قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة (6/7): لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل
عبدالله الفكي البشير
1 August, 2022
1 August, 2022
(البحث عن النسب الفكري والسياسي)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي
abdallaelbashir@gmail.com
تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياسة السودانية. وتزعم الورقة بأن ه ذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأنه الطود الأشم والعيلم المسجور".
ذكرنا في الحلقة الماضية، وهي السادسة من هذه السلسلة، ونحن نتناول دور لجان المقاومة في النقد العملي لسير السودان في وجهة العروبية، بأن أغلب القادة والحكام تحمسوا إلى عروبة السودان. وقدمنا ثلاثة نماذج، على سبيل المثال، لا الحصر، وهم: الشيخ علي عبدالرحمن الأمين، وخضر حمد، وبابكر كرار. ووقفنا عند الشيخ علي عبد الرحمن الذي يرى بأن: "السودان يدخل كله في نطاق القومية العربية سواء في ذلك النوبة والبجة والفور والعرب والحاميون والزنوج وسواء في ذلك المسلمون والمسيحيون والوثنيون". بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد أعلن، قائلاً: "السودان جزء لا يتجزأ من العالم العربي.. وكل من يحيد عن وجهة النظر هذه عليه أن يغادر البلد". واليوم نستكمل.
كذلك ظل خضر حمد متشبثاً بالتوجه العروبي وداعياً للقومية العربية التي امتلكت تفكيره كما أوضح ذلك في مذكراته: الحركة الوطنية السودانية: الاستقلال وما بعده (1980). فقد كتب، قائلاً: "إن فكرة القومية العربية وتعزيزها، والوحدة العربية والدعوة لها كانت تملك تفكيري". كما تحدث عن جهوده من أجل عروبة السودان، التي تمثلت في كتابة المقالات في الدوريات العربية، والمراسلات مع المسؤولين العرب، إلى جانب الزيارات التي قام بها للبلدان العربية، خلال الأربعينات من القرن الماضي، مبشراً بعروبة السودان، وداعياً العرب لدعم عروبة السودان، وعضوية السودان في جامعة الدول العربية. ويعلل السيد خضر الدوافع التي وجهتهم في وجهة الاتجاه العروبي للسودان، قائلاً: "لعل وجودنا في إفريقيا وشعورنا بأننا لا صلة تربطنا بالعرب والعروبة جعلتنا نسعى لربط أواصرنا بأواصر العرب ونحاول أن نقول لكل عربي (نحن هنا) عرب مثلكم تراثنا تراثكم وتاريخنا تاريخكم". ويذهب خضر حمد في تأكيده على عروبة السودان، إلى القول بأن العبرة في عروبته، ليست "بالوضع الجغرافي ولكنها بالتاريخ والتراث والدم". أيضاً كان بابكر كرار من المؤمنين بعروبة السودان وبالقومية العربية وبالثورة العربية الشاملة. تكشف عن ذلك كتبه، ومنها: حسم عروبة السودان (1975)، والأرضية التي تتحرك منها الثورة العربية، أو ما جاء في مقالاته الصحفية، منها، على سبيل المثال، لا الحصر: "القومية العربية.. ظهيرة الإسلام". وقد ظل بابكر كرار داعياً للقومية العربية وناقداً لطرح شعار "الانتماء الأفريقي" في السودان. وهو يرى بأنه لابد من حسم موقف السودان من القومية العربية المتحررة، والعمل على دعم استقلال السودان الوطني بتحقيق القومية العربية الواحدة المتحررة. (للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021).
