قصة أول مفصول للصالح العام بعد الإستقلال …. بقلم : محمود عثمان رزق
27 July, 2009
1/2
إن كثيرا من تاريخ هذا البلد فى صدور الرجال لم يكتب بعد، وذلك لأننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب قدرا للكتابة. ومن التاريخ غير المكتوب تاريخ سياسة فصل الموظفين المتسيسين أو المناصرين لأيدلوجيات وأحزاب بعينها بحجة الصالح العام. فنحن فى السودان حقيقة نفتقد لدراسة تجيب على الأسئلة الآتية:
- متى بدأت فكرة الإحالة للصالح العام؟
- من هم ضحايا هذه الفكرة وكم عددهم ومن هو أولهم؟
- من أى الأيدلوجيات تغذت وتتغذى هذا الفكرة؟
- ما أثر هذه السياسة على أداء الدولة وتقدمها؟
- ما هو أثرها النفسى والإجتماعى السلبى أو الإيجابى - إن وجد - على المجتمع؟
- ما هى إنعكاسات هذه الممارسة السياسية على الأحزاب والحكومات التى
مارستها؟
- هل هناك دراسة دستورية أو قانونية تناقش هذه المسألة من الزاوية الدستورية
أو القانونية؟
- هل هناك دراسة تناقش هذه المسألة من الوجهة الشرعية الإسلامية؟
ولعلى فى مقالى هذا أجيب على بعض الأسئلة أعلاه وأترك الأمر لباحث مجد ذكى يتلقف الموضوع فيكتب لنا بحثا شاملا كاملا محايدا يجيب فيه على ما طرحناه من أسئلة ولا يألو جهدا فى الإضافة عليها.
إن صاحبنا بطل القصة هو سليل بيت وعائلة عرفت بالنضال والمواقف الوطنية النبيلة. فقد كان والده السكرتير المالى للكادر السرى لجمعية اللواء الأبيض بقيادة البطل على عبد اللطيف الذى قال فيه الشاعر عبد النبى عبد القادر مرسال:
بالسيف أنشأت فينا دولة الأدب *** يا صارم العزم يا ابن الصارم الأرب
واخترت إذ سرت للآمال تطلبها *** أن تركب الصعب شأن الفارس اللجب
أبصرت أهليك بين الناس قد شربوا *** من منهل الذل فى الدنيا بلا سبب
واستوطن البؤس فى أوكارهم زمنا *** ما كنت فى ليلة تلقى سوى النوب
والناس كالشاة – يا لله – ما برحت *** أعناقهم بين قصّاب ومغتصب
ويقول عنه أيضا:
ما مات من بات يحيى ذكره العلم *** لمّا به سار من (بفتح الميم) من (بكسرها) بعده قدموا
ما مات من أشعل المصباح فامتلأت *** بالنور هذى الربا ، وانجابت الظلم
ما مات من قال إنّ النيل وحدته *** بين الشقيقين عهد ليس ينفصم
إن البيت الأخير وما فيه من مبدأ وجهر به كان كافيا لجر المتاعب لصاحبنا وإحالته للصالح العام . ولكنّ الرجل شبل من ذاك الأسد ، فوالده أحمد أفندى الشيخ الشفيع الذى كان سكرتيرا للكادر السرى لجمعية اللواء الأبيض كان يؤمن بنفس المبدأ ويناضل من أجله. وأحمد أفندى الشيخ الشفيع ولد فى قرية أم سنط ريفى مدنى فى عام 1890 م، وفى أم سنط نفسها جمعت الأقدار بين بنت عمه فاطمة الشيخ الشفيع وجدنا حسن رزق الخبير الزراعى المتخصص فى زراعة القطن والمنحدر من أصول مصرية صعيدية. وقد أنجب منها جدنا ثلاث بنات وولد والولد هو والدنا الحاج/ عثمان حسن رزق، الذى توفى والده وهو ابن تسع سنوات ليرعاه خاله أحمد أفندى الشيخ. ولم أرى فى حياتى رجلا يحب خاله كما يحب والدى خاله أحمد الشيخ !! وكان إذا دخل عليه خلع "البرنيطة" تقديرا واحتراما لخاله! وكثيرا ما حدثنا عن صلاحه وعبادته وكراماته ولا عجب فى ذلك فقد كان الرجل قطبا تيجانيا. وكذلك حدثنا عن عطفه وحنانه فأحببناه كما أحبه، ولعل ذلك الحب من باب " وأحبها وتحبنى ويحب ناقتها بعيرى"!! وأذكر أننى كنت طفالا صغيرا يوم وفاة جدى أحمد الشيخ عندما رجعت للبيت ظهرا من المدرسة لأجد خبر وفاته، فشعرت حينها بشئ يقف فى حلقى فشكوت لأمى- رحمة الله عليها - فقالت لى وهى تبكى: "يا ولدى دى العبرة" ولم أكن حينها أعرف أن للموت عبرة (بفتح العين) وعبرة (بكسرها).
