كلُّ تجربةٍ لا تُورِثُ حكمةً تكرر نفسها!

 


 

 


عنوان هذه المقالة نصٌ لحكمةٍ صوفية قديمة. ولقد اخترت نص هذه الحكمة ليصبح عنوانًا لهذه المقالة، لأن مجريات الأحداث، في السودان اليوم، تقول إن من يطيب لهم تسمية أنفسهم بـ "الاسلاميين"، دون سائر أهل السودان من المسلمين، لم يرثوا، في ما يبدو، من تجربتهم في الحكم، حكمةً تذكر. فهم، مع كل ما جرى،لا يزالون يظنون بأنهم "الأعرف" و"الأفضل" و"الأقدر"،لإدارة الشأن العام، من بين السودانيين كافة. الخاصية المركزية التي تحكم كل أمورهم هو أن لهم احساسًا بالاستحقاق يسيطر عليهم. ويمكن القول، دون تردد أنهم يمثلون، في نظر أنفسهم، "شعب الله المختار" من بين السودانيين! وآية ذلك، أنهم ظلوا يخصون أنفسهم بما يطيب لهم، ويفرضون كل ما يرون على بقية السودانيين، دون مبالاةٍ، ودون أدنى احساسٍ بأن هناك من السودانيين، من لهم وجهة نظر أخرى، تستحق أن تُسمع!
لا أخالني أقول جديدًا، في هذا الباب، لم يسبق أن قيل من قبل. فقد تحدث قبلي عن هذه العقلية الرعناء المغرورة المتعالية كتابٌ كثر، من بينهم الدكتور منصور خالد، والدكتور حيدر ابراهيم، وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم. المدهش أن هذا الاحساس بالاستحقاق في فرض الرأي على الآخرين، والرغبة في أن يُعطوا فرصةً تلو أخرى للاستمرار في الحكم، يظل يتملكهم، رغم كل الفشل المدوي الذي اتسمت به تجربتهم. خاصةً، أنها كانت الأسوأ من بين كل سابقاتها. فهي قد اتسمت بالعسف، والبطش، والتجبر، وتفشي القتل واستسهاله، والاستهانة بالدم والعرض البشري، واستحلال حيازة المال العام. ولا يجد المرء أدنى تردد في أن يقول إن تجربتهم في الحكم أسوأ من تجربة الحكم الخديوي التركي المصري، وأسوأ من تجربة الحكم الإنجليزي المصري، وأسوأ من كل عهود الحكم الوطني، بل وأسوأ من سنوات حكم الخليفة عبد الله التعايشي، على سوئها الذي تناقلته ألسن السودانيين، صاغراً عن كابر، عبر ما يزيد عن القرن من الزمان. ولا يملك المرء إلا أن يعجب من "تخانة جلد" هؤلاء القوم!
قبل بضعة أيام، كتب الأكاديمي والكاتب المعروف، الدكتور عبد الوهاب الأفندي،عباراتٍ مهمة. كتبها وهو يشير إلى التقارب المتسارع حاليًا بين "الوطني" و"الشعبي"، واحتمال عودة الترابي مرة أخرى إلى دهاليز السلطة. تقول تلك العبارات: "فالبداية لا يمكن أن تكون بالتبرؤ من الممارسات السابقة، بل توضيح ماهية ومنطلقات تلك الممارسات. أي أن المطلوب أن يسمع الناس بوضوح، ومن جديد، التبشير بالمشروع الحضاري، وما هي صفة ذلك المشروع، وماذا كانت منطلقاته النظرية، وكيف بررت تلك المنطلقات ما وقع من ممارسات. فلا يمكن الثقة بتحولٍ حقيقيٍّ في المواقف ما لم يتم نقد ومراجعة المنطلقات النظرية والأخلاقية للممارسات السابقة، كما لا يمكن نقد تلك المنطلقات ما لم يتم بيانها".
وما أحب التعليق عليه مما قاله الدكتور عبد الوهاب الأفندي، الذي عُرف منذ فترةٍ طويلة بنقده المتواصل لهذه التجربة الكارثية، وما آلت إليه أحوال السودان والسودانيين جراءها، قوله: ""فالبداية لا يمكن أن تكون بالتبرؤ من الممارسات السابقة، بل توضيح ماهية ومنطلقات تلك الممارسات ". فبالرغم من أن الأفندي يريد منهم شيئًا أكثر من مجرد التبرؤ مما جرى، وأن يذهبوا عميقًا  ليلمسوا جذر المشكلة في أصل الفكرة المعتنقة، وهذه ملاحظة شديدة الأهمية، إلا أني أرى أنهم لم يتبرءوا أصلاً من شيء فعلوه، وهذا