كيف يحرك الأمريكان عجلة إقتصادهم

 


 

 

محمود عثمان رزق

18 نوفمر 2024

الإنسان الأمريكي إنسان محب للحياة بشدة، وهو متصالح ومتفاعل معها وغير زاهد فيها ويحلم بالإزدياد منها. وهذا الحب عندهم لا يتعارض مع حبهم للدين الذي يدينون به، وفي الحقيقة كثير منهم على خلق ودين، ويتعاملون مع الحياة كنعمة إلهية يجب التمتع بها. وهذه المحبة الشديدة للحياة والتصالح معها هي الدافع الأساسي للإنتاج عندهم، وهي أيضاً السبب وراء إبداعهم في إيجاد طرق جديدة ومبتكرة لتحريك إقتصادهم داخلياً وخارجياً.
فالمجتمع الأمريكي يحرك إقتصاده بالخرافات والإختراعات والخدمات وكل ما هو ممكن أن يباع ويشترى. فهو يمكنه أن يجني من فكرة أسطورية سخيفة مليارات الدولارات في خلال أسابيع قليلة. فخذ مثلاً فكرة الإحتفال الذي يسمى بالهلاويين Halween ، وهو فكرة سخيفة تدور حول فكرة أن الأرواح الشريرة تنبعث في شكل (بعاتي) في هذا اليوم، وقد تقابلك هذه الأرواح الشريرة في الشارع المظلم في هيئة مخيفة، أو تأتي لك في ظلام الليل في عقر دارك في هيئة مخيفة أيضاً تطلب منك إكرامها بالحلوى فإن لم تفعل فسوف تتسبب لك بالأذي.
هذه الفكرة السخيفة تستعد لها مصانع السُكّر ومصانع الحلوى ومصانع الملبوسات المخيفة قبل شهور طويلة جداً لتوفير الإنتاج اللازم لهذا اليوم السخيف الذي ينتظر قدومه الأطفال بفارغ الصبر. وعندما ننظر لهذا اليوم وحده وهذه الفكرة وحدها من ناحية إقتصادية نجدها ضخت في السوق الأمريكي في عام 2024 حوالي 12 بليون من الدولارات. ومقابل الأفكار السخيفة وهي كثيرة جداً، نجد أيضاً الأفكار الجادة والمخترعات الجديدة والزراعة والسياحة والعلاج والتعليم وغيره وكل تلك الأشياء هي تروس في عجلة الإقتصاد الأمريكي الذي تزداد تروسه يوما بعد يوم.
وعندما نقارن موقف الإنسان السوداني من الحياة بموقف الأمريكي من الحياة، نجد الإنسان السوداني يقف على النقيض من الأمريكي. نجده كاره للحياة وزاهد فيها وكأنها رجس من عمل الشيطان، ولذلك هو ليس طامحاً ولا طامعاً فيها، وبالتالي تجده سريع الإحباط فيها وكثير التحبيط لغيره منها. هذه النظرة للحياة لم ولن تبني دولة، ولا حضارة، ولن تعمر أرضاً، ولن ترفع شعباً لقُللِ المجد.
هذه النظرة ليست من الدين في شيء، ولا من تعاليم الدين في شيء، ولا من العقل في شيء. إن الدين الذي وعد الإنسان بجنة عرضها السموات والأرض فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا يمكن أن يمنعه من التمتع والحلم والزيادة في كوكب صغيرٍ جداً لا يزن ذرة من خردل في وسط مليارات المجرات والكواكب الفلكية. إنَّ هذا الزهد القاتل الهدام جاءنا للأسف من مدرسة من مدارس التصوف، وقد أنقسم أهل التصوف في مسألة الزهد لمدرستين فقالت إحداهما: إن الغني الشاكر خير من الفقير الصابر، وقالت الأخرى بل الفقير الصابر خير من الغني الشاكر. وهذا الرأي الأخير هو الذي شاع وساد في السودان للأسف.
وعليه، أصبح الإنسان السوداني زاهداً في كل شيء، فتمسكن حتى تداعت عليه الأمم وكادت تمحه من الوجود، وسخر بعضها منه ومن تكوين شخصيته وشكله ولهجهته. ومن خلال فكرة الفقير الصابر خير من الغني الشاكر،أصبح السوداني يرى التدين الصادق في الخمول والنفور والمرقع والتسكع والجلوس كل اليوم للتسبيح باللالوب (وهذا النوع من التدين أشاد به ياسر عرمان في مقال قبل أيام)، ولا يرى في الجمال والأناقة والإنتاج والصناعة والدفاع والعلم والسياسة والتنمية الإقتصادية وغيرها من ضرورات الحياة الراقية المتحضرة تديناً، بل يعادي ويشكك في تدين من ينحو هذا النحو الثاني!!.