وأحمد أفندى الشيخ له خمس بنات وأربعة عظماء من الرجال. فمن هؤلاء الأربعة من تفوق مهنيا وأكاديميا وهو البروفسير الهادى أحمد الشيخ طبيب العيون المشهور، ومنهم من أجبر الإستعمار على تغيير سياسته التعليمية ليصبح أول طالب سودانى مسلم يخترق مدرسة الكمبونى ويتخرج فيها وهو السيّد مختار أحمد الشيخ الذى كان يتحدث أكثر من لغتين وكان يعمل بالخطوط الجوية السودانية، ومنهم من كان زعيما عماليا ووزيرا وقائدا حزبيا إلا أنّ أيدلوجيته الماركسية أسلمته للمشانق فأعدمه نميرى عام 1971 وهو ابن 47 عاما، وهو الشفيع أحمد الشيخ. ومنهم بطل قصتنا المرحوم منصور أحمد الشيخ الذى كان أول مواطن سودانى تحيله حكومة وطنية للصالح العام بسبب مواقفه السياسية.
ولد منصور بالتميراب غرب الدامر فى عام 1921 والتميراب أرض جعليين وهو من صلبهم بل من أكرم بيوتهم. فأمه الحاجة/ آمنة بنت محمد ود بخيت سليل المك بشير ود عقيد مك جعليى الزيداب. أما من جهة أبيه فهو صاردى والصواردة قبيلة مشهورة منتشرة فى طول البلاد وعرضها، فهم فى حلفا، و توتى ، والحلفاية، وقرّى، وشندى، والجوير ، وبلدة ساردية (صاردية) شمال شرق شندى، وفى الجزيرة فى بلدة الجعافرة وغيرها من المدن والقرى السودانية. وإلى هذه القبيلة ينتمى الفنان عثمان الشفيع، وآل المرضى وآل الشيخ الصديق عمر الأزهرى بتوتى.
درس منصور الوسطى بشندى وسافر بعدها لمصر ليكمل دراسته بمدرسة حلوان الثانوية ومن ثمّ يلتحق بجامعة القاهرة ويتخرج فيها حاملا شهادة البكلاريوس فى الإقتصاد والعلوم السياسية. إلا أن منصور لم ينتظر حتى يتخرج ويقوى عوده وينضج فكره ليبدأ النضال، فقد بدأ أول نضاله السياسى بصدام هزّ البلاد طولا وعرضا وتناقلته وكالات الأنباء العالمية، وكان ذلك فى مدرسة شندى الريفية المتوسطة عام 1946. ففى تلك المدرسة كان المفتش الإنجليزى يحتفل بعيد ميلاد الملك جورج الخامس فى مهرجان ضخم والناس من حوله يهتفون بحياة الملك قائلين : "عاش الملك جورج ملك مصر والسودان" تقية لا إيمانا! وكان منصور من بين الحضور وقد كان عائدا لتوّه من مصر لقضاء إجازة صيفية قصيرة، فلما سمع الهتاف أخذته حمية الجعليين وغلى الدم فى عروقه وصار الجبل فى نظره فأرا فهتف بصوت عال منفعل : "عاش الملك فارق ملك مصر والسودان". وهنا إرتبكت الجموع وسادت الفوضى وطار عقل المفتش الإنجليزى وعلم فى حينها أن ّ هذا الهتاف لن يضيع سدى، وأنّه سيجر له كثيرا من المتعاب، وأنّ شرارة ثورة لا محالة انطلقت.