هو سر هرولة الترابي الأخيرة. نحن لم نسمع منهم تبرؤًا يتناسب مع الفظائع التي ارتكبوها، أو اعترافًا صريحًا بالفشل غير المسبوق الذي أخرج السودان من مسار التاريخ المعاصر وسياقاته، بعد أن حوله إلى قطرين. قطب المؤتمر الشعبي الكبير الدكتور علي الحاج لم يقل أكثر من: "خلوها مستورة". أما القطب الأكبر، الدكتور الترابي، الذي دعاه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة ليتحدث عن تجربتهم كإسلاميين في الحكم، في أكتوبر 2012، فقد خيب آمال الحضور العريض الذين خفوا ليستمعوا إليه. لقد كانوا يتوقعون منه نقدًا شافيًا للتجربة الانقلابية البينة الفشل، التي أُبعد منها منذ نهاية التسعينات من القرن الماضي، وأن يجدوا لديه علمًا جديدًا في إدارة الشأن السوداني.
تحدث الدكتور الترابي لساعة ونصف الساعة، رغم أن الزمن الذي مُنح له للحديث كان خمسة وأربعين دقيقة فقط. أنفق الترابي الوقت وهو يحكي قصصًا لا عبرة فيها، ويثرثر و"يتظارف" ويضحك في ما لا يوجب الضحك، وكانت المحصلة النهائية أن لا عبرة يمكن أن نعتبر بها من تلك التجربة الكارثية. ويخطئ كثيرًا أولئك الذين يظنون أن الدكتور الترابي مجدد. فهو لا يختلف، في حقيقة الأمر، من حيث تضخم الذات، الدينيِّ المنشأ، عن أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وغيرهم من السلفيين الذين يعتقدون بالصحية المطلقة لما يعتقدون، وما يسلكون.
ما جرى من الدكتور الترابي في تلك الندوة المخيبة للآمال، لم يكن شيئًا عارضًا، جرى اتفاقًا، وإنما كان انعكاسًا حقيقيًا لـ "العقلية الإخوانية"، التي تتلون ولا تتغير قط. فالترابي سياسيٌ مكيافيللي النزعة، وليس مفكرًا، لا من قريبٍ ولا من بعيد. لقد كان ينتظر، في قرارة نفسه، وهو يحدث الناس في الدوحة في تلك الأمسية، أن يعود مرة أخرى إلى السلطة في إطار نفس المساق الذي بدأه بانقلاب يونيو 1989. وهذا ما يفسر حرصه الشديد في حديثه، في تلك الندوة، على الاحتفاظ بخيط معاوية مع تجربته السابقة في سلطة الانقاذ، التي هي ابنته الشرعية، بلا مراء.
من يتأمل ابتعاد فصيل الترابي عن مجموعة المعارضة مؤخرًا واحتفاظه بخطابين؛ واحد لتطمين قوى المعارضة، ينثره كمال عمر، كل فترةٍ وأخرى، وآخر للزحف إلى مواقع السلطة، واستعادة الأراضي القديمة، يدرك أن في الأمر "تكتيكًا" براغماتيًا، لا أكثر. ومما تشي به ملابسات كثيرة، يبدو أن تقارب الترابي والبشير ليس قرارًا سودانيًا محضًا، وإنما قرارٌ مُملى، إلى حدٍ كبير، من الخارج. ولكن، متى كانت شؤون السودان، عبر أي مرحلةٍ ما بعد الاستقلال تدار من الداخل؟! هذا التقارب فرضته، على أقل تقدير، ضرورة الاحتفاظ بالسودان في يد "الإخوان المسلمين"،مهما كانت التكلفة.فالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين فقد مصر، في رمش العين، وخسر بذلك الفقدان خسارةً فادحة. وفي تونس أضطر التنظيم لكي يقدم تنازلاتٍ كانت شاقةً جدًا على نفسه، بفضل تماسك وفاعلية القوى المدنية في تونس، وبفعل مرونة الغنوشي ونزعته العملية، وايثاره الوطن على التنظيم والمعتقد. الشاهد، حين كان الربيع العربي يدفع بالإخوان إلى السلطة على مختلف الجبهات في الأقطار العربية، لجهل تلك الشعوب التي صحت لتوها، بمن هم الإخوان المسلمون، كان الربيع العربي في السودان يتجه إلى اقتلاعهم من السلطة، بعد أن قدموا أسطع نموذج للفشل في إدارة الدولة الحديثة.
