كم بمصر من المبكيات
عمر العمر
27 May, 2024
27 May, 2024
بقلم عمر العمر
فجأة أصبح السودانيون رقماً قياسياً عالمياً في دفتر النزوح . إذ توصف مغادرتهم الجماعية الوطن الأكبر منذ الحرب العالمية الأخيرة، مع أن السودانيين ظلوا يرون الهجرة خياراً إضطراريا .فمع اتساع رقعة الحرب القذرة في الداخل يرتفع إيقاع الهروب إلى الخارج. مصر أمست وجهة تلقائية لموجة عالية في سياق النزوح القسري الفجائي نظرا لما بين البلدين من وشائج نسجتها الجغرافيا والتاريخ. لكن على غير المتوقع اكتنف وجود السودانيين في القاهرة غلالة مبطنة بالتوتر بين الشعبين. هو توتر مشوب بطابع متفرّد إذ اختلفت العلاقة بين المصريين والسودانيين عما هي بين أهل البلد المضيف وجاليات عربية حلّت ضيفة كالسوريين ،اليمنيين والليبيين، لاذوا بمصر بلدا بديلا تحت ضغط ظروف مشابهة. فمن المضحكات بمصر تبادل شعبي وادي النيل الاتهامات بتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية تصعيد التوتر البالغ حد الشتم والسباب.
*****
ربما لا يكون التباين المصري السوداني نوبة نشاز في متن العلاقات الثنائية الممتدة في التاريخ ، إذ تواتر مثل هذا الانكسار في منعطفات تحت تأثير ضغوط متباينة . للظروف السياسية والاقتصادية الراهنة المحيطة بالشعبين دور في تسخين العلاقات . هذه نظرة لا تبرئ أيا منهما من عدم التحلي بالوعي المفترض. فالسودانيون عبروا الحدود دون إدراك شامل لحجم الكارثة الوطنية.ذلك القصور جعلهم كمن هو خارجٌ في نزهة قصيرة يعود منها على عجل. مع هذا الفهم حمل قطاع عريض من النازحين طبائعهم الاجتماعية.من المضحكات فيها قناعة تملي على المضيف بذل مافي وسعه بغية إكرام الضيف، بما في ذلك تحمل ممارساته وإن ثقلت. أكثر من ذلكم، تمنح تلك الطبائع الضيف حق(فيتو) انتقاد المضيف ما لم يتحمله . هذه المعادلة العرجاء المزدوجة ليست من سمات الحياة الاجتماعية بمصر. لهذا يراوح أهلها بين الضحك والبكاء تجاه ممارسات سودانية حياتية.
*****
لسوء طالع الشعبين أن قوام موجة النزوح المبكرة غلبت عليها عناصر الطبقة الطفيلية .تلك طبقة تفسّخت في عهد الإنقاذ وساهمت إلى حد بعيد في تشويه المجتمع السوداني التقليدي .هي ظلت أحد معاول ترييف الخرطوم .هي تتحمّل أكثر الأوزار السودانية في تصعيد التوتر الثنائي. فإليها يرجع غالبية ما جأرت به الطبقة المصرية الوسطى من شكايا ،مظاهر سلبية سودانية، غير قابلة للتعايش أو الاحتمال وفق القاموس الاجتماعي المصري.كذلك حملت أسراب النازحين عاداتهم وممارساتهم اليومية -فيها ما يستدعي ضحكا كالبكاء- إلى المهاجر دون تكليف أنفسهم حتمية مراعاة الفوارق في المرافئ الإضطرارية. ربما من أبسط سمات تلك الفروقات بمصر الإنتقال من مجتمع مترهل بالاسترخاء إلى آخر مصري مشدود بالانضباط...كما الانتقال من سلطة فالتة إلى قبضة محكمة.