بالطبع هناك بعض القادة والمفكرين والسياسيين، الذين عبروا عن رفضهم لهذا التوجه، ومن أبرز هؤلاء وأولهم الأستاذ محمود محمد طه، الذي واجه الدعوة للانتماء لجامعة الدول العربية منذ العام 1946. فقد أصدر الحزب الجمهوري، الذي ترأسه، بياناً عام 1946 مناهضاً للعضوية في الجامعة العربية، وداعياً للوعي بالذاتية السودانية، قال فيه: "نحن سودانيون، والتفكير في أننا سودانيون يجب أن يسبق أي شيء آخر". وما أن انضم السودان لجامعة الدول العربية، إلا ودعا لانسحاب السودان فوراً منها. فقد كتب في بيان أصدره في أغسطس 1948، قائلاً: "الانسحاب فوراً من الجامعة العربية وذلك لسببين أولهما أننا أمة أفريقية وثانيهما أن الجامعة العربية أصبحت تابعة لوزارة الخارجية المصرية ولم تعد تمثل دولاً مستقلة". وهي العبارة التي كانت ضمن شعارات ثوار ثورة ديسمبر المجيدة، وكانت العبارة، كما حدثني الأستاذ مأمون التلب، مكتوبة في ساحة الاعتصام أمام قيادة القوات المسلحة. وجدد الأستاذ محمود محمد طه الدعوة في أكتوبر من نفس العام، كتب، قائلاً: رأي الحزب الجمهوري فيما يتعلق بعضوية السودان في الجامعة العربية واضح ومعروف ويتلخص في أنها مؤسسة اقليمية ضيقة لا تقوم على مذهبية فكرية تجعلها أداة خلاقة تخدم مصالح أعضائها وتسير في الوقت ذاته في اتجاه سليم يخدم قضية الإنسانية في السلام العالمي. إنما هي عنصرية ضيقة هذا وتسيطر عليها دولة واحدة تسيرها وفق أهوائها وتطوعها لخدمة أغراضها. ونحن كشعب أفريقي فتى له مكانته في القارة الأفريقية، ممكن أن نخدم أنفسنا ونخدم الشعوب المجاورة بل ويمكن أن نقدم خدمات أكبر لقضايا الأحرار وقضية السلام العالمي بأوسع وأيسر مما يمكن أن نفعل ونحن داخل إطار جامعة الدول العربية.
كما دعا الأستاذ محمود محمد في العام 1964 إلى حسن إدارة التنوع الثقافي، والعمل على المحافظة عليه من أجل حيوية الأمة السودانية، فقد كتب وهو يتحدث عن مشكلة الجنوب، ومشكلة الشمال، قائلاً: "وكون السودان قطراً شاسعاً وفيه من اختلاف اللهجات والعنصريات والعادات ما فيه إنما هو من دواعي التفاؤل بمستقبل هذا البلد وليس من دواعي اليأس أو التخوف- هو من دواعي التفاؤل لأن خصائص كل عنصرية من هذه العنصريات إذا نمت وهذبت وتفتقت طاقاتها الأصلية فستزيد من حيوية الأمة السودانية في مجموعها وتخصب شخصيتها وتزيد من وزنها وزناً ومن قيمتها قيمة". وخلص في العام 1969، قائلاً: "السودان بلد أفريقي.. بل الحقيقة عمله كبلد أفريقي أعظم من عمله كبلد عربي". (للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، دار باركود للنشر، الخرطوم، 2021).
عبَّر ثوار ثورة ديسمبر المجيدة عن النقد العملي للتوجه العروبي من خلال سودنة الشعارات، وفي ذلك توق لسودنة المرتكز الحضاري للسودان. وهو ما عبر عنه القائد الدكتور جون قرنق، قائلاً: الإسلام لا يوحدنا، والمسيحية لا توحدنا، والعروبة لا توحدنا، والأفريقية لا توحدنا، ولكن السودان هو الذي يوحدنا، والسودانوية هي التي توحدنا. وهو ما عبَّر عنه الأستاذ محمود محمد طه، كما ورد آنفاً: "نحن سودانيون، والتفكير في أننا سودانيون يجب أن يسبق أي شيء آخر". حملت شعارات الثورة بعثاً للذاتية السودانية، ويمكن تقديم نماذج منها، من خلال المحور أدناه.
