كابتن شيخ الدين: الصاحب في السفر
د.عبد الله علي ابراهيم
28 April, 2024
28 April, 2024
عبد الله علي إبراهيم
بدا لي أن أسرع بنشر هذه المقالة القديمة لبيان معنى قول أستاذنا عبد الخالق محجوب بوجوب أن "يشتبك" الماركسي مع الدين رفعاً لغربة الماركسية عن التقاليد الثقافية التاريخية للمسلمين من فوق هجوم على قضاياه من منصة الفكر. وعربت "engage" ك"اشتباك" مع أنني تمنيت دائماً أن أعثر على تعريب سمح آخر لها. وهي عن واقعة بسيطة رأيت في ممارسة "دعاء السفر" غير ما كنت رأيته بمزاج حداثي من قبل.
(كلمة قديمة (17 فبراير 2013) عن كابتن شيخ الدين محمد عبد الله أعيد نشرها في ذكراه وقد غادرنا إلى دار البقاء. يا رحمة الله امتطى بالكابتن عنان السماء قريباً من مُزن الرب وأبوابه المشرعة للرحمة فتلطفي رحمة الله به، وصبّر الله أهله وبلده وقبيل مهنته من بعده).
تلطف السموال خلف الله بدعوتي إلى "سيرة" من الفنانين والشعراء أول أمس السبت إلى دار الشاعر الوزير عبد الباسط سبدرات بجبل الأولياء. وكانت السيرة محض زمالة في طريق الابداع الوعر. وتجلت هذه الروح حين غشونا دار الفنان القلع بالكلاكلة نطعم من كرامة في مناسبة مولود حفيدته الأولى. وخرجنا من الديوان من الوليمة إلى البص بأماديح نبوية لصيدحين هما معتز السني وعلي البصيري. ولن أنسى الفرح الذي غمر نساء البيت. فأندى المديح المباغت الوجوه، فزغردن، وحملن المولودة للمشهد تصغي إلى الصوت القديم وما يزال طلباً للبركة.
جلست في رحلتيّ البص جاراً للكابتن شيخ الدين محمد عبد الله. وبالطبع عرفته سمعاً وقيض الله لي الاجتماع به في هذا الظرف الاستثنائي. وللرجل حيوية وانشغال لم تخفت بالعمر. وليس غريباً أن يكون التعلق بالسماء مهنته. وعرفت منه لأول مرة كيف صار دعاء السفر سنة في خطوطنا الجوية. وكنت سمعته أول مرة في رحلة بالإيرباص في منتصف السبعينات وبدا لي وكأنه "شغل" علاقات عامة لا حقيقة له في خدمة الطيران ذاتها. فبعد ساعة من الرحلة لم يعد دخول حمامات الطائرة إلا خوضاً. ورأيت المضيفات اللائي تلون علينا الدعاء مضربات عن تهوين السفر على الركاب بوقايتهم من "وعثاء السفر وكآبة المنظر".
ردني كابتن شيخ الدين من تضييق الواسع بحكايته مع دعاء السفر بفصل سحر الدعاء عن كساد الخدمة. فقد كان هو أول من أذاعه على الطائرة السودانية بين استنكار زملائه. ولم يدفعه إلى ذلك كونه إسلامياً انتمى لتنظيم الإخوان المسلمين في المدرسة الابتدائية، بل عاطفة أخرى أيضاً. فقال إنه كان يطير بالحجاج وهم مسافرين طارئين على الجو وكباراً في السن. ولاحظ أنه متى أزت الطائرة تداعى سائرهم بالدعاء بالسلامة للأولياء: يا ود حسونة، يا أب شره، يا الجعلي، يا المكاشفي رئيس القوم، يا ود بدر وهكذا. فخطر له أن يوحد هذه الولاءات المتضاربة في ولاء السنة الشامل. فأذاع عليهم دعاء السفر: " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر . . . ". ولما فرغ منه أسرعت المضيفات إلية يحملن له نبأ السكينة التي أخذت بمجامع قلوب الركاب. فصمتوا وكأن على رؤوسهم الطير للكلم الطيب هون عليهم سفرهم وطوى بعده. ولما علم الكابتن وقع الدعاء على من هم في ذمته في الكابينة لم يعد يحفل بمعارضة زملائه ممن ظنوا حسب الكابتن أن يقول: كابتن فلان يحييكم . . . سنطير على ارتفاع كذا وسنبلغ كذا في الساعة كذا" هكذا حافة. فنقاده نظروا للمركبة الحديثة المحايدة ثقافياً في أحسن تقدير وغاب عنهم الرَكْبَ بوجدانه العتيق.
وكان دعاء السفر سبباً لعلاقة مهنية شخصية بين الكابتن، الإسلامي المعارض، والرئيس نميري. فقرأ الدعاء مرة بطائرة الرئيس فصار بعدها كابتنه المكلف. وتلك قصة أخرى.
