وإنما سيصبح درساً من حقائق التاريخ. فسقوط النظام الذي نعنيه لن يكون كلاسيكياً مثلما حدث في الثورتين المعروفتين. بل سيكون سقوطاً داوياً يوازي الحمولة التي جثم بها على صدر الشعب السوداني، وأذاقه فيها الويل والثبور وعظائم الأمور. لن يكون سقوط نظام سياسي فحسب، وإنما سقوط مشروع (التخلف الحضاري) برمته بعد أن آل إلى بوار. ونظراً إلى أن الطغمة الحاكمة لم تقم بانقلاب عسكري لتغيير السلطة السياسية وحدها، وإنما ادَّعت أنها جاءت لتغيير المواطن نفسه، وعليه فإن المشهد الذي سيستلهم الكثير من التدراجيديا الإغريقية، سيرى السودانيون فيه أقوام آخرون، غير الذين نعتهم البعض باللا مبالاة والكسل وتبلد الحس الوطني. يومئذ لن يكون سؤال البديل حاضراً، بعد أن يكتشف الناس أن الذي غاب ليس البديل وإنما منهج التيئيس والتخذيل والتخويف، الذي سدر في غيه النظام، أو إن شئت فقل أسلحة الدمار الشامل التي كان يستخدمها ضد الشعب كلما أشتد الوثاق حول رقبته، مما أطال عمره!
(8)
عوداً على بدء في العنوان موضع المقال، والمتسائل عن من ذا الذي سيحرك منسأة سليمان؟ أقول ذلك سؤال المليون كما يقولون في ظل عجز القادرين على التمام. ولكن كلنا يعلم من عِبر التاريخ ودروسه، إنه السؤال المزلزل الذي حرَّك عجلة التاريخ في حياة أمم وشعوب، خاصة تلك التي رزحت تحت نير الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية. ولهذا ستظل الإجابة مع بساطتها حاضرة دوماً. فالذي سيحرك منسأة سليمان ليست دابة الأرض، إنما الحفاة العراة الذين سيخرجون من فجاج الأرض كما النمل، يتأبطون أوجاعهم ومعاناتهم وطموحاتهم في بناء وطن خالٍ من الفساد والاستبداد والظلم. وطن تتحقق فيه المساواة والعدالة للجميع. وطن تتلاقح فيه الأفكار وإن اختلفت، وتتعايش فيه الآراء وإن وتباينت. وطن قوامه المواطنة في ظل نظام ديمقراطي كامل الدسم، تعود فيه الطيور المهاجرة لوكناتها، وتشعر فيه الطيور المقيمة بالأمان والاطمئنان. وطن تسكت فيه البنادق، وتغرد فيه الطيور وتشقشق فيه العصافير. وطنٌ عندما يسفر لنا عن وجهه الذي نعرفه ويعرفنا بعد طول اغتراب، سيقول لنا إن طواغيته قد سقطوا منذ أمدٍ بعيد. ولكننا سنعجب كيف لبثنا في هذا العذاب المهين كما لبث جن سليمان!؟
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر!!
faldaw@hotmail.com