وقام المفتش غاضبا مزمجرا يتعقب منصور ويطارده إلا أنّ العقلاء من أهل البلد نصحوه بعدم التعرض للفتى بسجن أو عقاب لأنّ الأمر قد يتطور لمواجهة شعبية قد تعم كل البلد. فقام المفتش وهو مكره بعقد تسوية مع والده لإلجامه مقابل السماح له بالعودة لإكمال دراسته فى مصر، وبالفعل سكت منصور حتى انقضت إجازته فرجع لإكمال دراسته وهو منصور مسرور!
وعندما تخرج منصور عيّن فور تخرجه نائبا لمدير إذاعة ركن السودان بالقاهرة، وهناك لعب دورا كبيرا فى تسجيل وتوثيق كثير من الأغانى السودانية وخاصة أغانى صديقه الفنان المبدع عثمان الشفيع. كما لعب منصور دورا كبيرا فى تقريب الشعبين المصرى والسودانى لبعضهما بعضا، مما جعل الرئيس اللواء محمد نجيب قائد ثورة 23 يوليو يصدر قرارا بموجبه تم إصدار طابع بريدى جديد يحمل صورة منصور أحمد الشيخ كرمز لوحدة البلدين. ولقد خرجت مجلة الإثنين المصرية الصادرة فى يوم 22 يونيو 1953 بعنوان على غلافها يقول: "وجه جديد على طابع البريد"، وفى الغلاف نفسه صورة منصور أحمد الشيخ كما جاءت فى الطابع الجديد.
وبعد إعلان الإستقلال رجع منصور للسودان فعيّنه الزعيم الأزهرى فى وزارة الخارجية لإدارة قسم الإعلام الخارجى. واستمر منصور فى منصبه يعمل بجد وإخلاص حتى أصبح عبد الله خليل بك رئيسا للوزراء وهو من قادة حزب الأمة الذين يناصبون مصر العداء آنذاك. وبالفعل قد وصل العداء بين عبد الله خليل وعبد الناصر لدرجة جعلت الأول يأمر الجيش السودانى بالإستعداد لخوض معركة شرسة من أجل حلايب، وكان قد جنّد الإعلام السودانى أيضا لهذا الهدف إلا أنّ منصور المؤمن بوحدة وادى النيل وأن بين الشقيقين عهد ليس ينفصم، أبطل الخطة بنشره تصريحا للرئيس جمال عبد الناصر ينفى فيه إستعداد بلاده لخوض حرب مع السودان !!. وهنا شعر عبد الله خليل بخطورة منصور فى هذا المنصب، فأصدر أول قرار فى تاريخ البلاد يحال بموجبه موظف للصالح العام بسبب موقفه السياسى، وهكذا يكون عبد الله خليل هو أول من سنّ هذه السنة السيئة فى هذا البلد.
وبعد "مكابسة" فى السوق لفترة قصيرة من الزمان عيّن منصور مديرا لشركة مواصلات الجزيرة. ثم كلف فى عام 1973 بأمر من وزير المالية آنذاك السيّد إبراهيم منعم منصور بإنشاء أول بنك للإدخار فى السودان، ولأنّ منصور كان حريصا ألا يعمل موظفا للحكومة فقد حرص منذ البداية على إبرام عقد خاص بموجبه يكون مديرا متعاقدا للبنك الجديد ويجدد العقد بإتفاق الطرفين. و ظل منصور بموجب هذا العقد يدير البنك لمدة 18 عاما لم يأخذ فيها إجازة قط ولم يأخذ بدلا عن إجازته!!! وإستمر الحال هكذا حتى جاءت الإنقاذ لتذيقه من نفس الكأس الذى أذاقه منها عبد الله خليل من قبل نصف قرن من الزمان!
