============ تتسارع الأحداث في السودان هذه الأيام إلى الحد الذي يصعب معه إعطاء قراءة لمآلات المستقبل القريب إلا وقفزت في الأفق علامات إستفهام تجعل القراءة محل شك. لكن الذي لا شك فيه على أرض الواقع هو أن الناس في السودان اليوم معسكران إثنان لا ثالث لهما: معسكر الأكثرية الغالبة التي اكتوت بجحيم نظام الأخوان المسلمين طوال تسع وعشرين سنة. وهذا معسكر نزلت الأكثرية من أبنائه وبناته إلى الشارع ، هدفهم إسقاط هذا النظام وليس سواه. إسقاط النظام الذي أوصل البلاد وشعبها إلى هذا الحضيض من الدرك الأسفل في كل ميادين الحياة: الإدارة والإقتصاد والصحة والتعليم والأمن. وإقامة البديل الذي أجمعوا عليه: دولة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات بين كل سكان هذا البلد. دولة يقوم دستورها على حرية التعبير والمساواة في الحقوق والواجبات، حيث لا تمييز أو أمتياز لمواطن على قاعدة الجنس أو اللون أو المعتقد الديني أو المكان. هذا الخيار كما قلنا هو ما خرجت الأكثرية اليوم وما ينتظر أن تخرج الملايين في كل أرجاء البلاد في أيامنا القادمة سعياً لتحقيقه مهما غلا الثمن! أما المعسكر الآخر ، معسكر من هم مع النظام الحالي قلباً وقالباً مهما تعددت الأطروحات. فأنصار النظام من الأخوان المسلمين – بكل مسمياتهم – ومعهم طابور ما يعرف بالسلفيين رغم اختلافاتهم على السطح مع تنظيم الأخوان المسلمين في تافهات الأمور، لكنهم أصحاب مصلحة مشتركة في فقه تخدير الشعوب وسرقة مقدرات البلد تحت أي ذريعة. يضاف إليهم الإنتهازيون "المصلحجية". أصحاب هذا المعسكر لم يؤمنوا ولن يؤمنوا في يوم من الأيام بدولة عصرية تقوم على دستور يمنح الحرية والثروة والسلطة لهم ولسواهم على التساوي. لا وجود للآخر المختلف في فكر الإسلامويين، فالآخرعدوهم في المحصلة الختامية. وأي كلام يصدر منهم تحت مسمى دولة العدالة الإجتماعية ليس سوى غش وتدليس. كذب الأخوان المسلمون ومن في معسكرهم على شعبنا منذ بيانهم الإنقلابي الأول يوم 30 يونيو 1989م بأن الضباط الذين قاموا بالإنقلاب على السلطة الديموقراطية لا علاقة لهم بأي حزب سياسي في البلاد ، وأنهم جاءوا فقط لإنقاذ البلاد من "الهاوية" الإقتصادية والأمنية التي كانت ستتردى فيها لو لا قيام انقلابهم ! وصدقهم الأكثرية من شعبنا الطيب. ولأن الكذب (حبالو قصار) فقد سقط القناع منذ الشهور الأولى وظهر للناس الغول الإسلاموي الذي أدخل بلادنا في هذا النفق المظلم ووصل بها إلى خاتمة لا سبيل للخروج منها إلا بإنهاء هذا النظام وتصفية مؤسساته تصفية كاملة ومحاسبة كل من سفكوا الدماء أو سرقوا مقدرات البلاد وثرواتها بهذه الصورة المشينة! المحاسبة التي تتم في ظل دولة القانون والمؤسسات التي ينوي شعبنا إقامتها على أنقاض هذا النظام المنهار. وأي دعوة لتغيير يخلو من هذا الشعار لا يعدو أن يكون ذراً للرماد على العيون. ونحن إذ نقول هذا يجب ألا يفوتنا جميعاً أن النظام ومن لا يريدون زواله زوالاً كاملاً – وأعني بوضوح أولئك الذين ينادون بتغييره وليس إسقاطه، الذين يسعون لحمل هذا الجسد المسرطن في سفينة باسم "الحل الشامل" ، الحل الذي حسب مقولتهم لا يستثني أحداً. النظام وهؤلاء لا يمكن أن يتركوا تظاهرات شعبنا السلمية تصل أهدافها دون اختلاق سيناريوهات هدفها الحيلولة دون قيام انتفاضة شعبية تكنس هذا المسخ من جذوره وترسي دولة المواطنة والديموقراطية والمساواة. ولعل أكثر السيناريوهات احتمالاً وأشدها وضوحا بعد قراءة فاحصة للواقع المتردي بسرعة الصاروخ هو القفز على دبابة اخوانية يقودها ضابط غير معروف من ضباطهم وتحت مسمى جديد ، يعلن الدعوة لحكومة انتقالية من تكنوقراط وعسكر لحين يتم الإعداد لمؤتمر دستوري تقوم بعده انتخابات عامة !! سيناريو يخرج بمقتضاه اللصوص والمجرمون من التهم التي تلاحقهم بخراب هذه البلاد وإبادة مئات الآلاف من أبنائها – سيناريو لإخراجهم من هذا المأزق كما تخرج الشعرة من العجين! قولوا لأصحاب هذا السيناريو: خسئتم! لن تسرقوها مرة أخرى. إلى جماهير شعبنا الثائرة..الجماهير التي اختارت الشارع وبدأت في تحرير الأطراف للإنقضاض على الجسد المعتل في المركز، نقول لهم : إحذروا انقلاب القصر! ويا أبناء وبنات شعبنا الأبي،لا تصدقوا أي بيان عسكري حتى لو وعدكم بمحاكمة كل رموز النظام الحالي وإقامة دولة المواطنة.. تلك لن تكون سوى مسرحية سخيفة لإخماد ثورة الشارع التي تفجرها الملايين في بلادنا الآن وتزحف بها نحو غاية واحدة: إسقاط هذا النظام الفاشي وإقامة دولة المواطنة التي يتغنى بشعارها الآلاف ، أهزوجة في الشوارع والأحياء هذه الأيام : حرية ، سلام وعدالة .. والثورة خيار الشعب !! إن انتفاضة ديسمبر العظيمة – ثورة تحرير المدن – أعطت الملايين من السودانيين والسودانيات جرعة أمل انتظروه طويلاً. الأمل بأإزالة الكابوس الذي عانينا وعانت منه بلادنا قرابة الثلاثين عاماً، وبناء وطن حر جديد. الأمل بشروق شمس الحرية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان لشعب جسور يستحقها وتستحق أن تكون ديدن حياته وحياة أجياله المقبلة.