وليست مقولات التصوف وحدها هي المسؤولة عن تشكيل العقلية السودانية الخاملة، بل نجد للمدرسة السلفية المتنطعة التي ترى كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار دزر في تخدير وتنويم الإنسان السوداني. في نظر هذه المدرسة السلفية أن كل ما لم يفعله السلف هو ردٌّ إن كان في وسائل التدين أو وسائل الدنيا. وهؤلاء أن قلت لهم إن الإحتفال بالمولد النبوي الشريف فرصة لجذب الناس نحو الدين من جانب، وفرصة لتحريك الإقتصاد شيئاً ما من جانب آخر، قالوا لك إنَّ الإحتفال بالمولد بدعة وما بني على باطل فهو باطال فلا يجوز الإحتفال أصلاً وبالتالي لا يجوز صناعة الحلوى للإحتفال. وهكذا هو موقفهم من أي ظاهرة إجتماعية جديدة يمكن أن تستقل لتحريك الإقتصاد. السياحة لمناطق الآثار القديمة هي زيارة وطواف حول الأصنام ومخلفات المشركين. وإذا سئلوا ما رأيكم في إحتفال الشخص بيوم ميلاده من غير تقديس؟ قالوا هو ضلالة لأن لنا عيدان! والحقيقة إن الإحتفال الخاص ليس عيداً لأن العيد للأمة كلها وهذا إحتفال يخص شخصاً واحدا من الأمة وبالتالي ليس هو عيد للأمة ليصبح عيداً ثالثاً. وخلاصة الأمر قد شاركت المدرسة السلفية في هذا الخمول والزهد القاتل بطريقتها الخاصة التي تستند على النصوص وليس المقاصد الكلية فحالت دون تحريك الإقتصاد السوداني.
وكذلك نجد الآيدلوجية الشيوعية الإشتراكية ايضاً ساهمت في خمول العقل السوداني بموقفها الآيديلوجي ضد مبدأ الملكية الخاصة، وضد الرأسمالية الوطنية المخلصة المتعاونة المعتدلة. هذه المدرسة الشيوعية أشاعت في الناس كراهية رأس المال ونفرتهم من الغِنى والأغنياء لأنهم رجس من عمل الشيطان، وعملت بوسائل السياسة الخشن منها والناعم لتسوية الناس في الدخل باحتكار الحكومة لوسائل الإنتاج والمشي في طريق التأميم ودعم السلع والتضييق على رأس المال الخاص. هذه المدرسة الشيوعية الإشتراكية وعدت الناس بالأماني العراض، بل وعدتهم بجنة عدن في السودان، فكان حلمها ووعدها كسراب بقيعة يحسبه الظمئآن ماء فلم يتحقق في أي مكان على الارض، ولكن ظلت آثاره السلبية على عقول ونفسيات كثير ممن خدعوا بالشيوعية في السودان وهم من غنوا لها "جيتي وفيك ملامحنا"
خلاصة القول إذا أردنا لهذا البلد أن ينطلق فلابد من تغيير عقلية أهله أولاً، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من تفكير مخل، وعقائد فاسدة، وتفاسير خاطئة، وزهد قاتل مدمر، ورهبانية ما انزل الله بها من سلطان. إن الله خلق لنا الأرض وأمرنا بتعميرها كما جاء في التنزيل الحكيم. وكيف نعمرها ونحن كارهون لها وزاهدون فيهأ؟ نعمرها لمن إذن؟ فيجب أن نُعلِّم الأجيال أنَّ الغنى باب لدخول الجنة إذا أحسنَّا التصرف فيه، وباب من أبواب السيادة في الأرض لأنَّ اليد العليا خيرٌ وأقدر من اليد السفلى.
وغنى الأفراد والجماعات يعني غنى الدولة، وغنى الدولة يعني قوتها وعزتها وسيادتها، وأنها قادرة على حماية أرضها وعرضها ودينها وإنسانها وثقافتها. علموا الأجيال أنَّ الغني الشاكر العابد المنفق على نفسه وأهله ومدينته ووطنه وأمته خير من أي فقير صابر لا خيار له إلا الصبر (وفي كل خير). علموهم أن يملكوا كل الدنيا التي خلقها الله لهم ووعدهم فيها وفي الآخرة بالمزيد، علموهم أن يجعلوها في أيديهم ينفقوا منها ولا يجعلوها تدخل جبتهم "قلبهم" إذ ما في الجبة (القلب) إلا الله.
خبراء الأمريكان يقولون لو اردت تغيير مؤسسة أو مجتمع فيجب عليك تغيير الثقافة المهيمنة فيه، وقد سبقهم ديننا لذلك فقال لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وعليه، لن يتغير حال السودان إقتصادياً حتى نحب نعم الدنيا التي خلقها الله لنا ولا نزهد فيها ولا نترهبن ومع ذلك نحافظ على عقيدتنا لانشرك بالله أحدا ولا نبتدع في أصول الدين ومحكمه ما ليس منه، ونحمد الله على نعمة ونشكره ولا نكفره.


mahmoudrizig3@gmail.com

 

 

آراء