1. سودنة المرتكز الحضاري والمسار السياسي السودان
عبَّرت ثورة ديسمبر المجيدة، من خلال شعاراتها، عن أشواق السودنة لمختلف مناحي الحياة. وعلى الرغم من أن الثورة السودانية اندلعت في وقت شهدت فيه بعض دول المحيط العربي، مثل مصر، وسوريا، وليبيا، واليمن، ثورات شعبية، وتبادل فيما بينها للشعارات، إلا أن شعارات الثورة السودانية وأهازيجها كانت سودانية في مفرداتها وفي أشواقها. من تلك الشعارات، على سبيل المثال، لا الحصر "حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب"، و "الطلقة ما بتكتل بكتل سكات الزول"، و"البمبان بخور تيمان". كذلك كانت الشعارات ذات طبيعة ابداعية يتم إنتاجها من خلال الحراك اليومي. أحياناً تكون رداً فورياً على أحاديث قادة النظام. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، تحدث الرئيس السابق عمر البشير في إحدى كلماته أيام الثورة عما تعرض له من كسر لإحدى أسنانه، فما لبث أن فرغ من حديثه حتى كان الشعار في الميدان "تكسر سنك تكسر ضهرك ما عايزنك ما عايزنك". وظهر شعار آخر يتكىء على كسر السن، وهو يعبر عن نبذ العنصرية والرفض للحرب وللممارسات غير الأخلاقية التي ظل يمارسها النظام في جبال النوبة، يقول الشعار "تكسر سنة تقلب هوبة كل الشعب جبال النوبة". كذلك عبرت الشعارات عن اتحاد أشواق الثوار في المدن والقرى مع أشواق ثوار الهامش والثورات المسلحة، فعلى سبيل المثال، لا الحصر: "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور". وحملت الشعارات أشواقاً إلى وحدة السودان بين الشمال والجنوب، والتعبير عن مسؤولية انفصال جنوب السودان، من تلك الشعارات "يا عنصري وسفاح وين الجنوب وين راح".
هذه الشعارات السودانية الإنسانية، وهذا التوق للحرية والوحدة والسلام والديمقراطية ونبذ العنصرية، والسعي العملي والصادق ليس لقبول الآخر، وإنما الخروج من الذات لملاقاة الآخر، كما شهدنا ذلك في ساحات الاعتصام والحراك، تقودنا إلى التفكير الصحيح الذي يسوقنا إلى التفسير السليم، وهو أن لجان المقاومة، ليست تنظيم أو جسم سياسي أو لافتة، وإنما هي تعبير عن لحظة ميلاد المواطن الجديد الأصيل، نواة سودان المستقبل.
2. ملامح المواطن الجديد الأصيل الذي هو نواة سودان المستقبل (المواطن هو الأصل)
أمام ما تقوم به لجان المقاومة قادة ثورة ديسمبر المجيدة، من تضحية في سبيل الوطن، وبناء جماعي للوطن، ووعي بالذاتية السودانية، وتوق للوحدة وبناء الأمة السودانية، وإيمان بوحدة المصير المشترك، عملاً لا قولاً، وفعلاً لا مجازاً، يجب علينا أن ندرك بأننا، أمام نموذج المواطن السوداني الجديد الأصيل، نموذج المثقف الجديد الأصيل، الذي لم يسبقه على حب السودان والعمل من أجله، والالتزام تجاهه، سوى الطلائع من أصحاب المبادرات الخلاقة، والطلائع من الوطنيين الشرفاء. وعلينا أن ندرك أيضاً بإن لجان المقاومة، وهي تمثل لحظة الميلاد للمواطن الجديد الأصيل، لا يمكن سجنها في التفسير السياسي القاصر، الذي يبرر التعاطي معها باعتبارها تنظيم أو جسم سياسي أو لافتة سياسية، وإنما هي حالة يقظة لشعب عملاق، وهي لحظة تجلي لبعث السودان القديم التليد، وهي استدعاء لطاقة السودان الضخمة، وهي تجسيد لحلم الشرفاء من الذين فدوا الشعب السوداني وأعدموا وسجنوا في سبيل الوطن. ولهذا فنحن أمام المواطن السوداني الجديد الأصيل، الذي جاء حاملاً لملامح كل الجماعات والثقافات، ومتشرباً لمحطات نضال الشرفاء في مراحل تاريخية مختلفة، ومتدثراً بثوب تاريخ السودان العامر والمتنوع والتليد، منذ عهد كوش، ومرصعاً بلحظات الانتصار والمبادرات الخلاقة.