*****
كذلك ليس المصريين يجانبهم المنطق فيما يراوحون بين الضحك والبكاء. فالشكوى-مثلا- من ارتفاع الإيجارات أو أسعار العقارات يُساءل عنه طمع المُلّاك قبل تدافع المستأجرين أو الشراة .فالسوريون اقتحموا سوق مصر عبر المطاعم والمخابز فأثروا شهية المصريين ولم يثيروا نقمتهم .فالسودانيون مفتنون بالمضاربة في العقار على قدر إقبال السوريين على صناعة الأكل من المضحك المبكي تصوير السودانيين كأنهم يعيشون بروح القطييع خارج الزمن الحضاري . مع ان ذلك سلوك تنتجه أصالة أخلاقيات وقيم دفء العشيرة النبيلة. فمن المبكيات كذلك أ ن المخيّلة السودانية مثقلةٌ بما هو أشدُ وطأةً بمثل هذا التنميط العشوائي المشرّب بالتعالي المصري.مثلما هي مشحونة بصور مصرية -تحرّض على الضحك- يراها السودانيون ليست حضارية البتة .كلا العقليتين ألقت طبقات لهذا التوتر القابل للالتهاب في منعرجات حرجة على سكة الروابط المشتركة . كلاهما يمتصان زيتهما من إرث سلبي إعتصرته العلاقات السياسية أكثر مما نسجه التشابك بين الشعبين. من المبكي دفع السودانيين أكثر فاتورة أعلى كلفة في حساب (الأخ الأكبر ) ،واجبة السداد على الخارطة العربية ،أكثر مما يتحمل المصريون.
*****
من سوء طالع الشعبين المضحك حد البكاء غلبة سطوة وسائط التواصل الاجتماعي على عقلانية متوهمة لدى أجهزة الإعلام والصحافة تجاه معالجة العلاقة المشتركة .فالوسائط لم تكتف بالصور السلبية في المخيلة الجمعية بل ذهبت أبعد لجهة رسم صور ذات قواسم عدوانية لتنميط (سوداني قبيح)على الطريق الأميركية.وراء ذلك كذلك جهات إعلامية تستهدف توسيع (الجفوة المفتعلة)بين شعبي وادي النيل.من الصعب تحديد نقطة انطلاق بدايات غرس بذور التعايش السوداني في مصر أو المصري في السودان.لكن في المتناول تأطير القواسم المشتركة بين الجانبين .التاريخ شاهد على محطات بلغ-لايزال- ذلك التعايشفيها حد التساكن، التصاهر والاندماج على صُعد متباينة أو التكامل السياسي..
*****
من سوء حظ المصريين ان هذه (الجفوة المفتعلة)تأتي بينما اضطرابات فوضوية تحيط بهم من الشرق والغرب والجنوب.لذلك ليس من صالحهم الحفاظ على التناسق في الداخل بما في ذلك قمع حملات التكريه الاجتماعي .فليس في رحابة صدور كل السودانيين مساحة لتحمل كل المرح المصري خاصة إذا انطوى على وخذ ساخر .ففوق كل ذلك يظل السودان العمق الأثير لمصر عبر التاريخ. كما ليس ثمة مهرب من الجغرافيا فليس من سبيل لصناعة مستقبل لا يستند إلى التاريخ أو يقفز فوق الحاضر .تلك حقيقة جيوسياسية لابد للشعبين من إدراكها ملياً. فما دام لا انفكاك مما ليس منه بد فلابد من التعايش معه.لذلك لا جدوى إيجابية لممارسة العزف على الأوتار المنفرة.هناك تزمر سوداني سياسي تجاه إسناد الشأن الثنائي إلى الأجهزية الأمنية بمافي ذلك العلاقات الدبلوماسية.
*****
خروج السودانيين من الوطن حالة اضطرارية محدثة مقارنة بأفواج جاليات عربية أخرى ؛كاللبنانيين،السوريين، اليمنيين والمصريين ضربت في أركان الدنيا الأربعة . السودانيون الجدد الخارجون قسرا من ملتقى النيلين وضفافهما مطالبون بالحفاظ -إن لم يستطيعوا المراكمة -على صور زاهية رسمها أترابهم الأوائل في مهاجر عربية بينها مصر . فحتى قبل الحرب الراهنة بلغت ذروة الموجة الأعلى للمغتربين السودانيين في عقدي الثمانينيات الأخيرة نحو مليون وسبعمئة الفا.السلطات السودانية أخفقت في تأطير هجرتهم داخل استراتيجية وطنية . فما بالك في حال اهترائها الراهن وفي مصر نحو ٤.٥ ملاين مهاجر و نازح .هذه بحد ذاته مسألة تندرج في قول أبي الطيب :كم بمصر من المصحكات ولكنه ضحك كالبكاء.