ما أراه، أن الخطاب الداعم للديمقراطية ولبسط الحريات الذي ظل يبثه المؤتمر الشعبي على الناس من موقعه في المعارضة، عبر العقد والنصف المنصرمين، لم يكن خطابًا أصيلاً، وإنما كان خطابًا تكتيكيًا. لقد خلق حكم الانقاذ واقعًا جديدًا في السودان، هو واقع الدولة الخربة على كل الصعد؛ الفكرية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية. وباستصحاب ما سبق أن قلته حول اختطاف الإنقاذ للدولة، وانعدام الفواصل بين التنظيم، والحزب، والدولة، فإن أي انتخاباتٍ قادمة، نزيهةً كانت أم غير نزيهة، سوف لن تأتي بغير الإخوان المسلمين إلى الحكم. يعي الدكتور الترابي هذه الحقيقية جيدًا. وهي حقيقة قد صُنعت صنعًا على أرض الواقع، ولسوف تتحكم في مسارات الأمور لفترة من الوقت. أصبح النظام ووراءه التنظيم العالمي، بحاجة إلى الترابي. أما الترابي فهو في أمس الحاجة الآن لإعادة الاعتبار إلى نفسه. يعرف الترابي أن النتيجة التي يمكن أن تأتي بها أي انتخابات مقبلة ستكون نتيجةً"ديمقراطية". غير أنها "ديمقراطية" من حيث الشكل، لا غير. فالإنقاذ قد أرجعت عقارب ساعة الوعي في السودان، إلى الوراء، عقودًا من الزمان، إن لم نقل قرنًا كاملا، بلويزيد على القرن. لقد اكتملت "أخونة" الوعي في السودان وسط قطاعٍ عريضٍ جدًا من المواطنين، بفعل حالة التراجع الفكرية العامة التي صنعتها الانقاذ، وهي حالة وضع الدكتور الترابي حجر أساسها عام 1989.يضاف إلى ذلك، أن الانقاذ خلقت منظومة من المصالح الجهوية والفردية والقبلية الواسعة المرتبطةٍ بالنظام، صنعت لها قاعدة شعبية كبيرة. لقد قضت الانقاذ على الطائفية، ولكنها خلقت حالة هي أدني في سلم التطور في سلم الدولة الحديثة من الحالة الطائفية نفسها.
بما أن الترابي سياسيٌّ ميكافيلليُّ النزعة وليس مفكرًا، فسوف يسير للمرة الثانية في مسار الحلول الانقلابية. فانقلابه العسكري الذي قام به في يونيو 1989، الذي أبعده من السلطة بعد سنوات التأسيس العشر الأولى، هيأ له المناخ، من حيث لا يدري، ليعود مرة ثانية إلى السلطة، ولكن عن طريق صندوق الاقتراع هذه المرة. فالبلاد لم يعد فيها حزبٌ منافسٌ، بفعل التحطيم المتعمد للبنى الحزبية على مدى ربع قرن من الزمان. ولقد صدق الأستاذ صديق محيسي حين قال، إن الترابي يشارك الآن في انقلاب البشير الثاني. هذا الانقلاب الثاني، مغلف تغليفًا جيدًا،ويصعب تمييزه.
لو كان الترابي مفكرًا لرفض العودة بهذه الصورة، ولعمل على استعادة الوعي المنهوب. فرغمأن عودته سوف تكون ـــــــ إن هي حدثت فعلاً ـــــمبنية على صندوق الاقتراع، غير أنها لن تكون عودةً ديمقراطية، وإنما عودةٌ انقلابية في نسقٍ جديد. إنها، باختصارٍ شديد، سرقةٌ في وقت غاب فيه الحارس الأكبر للديمقراطية، وهو الوعي، وغابت فيها القوى الحزبية المعارضة، التي قُضي عليها بفعلٍ متعمد. والخطة الأمثل عندي، أن تقاطع جميع القوى أي انتخابات مقبلة، ويتركوا الإخوان المسلمين يحصدون ثمار نبوءاتهم التي تتحقق ذاتيًا.أتيحت للترابي فرصةٌ أخيرة ليركب مركب الوطن، كما فعل الغنوشي، ولكنه اختار أن يركب مركب العقيدة المغلقة، التي ما أفلح يومًا في أن يُخرج عقله من قمقمها. وسيسوء الحال أكثر، وبدل أن نصل إلى حل سلمي توافقي، سنصبح عرضة لحلٍّ تأتي به شرعيةٌ ثوريةٌ جديدة، تدخل الأمور في جحر ضبٍّ خربٍ آخر. والسبب،أن الأخ المسلم يبقى، يد الدهر، أخًا مسلمًا، إلا من رحم ربي. فالعلة في أصل الفكرة.
elnourh@gmail.com
///////////

 

آراء