نلتقي مع الحلقة السابعة.
ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي
abdallaelbashir@gmail.com
تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياسة السودانية. وتزعم الورقة بأن ه ذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأنه الطود الأشم والعيلم المسجور".
ذكرنا في الحلقة الماضية، وهي السادسة من هذه السلسلة، ونحن نتناول دور لجان المقاومة في النقد العملي لسير السودان في وجهة العروبية، بأن أغلب القادة والحكام تحمسوا إلى عروبة السودان. وقدمنا ثلاثة نماذج، على سبيل المثال، لا الحصر، وهم: الشيخ علي عبدالرحمن الأمين، وخضر حمد، وبابكر كرار. ووقفنا عند الشيخ علي عبد الرحمن الذي يرى بأن: "السودان يدخل كله في نطاق القومية العربية سواء في ذلك النوبة والبجة والفور والعرب والحاميون والزنوج وسواء في ذلك المسلمون والمسيحيون والوثنيون". بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد أعلن، قائلاً: "السودان جزء لا يتجزأ من العالم العربي.. وكل من يحيد عن وجهة النظر هذه عليه أن يغادر البلد". واليوم نستكمل.
كذلك ظل خضر حمد متشبثاً بالتوجه العروبي وداعياً للقومية العربية التي امتلكت تفكيره كما أوضح ذلك في مذكراته: الحركة الوطنية السودانية: الاستقلال وما بعده (1980). فقد كتب، قائلاً: "إن فكرة القومية العربية وتعزيزها، والوحدة العربية والدعوة لها كانت تملك تفكيري". كما تحدث عن جهوده من أجل عروبة السودان، التي تمثلت في كتابة المقالات في الدوريات العربية، والمراسلات مع المسؤولين العرب، إلى جانب الزيارات التي قام بها للبلدان العربية، خلال الأربعينات من القرن الماضي، مبشراً بعروبة السودان، وداعياً العرب لدعم عروبة السودان، وعضوية السودان في جامعة الدول العربية. ويعلل السيد خضر الدوافع التي وجهتهم في وجهة الاتجاه العروبي للسودان، قائلاً: "لعل وجودنا في إفريقيا وشعورنا بأننا لا صلة تربطنا بالعرب والعروبة جعلتنا نسعى لربط أواصرنا بأواصر العرب ونحاول أن نقول لكل عربي (نحن هنا) عرب مثلكم تراثنا تراثكم وتاريخنا تاريخكم". ويذهب خضر حمد في تأكيده على عروبة السودان، إلى القول بأن العبرة في عروبته، ليست "بالوضع الجغرافي ولكنها بالتاريخ والتراث والدم". أيضاً كان بابكر كرار من المؤمنين بعروبة السودان وبالقومية العربية وبالثورة العربية الشاملة. تكشف عن ذلك كتبه، ومنها: حسم عروبة السودان (1975)، والأرضية التي تتحرك منها الثورة العربية، أو ما جاء في مقالاته الصحفية، منها، على سبيل المثال، لا الحصر: "القومية العربية.. ظهيرة الإسلام". وقد ظل بابكر كرار داعياً للقومية العربية وناقداً لطرح شعار "الانتماء الأفريقي" في السودان. وهو يرى بأنه لابد من حسم موقف السودان من القومية العربية المتحررة، والعمل على دعم استقلال السودان الوطني بتحقيق القومية العربية الواحدة المتحررة. (للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021).