وليت الإنقاذ عرفت مقام الرجل ففصلته بصورة تليق بمقامه، فقد تمت إحالته للمعاش وفى الحقيقة للصالح العام بخطاب من محافظ بنك السودان السيّد الشيخ سيد أحمد يتكون من عدة أسطر أرسلت له عبر جهاز "الريديو"! وبعد أن إستلم موظف " الريديو" الخطاب الشفهى قام بكتابته بخط يده ومن ثمّ قام بتسليمه لمديره منصور !! أى أنّ الورقة التى كتب عليها الخطاب من ورق بنك الإدخار نفسه و ليست من الورق الرسمى الذى يحمل إسم وعنوان وختم بنك السودان!! كما أنّه لا يحمل توقيع المحافظ!! ولم يكلف المحافظ الشاب نفسه رفع السماعة والإتصال بعمه منصور وشكره على خدماته فضلا عن الذهاب له فى مدنى بنفسه لتكريمه !!
تألم منصور كثيرا لهذا الأسلوب المذل وحزن حزنا شديدا ليس على المنصب ولكن على الأسلوب الذى أبعد به عن المنصب وعلى بلد لا يعرف قيمة الرجال، ولا يحفظ لهم جميلا، ولا يقيم لهم وزنا. ولأنّ منصور خلق مناضلا قام بكتابة خطاب ساخر لوزير المالية يرفض فيه تلك المؤامرة التى أحالته للصالح العام بحجة أنّه وصل سن المعاش!! وإعتمد فى حجته على بنود العقد القانونى الخاص الذى وقعه مع البنك حين تعيينه مديرا ، والجدير بالذكر أنّ العقد ينص على أنّ منصور متعاقد مع البنك وليس معيّن من قبل الحكومة وبالتالى لا تنطبق عليه شروطها التى تحيل بها الناس للمعاش.
ومنذ تلك اللحظة بدأت صحة هذا الفارس اللجب فى التدهور بسبب حزنه الشديد، واستمر منصور فى تدهور مستمر حتى أسلم روحه الطاهرة لربها فى موسم الحج. والجدير بالذكر، أنّه كان قد إستعد وأكمل كل أوراقه للحج فى ذلك العام. وبالتحديد توفى منصور يوم 17 من شهر يونيو عام 1994 ودفن بمقابر برى وبكاه خلق كثير على رأسهم كثير من الفقراء والمساكين واليتامى والأرحام، وفى عيونهم:
ترى الدموع على الدموع كأنّما *** تلك الدموع من الفجيعة تدمع
نعم، ذرفوا عليه دموعا كالسيل لأنّ منصور كان كافلا لعدد غير معروف من أيتامهم ومساكينهم، ولأنّ منصور كان يتصدق عليهم بكل ملابسه فى بداية كل عام وهى جديدة، ولأنّ منصور كان لا يذهب للحج إلا برفقة شخص أو شخصين من ضعفائهم الذين لا يستطيعون إلي بيت الله الحرام سبيلا، ولأنّ منصور كان ينحر ويتصدق بذبيحته كلما ختم القرآن الكريم تلاوة!! ولهذه الخصال وغيرها بكته البواكى بحرقة وهى تقول:
يا بحر المسور، خاتى النقاص والقول!!
ديبا وحى ووب، قولوا الفليل يا عول
يابحر المسور، الدنيا زايله وقت رقد منصور!
لقد تزوج منصور مرتين ولم يرزق من الذرية شيئا، وبعض الرجال أبت الأقدار أن يستنسخهم أو يشبههم أحد من الخلق ولو من أصلابهم وذلك غيرة و تعظيما لهم لا حرمانا لهم! ومن هنا " .. ما كان محمد أبا أحد من رجالكم....." أفهمتم سر الحرمان؟. رحم الله عمنا منصور أحمد الشيخ رحمة واسعة بقدر إخلاصه وجهاده وحسن خلقه وإحسانه، وغفر الله لمن ظلمه أيضا فقلب منصور أرحم من أن يثأر وينتقم ممن ظلمه، ورحمة ربى أوسع من رحمة منصور بلا شك وهى التى وسعت كل شئ!
والى اللقاء فى الحلقة القادمة.