aloomar@gmail.com
فجأة أصبح السودانيون رقماً قياسياً عالمياً في دفتر النزوح . إذ توصف مغادرتهم الجماعية الوطن الأكبر منذ الحرب العالمية الأخيرة، مع أن السودانيين ظلوا يرون الهجرة خياراً إضطراريا .فمع اتساع رقعة الحرب القذرة في الداخل يرتفع إيقاع الهروب إلى الخارج. مصر أمست وجهة تلقائية لموجة عالية في سياق النزوح القسري الفجائي نظرا لما بين البلدين من وشائج نسجتها الجغرافيا والتاريخ. لكن على غير المتوقع اكتنف وجود السودانيين في القاهرة غلالة مبطنة بالتوتر بين الشعبين. هو توتر مشوب بطابع متفرّد إذ اختلفت العلاقة بين المصريين والسودانيين عما هي بين أهل البلد المضيف وجاليات عربية حلّت ضيفة كالسوريين ،اليمنيين والليبيين، لاذوا بمصر بلدا بديلا تحت ضغط ظروف مشابهة. فمن المضحكات بمصر تبادل شعبي وادي النيل الاتهامات بتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية تصعيد التوتر البالغ حد الشتم والسباب.
*****
ربما لا يكون التباين المصري السوداني نوبة نشاز في متن العلاقات الثنائية الممتدة في التاريخ ، إذ تواتر مثل هذا الانكسار في منعطفات تحت تأثير ضغوط متباينة . للظروف السياسية والاقتصادية الراهنة المحيطة بالشعبين دور في تسخين العلاقات . هذه نظرة لا تبرئ أيا منهما من عدم التحلي بالوعي المفترض. فالسودانيون عبروا الحدود دون إدراك شامل لحجم الكارثة الوطنية.ذلك القصور جعلهم كمن هو خارجٌ في نزهة قصيرة يعود منها على عجل. مع هذا الفهم حمل قطاع عريض من النازحين طبائعهم الاجتماعية.من المضحكات فيها قناعة تملي على المضيف بذل مافي وسعه بغية إكرام الضيف، بما في ذلك تحمل ممارساته وإن ثقلت. أكثر من ذلكم، تمنح تلك الطبائع الضيف حق(فيتو) انتقاد المضيف ما لم يتحمله . هذه المعادلة العرجاء المزدوجة ليست من سمات الحياة الاجتماعية بمصر. لهذا يراوح أهلها بين الضحك والبكاء تجاه ممارسات سودانية حياتية.
*****
لسوء طالع الشعبين أن قوام موجة النزوح المبكرة غلبت عليها عناصر الطبقة الطفيلية .تلك طبقة تفسّخت في عهد الإنقاذ وساهمت إلى حد بعيد في تشويه المجتمع السوداني التقليدي .هي ظلت أحد معاول ترييف الخرطوم .هي تتحمّل أكثر الأوزار السودانية في تصعيد التوتر الثنائي. فإليها يرجع غالبية ما جأرت به الطبقة المصرية الوسطى من شكايا ،مظاهر سلبية سودانية، غير قابلة للتعايش أو الاحتمال وفق القاموس الاجتماعي المصري.كذلك حملت أسراب النازحين عاداتهم وممارساتهم اليومية -فيها ما يستدعي ضحكا كالبكاء- إلى المهاجر دون تكليف أنفسهم حتمية مراعاة الفوارق في المرافئ الإضطرارية. ربما من أبسط سمات تلك الفروقات بمصر الإنتقال من مجتمع مترهل بالاسترخاء إلى آخر مصري مشدود بالانضباط...كما الانتقال من سلطة فالتة إلى قبضة محكمة.