بالطبع هناك بعض القادة والمفكرين والسياسيين، الذين عبروا عن رفضهم لهذا التوجه، ومن أبرز هؤلاء وأولهم الأستاذ محمود محمد طه، الذي واجه الدعوة للانتماء لجامعة الدول العربية منذ العام 1946. فقد أصدر الحزب الجمهوري، الذي ترأسه، بياناً عام 1946 مناهضاً للعضوية في الجامعة العربية، وداعياً للوعي بالذاتية السودانية، قال فيه: "نحن سودانيون، والتفكير في أننا سودانيون يجب أن يسبق أي شيء آخر". وما أن انضم السودان لجامعة الدول العربية، إلا ودعا لانسحاب السودان فوراً منها. فقد كتب في بيان أصدره في أغسطس 1948، قائلاً: "الانسحاب فوراً من الجامعة العربية وذلك لسببين أولهما أننا أمة أفريقية وثانيهما أن الجامعة العربية أصبحت تابعة لوزارة الخارجية المصرية ولم تعد تمثل دولاً مستقلة". وهي العبارة التي كانت ضمن شعارات ثوار ثورة ديسمبر المجيدة، وكانت العبارة، كما حدثني الأستاذ مأمون التلب، مكتوبة في ساحة الاعتصام أمام قيادة القوات المسلحة. وجدد الأستاذ محمود محمد طه الدعوة في أكتوبر من نفس العام، كتب، قائلاً: رأي الحزب الجمهوري فيما يتعلق بعضوية السودان في الجامعة العربية واضح ومعروف ويتلخص في أنها مؤسسة اقليمية ضيقة لا تقوم على مذهبية فكرية تجعلها أداة خلاقة تخدم مصالح أعضائها وتسير في الوقت ذاته في اتجاه سليم يخدم قضية الإنسانية في السلام العالمي. إنما هي عنصرية ضيقة هذا وتسيطر عليها دولة واحدة تسيرها وفق أهوائها وتطوعها لخدمة أغراضها. ونحن كشعب أفريقي فتى له مكانته في القارة الأفريقية، ممكن أن نخدم أنفسنا ونخدم الشعوب المجاورة بل ويمكن أن نقدم خدمات أكبر لقضايا الأحرار وقضية السلام العالمي بأوسع وأيسر مما يمكن أن نفعل ونحن داخل إطار جامعة الدول العربية.
كما دعا الأستاذ محمود محمد في العام 1964 إلى حسن إدارة التنوع الثقافي، والعمل على المحافظة عليه من أجل حيوية الأمة السودانية، فقد كتب وهو يتحدث عن مشكلة الجنوب، ومشكلة الشمال، قائلاً: "وكون السودان قطراً شاسعاً وفيه من اختلاف اللهجات والعنصريات والعادات ما فيه إنما هو من دواعي التفاؤل بمستقبل هذا البلد وليس من دواعي اليأس أو التخوف- هو من دواعي التفاؤل لأن خصائص كل عنصرية من هذه العنصريات إذا نمت وهذبت وتفتقت طاقاتها الأصلية فستزيد من حيوية الأمة السودانية في مجموعها وتخصب شخصيتها وتزيد من وزنها وزناً ومن قيمتها قيمة". وخلص في العام 1969، قائلاً: "السودان بلد أفريقي.. بل الحقيقة عمله كبلد أفريقي أعظم من عمله كبلد عربي". (للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، دار باركود للنشر، الخرطوم، 2021).
عبَّر ثوار ثورة ديسمبر المجيدة عن النقد العملي للتوجه العروبي من خلال سودنة الشعارات، وفي ذلك توق لسودنة المرتكز الحضاري للسودان. وهو ما عبر عنه القائد الدكتور جون قرنق، قائلاً: الإسلام لا يوحدنا، والمسيحية لا توحدنا، والعروبة لا توحدنا، والأفريقية لا توحدنا، ولكن السودان هو الذي يوحدنا، والسودانوية هي التي توحدنا. وهو ما عبَّر عنه الأستاذ محمود محمد طه، كما ورد آنفاً: "نحن سودانيون، والتفكير في أننا سودانيون يجب أن يسبق أي شيء آخر". حملت شعارات الثورة بعثاً للذاتية السودانية، ويمكن تقديم نماذج منها، من خلال المحور أدناه.