IbrahimA@missouri.edu
بدا لي أن أسرع بنشر هذه المقالة القديمة لبيان معنى قول أستاذنا عبد الخالق محجوب بوجوب أن "يشتبك" الماركسي مع الدين رفعاً لغربة الماركسية عن التقاليد الثقافية التاريخية للمسلمين من فوق هجوم على قضاياه من منصة الفكر. وعربت "engage" ك"اشتباك" مع أنني تمنيت دائماً أن أعثر على تعريب سمح آخر لها. وهي عن واقعة بسيطة رأيت في ممارسة "دعاء السفر" غير ما كنت رأيته بمزاج حداثي من قبل.
(كلمة قديمة (17 فبراير 2013) عن كابتن شيخ الدين محمد عبد الله أعيد نشرها في ذكراه وقد غادرنا إلى دار البقاء. يا رحمة الله امتطى بالكابتن عنان السماء قريباً من مُزن الرب وأبوابه المشرعة للرحمة فتلطفي رحمة الله به، وصبّر الله أهله وبلده وقبيل مهنته من بعده).
تلطف السموال خلف الله بدعوتي إلى "سيرة" من الفنانين والشعراء أول أمس السبت إلى دار الشاعر الوزير عبد الباسط سبدرات بجبل الأولياء. وكانت السيرة محض زمالة في طريق الابداع الوعر. وتجلت هذه الروح حين غشونا دار الفنان القلع بالكلاكلة نطعم من كرامة في مناسبة مولود حفيدته الأولى. وخرجنا من الديوان من الوليمة إلى البص بأماديح نبوية لصيدحين هما معتز السني وعلي البصيري. ولن أنسى الفرح الذي غمر نساء البيت. فأندى المديح المباغت الوجوه، فزغردن، وحملن المولودة للمشهد تصغي إلى الصوت القديم وما يزال طلباً للبركة.
جلست في رحلتيّ البص جاراً للكابتن شيخ الدين محمد عبد الله. وبالطبع عرفته سمعاً وقيض الله لي الاجتماع به في هذا الظرف الاستثنائي. وللرجل حيوية وانشغال لم تخفت بالعمر. وليس غريباً أن يكون التعلق بالسماء مهنته. وعرفت منه لأول مرة كيف صار دعاء السفر سنة في خطوطنا الجوية. وكنت سمعته أول مرة في رحلة بالإيرباص في منتصف السبعينات وبدا لي وكأنه "شغل" علاقات عامة لا حقيقة له في خدمة الطيران ذاتها. فبعد ساعة من الرحلة لم يعد دخول حمامات الطائرة إلا خوضاً. ورأيت المضيفات اللائي تلون علينا الدعاء مضربات عن تهوين السفر على الركاب بوقايتهم من "وعثاء السفر وكآبة المنظر".
ردني كابتن شيخ الدين من تضييق الواسع بحكايته مع دعاء السفر بفصل سحر الدعاء عن كساد الخدمة. فقد كان هو أول من أذاعه على الطائرة السودانية بين استنكار زملائه. ولم يدفعه إلى ذلك كونه إسلامياً انتمى لتنظيم الإخوان المسلمين في المدرسة الابتدائية، بل عاطفة أخرى أيضاً. فقال إنه كان يطير بالحجاج وهم مسافرين طارئين على الجو وكباراً في السن. ولاحظ أنه متى أزت الطائرة تداعى سائرهم بالدعاء بالسلامة للأولياء: يا ود حسونة، يا أب شره، يا الجعلي، يا المكاشفي رئيس القوم، يا ود بدر وهكذا. فخطر له أن يوحد هذه الولاءات المتضاربة في ولاء السنة الشامل. فأذاع عليهم دعاء السفر: " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر . . . ". ولما فرغ منه أسرعت المضيفات إلية يحملن له نبأ السكينة التي أخذت بمجامع قلوب الركاب. فصمتوا وكأن على رؤوسهم الطير للكلم الطيب هون عليهم سفرهم وطوى بعده. ولما علم الكابتن وقع الدعاء على من هم في ذمته في الكابينة لم يعد يحفل بمعارضة زملائه ممن ظنوا حسب الكابتن أن يقول: كابتن فلان يحييكم . . . سنطير على ارتفاع كذا وسنبلغ كذا في الساعة كذا" هكذا حافة. فنقاده نظروا للمركبة الحديثة المحايدة ثقافياً في أحسن تقدير وغاب عنهم الرَكْبَ بوجدانه العتيق.
وكان دعاء السفر سبباً لعلاقة مهنية شخصية بين الكابتن، الإسلامي المعارض، والرئيس نميري. فقرأ الدعاء مرة بطائرة الرئيس فصار بعدها كابتنه المكلف. وتلك قصة أخرى.
IbrahimA@missouri.edu