*****
كذلك ليس المصريين يجانبهم المنطق فيما يراوحون بين الضحك والبكاء. فالشكوى-مثلا- من ارتفاع الإيجارات أو أسعار العقارات يُساءل عنه طمع المُلّاك قبل تدافع المستأجرين أو الشراة .فالسوريون اقتحموا سوق مصر عبر المطاعم والمخابز فأثروا شهية المصريين ولم يثيروا نقمتهم .فالسودانيون مفتنون بالمضاربة في العقار على قدر إقبال السوريين على صناعة الأكل من المضحك المبكي تصوير السودانيين كأنهم يعيشون بروح القطييع خارج الزمن الحضاري . مع ان ذلك سلوك تنتجه أصالة أخلاقيات وقيم دفء العشيرة النبيلة. فمن المبكيات كذلك أ ن المخيّلة السودانية مثقلةٌ بما هو أشدُ وطأةً بمثل هذا التنميط العشوائي المشرّب بالتعالي المصري.مثلما هي مشحونة بصور مصرية -تحرّض على الضحك- يراها السودانيون ليست حضارية البتة .كلا العقليتين ألقت طبقات لهذا التوتر القابل للالتهاب في منعرجات حرجة على سكة الروابط المشتركة . كلاهما يمتصان زيتهما من إرث سلبي إعتصرته العلاقات السياسية أكثر مما نسجه التشابك بين الشعبين. من المبكي دفع السودانيين أكثر فاتورة أعلى كلفة في حساب (الأخ الأكبر ) ،واجبة السداد على الخارطة العربية ،أكثر مما يتحمل المصريون.
*****
من سوء طالع الشعبين المضحك حد البكاء غلبة سطوة وسائط التواصل الاجتماعي على عقلانية متوهمة لدى أجهزة الإعلام والصحافة تجاه معالجة العلاقة المشتركة .فالوسائط لم تكتف بالصور السلبية في المخيلة الجمعية بل ذهبت أبعد لجهة رسم صور ذات قواسم عدوانية لتنميط (سوداني قبيح)على الطريق الأميركية.وراء ذلك كذلك جهات إعلامية تستهدف توسيع (الجفوة المفتعلة)بين شعبي وادي النيل.من الصعب تحديد نقطة انطلاق بدايات غرس بذور التعايش السوداني في مصر أو المصري في السودان.لكن في المتناول تأطير القواسم المشتركة بين الجانبين .التاريخ شاهد على محطات بلغ-لايزال- ذلك التعايشفيها حد التساكن، التصاهر والاندماج على صُعد متباينة أو التكامل السياسي..
*****
من سوء حظ المصريين ان هذه (الجفوة المفتعلة)تأتي بينما اضطرابات فوضوية تحيط بهم من الشرق والغرب والجنوب.لذلك ليس من صالحهم الحفاظ على التناسق في الداخل بما في ذلك قمع حملات التكريه الاجتماعي .فليس في رحابة صدور كل السودانيين مساحة لتحمل كل المرح المصري خاصة إذا انطوى على وخذ ساخر .ففوق كل ذلك يظل السودان العمق الأثير لمصر عبر التاريخ. كما ليس ثمة مهرب من الجغرافيا فليس من سبيل لصناعة مستقبل لا يستند إلى التاريخ أو يقفز فوق الحاضر .تلك حقيقة جيوسياسية لابد للشعبين من إدراكها ملياً. فما دام لا انفكاك مما ليس منه بد فلابد من التعايش معه.لذلك لا جدوى إيجابية لممارسة العزف على الأوتار المنفرة.هناك تزمر سوداني سياسي تجاه إسناد الشأن الثنائي إلى الأجهزية الأمنية بمافي ذلك العلاقات الدبلوماسية.
*****
خروج السودانيين من الوطن حالة اضطرارية محدثة مقارنة بأفواج جاليات عربية أخرى ؛كاللبنانيين،السوريين، اليمنيين والمصريين ضربت في أركان الدنيا الأربعة . السودانيون الجدد الخارجون قسرا من ملتقى النيلين وضفافهما مطالبون بالحفاظ -إن لم يستطيعوا المراكمة -على صور زاهية رسمها أترابهم الأوائل في مهاجر عربية بينها مصر . فحتى قبل الحرب الراهنة بلغت ذروة الموجة الأعلى للمغتربين السودانيين في عقدي الثمانينيات الأخيرة نحو مليون وسبعمئة الفا.السلطات السودانية أخفقت في تأطير هجرتهم داخل استراتيجية وطنية . فما بالك في حال اهترائها الراهن وفي مصر نحو ٤.٥ ملاين مهاجر و نازح .هذه بحد ذاته مسألة تندرج في قول أبي الطيب :كم بمصر من المصحكات ولكنه ضحك كالبكاء.
aloomar@gmail.com