1. سودنة المرتكز الحضاري والمسار السياسي السودان
عبَّرت ثورة ديسمبر المجيدة، من خلال شعاراتها، عن أشواق السودنة لمختلف مناحي الحياة. وعلى الرغم من أن الثورة السودانية اندلعت في وقت شهدت فيه بعض دول المحيط العربي، مثل مصر، وسوريا، وليبيا، واليمن، ثورات شعبية، وتبادل فيما بينها للشعارات، إلا أن شعارات الثورة السودانية وأهازيجها كانت سودانية في مفرداتها وفي أشواقها. من تلك الشعارات، على سبيل المثال، لا الحصر "حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب"، و "الطلقة ما بتكتل بكتل سكات الزول"، و"البمبان بخور تيمان". كذلك كانت الشعارات ذات طبيعة ابداعية يتم إنتاجها من خلال الحراك اليومي. أحياناً تكون رداً فورياً على أحاديث قادة النظام. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، تحدث الرئيس السابق عمر البشير في إحدى كلماته أيام الثورة عما تعرض له من كسر لإحدى أسنانه، فما لبث أن فرغ من حديثه حتى كان الشعار في الميدان "تكسر سنك تكسر ضهرك ما عايزنك ما عايزنك". وظهر شعار آخر يتكىء على كسر السن، وهو يعبر عن نبذ العنصرية والرفض للحرب وللممارسات غير الأخلاقية التي ظل يمارسها النظام في جبال النوبة، يقول الشعار "تكسر سنة تقلب هوبة كل الشعب جبال النوبة". كذلك عبرت الشعارات عن اتحاد أشواق الثوار في المدن والقرى مع أشواق ثوار الهامش والثورات المسلحة، فعلى سبيل المثال، لا الحصر: "يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور". وحملت الشعارات أشواقاً إلى وحدة السودان بين الشمال والجنوب، والتعبير عن مسؤولية انفصال جنوب السودان، من تلك الشعارات "يا عنصري وسفاح وين الجنوب وين راح".
هذه الشعارات السودانية الإنسانية، وهذا التوق للحرية والوحدة والسلام والديمقراطية ونبذ العنصرية، والسعي العملي والصادق ليس لقبول الآخر، وإنما الخروج من الذات لملاقاة الآخر، كما شهدنا ذلك في ساحات الاعتصام والحراك، تقودنا إلى التفكير الصحيح الذي يسوقنا إلى التفسير السليم، وهو أن لجان المقاومة، ليست تنظيم أو جسم سياسي أو لافتة، وإنما هي تعبير عن لحظة ميلاد المواطن الجديد الأصيل، نواة سودان المستقبل.
2. ملامح المواطن الجديد الأصيل الذي هو نواة سودان المستقبل (المواطن هو الأصل)
أمام ما تقوم به لجان المقاومة قادة ثورة ديسمبر المجيدة، من تضحية في سبيل الوطن، وبناء جماعي للوطن، ووعي بالذاتية السودانية، وتوق للوحدة وبناء الأمة السودانية، وإيمان بوحدة المصير المشترك، عملاً لا قولاً، وفعلاً لا مجازاً، يجب علينا أن ندرك بأننا، أمام نموذج المواطن السوداني الجديد الأصيل، نموذج المثقف الجديد الأصيل، الذي لم يسبقه على حب السودان والعمل من أجله، والالتزام تجاهه، سوى الطلائع من أصحاب المبادرات الخلاقة، والطلائع من الوطنيين الشرفاء. وعلينا أن ندرك أيضاً بإن لجان المقاومة، وهي تمثل لحظة الميلاد للمواطن الجديد الأصيل، لا يمكن سجنها في التفسير السياسي القاصر، الذي يبرر التعاطي معها باعتبارها تنظيم أو جسم سياسي أو لافتة سياسية، وإنما هي حالة يقظة لشعب عملاق، وهي لحظة تجلي لبعث السودان القديم التليد، وهي استدعاء لطاقة السودان الضخمة، وهي تجسيد لحلم الشرفاء من الذين فدوا الشعب السوداني وأعدموا وسجنوا في سبيل الوطن. ولهذا فنحن أمام المواطن السوداني الجديد الأصيل، الذي جاء حاملاً لملامح كل الجماعات والثقافات، ومتشرباً لمحطات نضال الشرفاء في مراحل تاريخية مختلفة، ومتدثراً بثوب تاريخ السودان العامر والمتنوع والتليد، منذ عهد كوش، ومرصعاً بلحظات الانتصار والمبادرات الخلاقة.
نلتقي مع الحلقة السابعة.
ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk