قرارات حاضرة وحيثيات غائبة
22 October, 2009
عادل الباز
هل تذكرون قصة سوق كركر؟ شهد اختلف المتعافي والكودة معتمد الخرطوم حول أحقية شركة ما، بالظفر بعطاء هذا السوق الذي يقع بالقرب من الموقف الجديد، في أطراف حي جاكسون. الحادثة ببساطة أن معتمد الخرطوم خرج للإعلام كاشفا عن خلافه مع الوالي ومشهرا حيثيات قراره، مدافعا عن صحة ما اتخذه من قرارات. بعده أطلق الوالي تصريحات أوضح فيها حيثيات قراره الخاص بمراجعة العقود، وروى قصتها للرأي العام بصراحة يُحسد عليها. هذا الحادثة هي الأولى من نوعها من حيث الشفافية، والتي لاتتمتع بها قرارات الدولة عموما. الحادثة الأولى التي تكشف فيها الدولة ممثلة في ولاية الخرطوم للناس حيثيات قرار عزل معتمد العاصمة.
الحكومة تعتقد أن حيثيات قراراتها أسرار لدنية وخطيرة تهدد الأمن القومي وليس هي كذلك. فقرارات كثيرة تصدر دون أن يدلي المسئولون بأي حيثيات تبرر صدورها، وهناك حيثيات كثيرة تستوجب أن تصدر لها قرارات فلاتصدر.
حين صدر قرار إعفاء مدير الجهاز السابق الفريق صلاح قوش اتصلت بأحد المسئولين في الحكومة بغرض معرفة حيثيات القرار ولكنه قال إن تغيير المواقع شيء طبيعي!! هكذا بدون حيثيات. قلت له إن المدينة ستمتلئ غدا بروايات شتّى، فمن الأفضل وضع الرواية الحكومية مع الروايات الأخرى، ذلك أفضل من ترك الجمهور نهبا للشائعات. ولكنه لم يستمع لنصائحي فأمست المدينة وأصبحت ولأيام عديدة تؤلّف الحكايات والروايات حول أسباب الإعفاء ومآلاته. الغريب أن الذي قدم حيثيات معقولة بعد أيام هو صلاح قوش نفسه، حين شرح الكيفية التي ستنهض بها مستشارية للأمن القومي سيكون هو مسئولا عنها. مهما يكن من أمر الرواية ولكنها أعطت حيثيات للقرار.
كثير من القرارات السياسية والاقتصادية تصدر هكذا «قطع أخضر» ولا أعرف ماذا يضير مسئولي الحكومة، أو حزبها الحاكم، اذا افادوا الناس بأسباب وحيثيات ماتصدر من قرارات.
قبل فترة تم إعفاء مدير الهيئة القومية للاتصالات دون حيثيات، فامتلأت المجالس بقصص من بنات أفكارها، وبما أنّي متابع لهذا الملف منذ أمد بعيد، كنت أعرف أن ماجرى داخل الهيئة كان يستوجب هذا التغيير، ولذا وجدت أن هذا القرار منطقي وله من الحيثيات مايكفي، فاستغربت أن الحكومة لم تقل كلمة واحدة في شان إعفاء مدير واحدة من أخطر الهيئات التي تتعامل مع مستثمرين من العيار الثقيل يدرسون وينقبون وراء كل قرار. شخصيا تلقيت عشرات الاتصالات من الشركات العاملة، وآخرين مهتمين، حول دواعي وأسباب القرار، وما تأثيراته المحتملة على الرخصة التي يجري التباحث حولها!!.
تابعتم بالأمس ماجرى في إعفاء مدير الكهرباء، وبما أن الحيثيات غائبة جرى تلخيص الأمر (شكلة بين مكاوي وأسامة عبد الله)، ولكن لم يقل لنا أحد ماهي خلفيات هذا الصراع، ولذا وُزعت حكايات شديدة الغرابة، وراجت شائعات شتّى فضاعت الحقيقة.
بالطبع الرئاسة غير مكلفة بإصدار حيثيات لأي قرار تتخذه، ولكن الحزب الذكي الذي تهمه جماهيره وجماهير الشعب عامة، لابد أن يسارع بواسطة إعلامه لوضع الحقائق بالطريقة التي لاثؤثر على صورته أمام الرأي العام، ولاتتركه نهبا للشائعات. فالرواية من الحزب الحاكم ضرورية، حتى وإن لم يصدقها كل الناس، فستجد من يصدقها أو هي على الاقل تعطي المؤيدين للحكومة بعضا من الحقيقة، إذا تعذر أن تطرحها كلها. مثلا يكفي خروج وزير للصحفيين برواية حول أسباب الإعفاء، وليس في الإعفاء من المناصب العامة مايسيء لشخص، فهذه كالموت كأس دائر. يخيل لي أن الحكومة لاتفعل ذلك لأنها ببساطة تستخف بالرأي العام، ولايهمها أن يعرف الحقائق أو لايعرف «في ستين داهية».
الآن ونحن على أبواب انتخابات (الله يعلم)، ليس من الحكمة الاستخفاف بالرأي العام، فتلك ممارسة خطرة ومضرة. ففي مناخات الديمقراطية لايمكن تجاهل الحقائق وإخفاء حيثيات القرارات، لأن هناك رأي عام منتبه، وبرلمان مراقب، وصحافة حرة تتساءل، فالممارسات التي ولدتها الشمولية ستوأد في العهد الديمقراطي. ولذا من الأفضل أن يتعلم الحزب الحاكم وهو مقبل على الانتخابات وفرصته واسعة للفوز بنسبة مقدرة فيها, عليه أن يتعلم كيفية صياغة حيثيات قراراته، وطرائق عرضها منذ الآن، لأنه عما قريب لن يستطيع أن يفعل غير هذا.