كُورتي في العهد السناري (1405-1821م)

 


 

 

 

الحلقة الثالثة: العمدة أحمد عمر كمبال (1915-1995م): ملامح من تاريخ كورتي وشذرات من سيرة الرجل

تمهيد

عرضنا في الحلقتين السابقتين تقديم الدكتور عبد الرحيم عبد الحليم لكتاب "العمدة أحمد عمر كمبال (1915-1995م): ملامح من تاريخ كورتي وشذرات من سيرة الرجل" ومقدمة المؤلف للكتاب، ونحاول في هذه الحلقة الثالثة أن نجمع شتات المعلومات المتناثرة عن منطقة كُورتي في عهدي سلطنة الفونج (1504-1820م)، وهي معلومات شحيحة، ومتضاربة في بعض الأحيان، تأتي في صياغ الواقع السياسي للمنطقة، التي كانت مقسَّمة إلى عديد من المشيخات المحلية التي خضعت إلى سلاطين سنار عن طريق وكلائهم العبدلاب، وبعد أن أفل نجم العبدلاب ظهرت إحدى الأُسر الفونجاوية التي اتخذت من دُنْقُلا العجوز مقراً لها، باسطةً سلطانها على المنطقة الواقعة بين حدود الدناقلة شمالاً، والشايقية جنوباً. ثم بعد ذلك تأتي حقبة التركية السابقة (1821-1885م)، التي ارتبط تاريخها بمعركة كُورتي، التي جرت فصولها بين جيش إسماعيل بن محمد علي باشا (ت. 1822م) والشايقية؛ وظهرت كُورتي مرَّة أخرى في صدر العهد المهدوي (1881-1898م)، عندما تصدَّت جيوش مصطفى ياور، حاكم دُنْقُلا، لأنصار الحركة المهدية؛ وتكرر ذكرها أيضاً في تقارير الجيش الإنجليزي المصري الذي مهد الطريق لقيام حكومة العهد الثنائي في السُّودان (1898-1956م). ويؤكد ذلك أنَّ منطقة كُورتي لم يكن لها تاريخ مدون ومستقل عن واقعها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، بل يأتي ذكرها في ثنايا تاريخ المنطقة بصورة عامة؛ لأنها كانت تمثل جسر عبور لتلك الصراعات، الناتجة من وضعها الحدودي على مشارف ممالك الشايقية في الجنوب.

كُورتي في العهد السناري (1504-1821)

بعد زوال مملكة المقرَّة انقسم الإقليم الذي كانت تسيطر عليه إلى ثلاثة دور قبلية رئيسة، تشمل دار الجوابرة في الشمال، ودار البديرية في الوسط، ودار الشايقية في الجنوب. وتمتد حدود دار الجوابرة من شلالات حنك شمالاً إلى حلة التيتي جنوباً، وتضمُّ ممالك أرقو، ومقاصر، والخنَّاق؛ ومعظم سكانها من النُّوبيين، والكنوز، والجوابرة، والمهاجرين العرب. وتليها دار البديرية التي تمتدّ حدودها من حلة التيتي والصحابة شمالاً إلى جبل الضيقة (داقر) جنوباً، وتقطنها قبيلة البديرية الدهمشية، ومجموعات من الطريفية، والركابية، والشايقية، وبعض القبائل النوبية، والعرب الرحل؛ وتضم دار البديرية ممالك الخندق، ودُنْقُلا العجوز، وتنقسي، وأبكر، والدُّفَّار. ثم تأتي بعدها دار الشايقية التي تمتد من جبل الضيقة على ضفتي النيل شمالاً إلى الشلال الرابع جنوباً؛ وتقطنها قبيلة الشايقية، وبعض المجموعات القبلية التي استوطنت في المنطقة، وتُقسم إدارياً إلى أربع ممالك رئيسة ومشيخة، وهي حنك، وكجبي، ومروي، وأمري، ومشيخة السوراب.

كانت منطقة كُورتي تابعة لمملكة الدُّفَّار التي ترجع المصادر التاريخية أمر تأسيسها إلى الملك صلاح، وإن اختلفت في تسلسل أصوله؛ فبعضها ينسبه إلى محمد الدهمشي بن بدير بن سمرة؛ وبعضها يرفع نسبه إلى محمد الدهمشي بن بدير بن تركي بن بدير بن سمرة؛ وفريق ثالث ينسب الملك  صلاح إلى موسى الكبير، المشهور بمسوا، بن محمد بن صلاح بن بدير بن سمرة. أما النسب الصحيح المثبوت، حسب رواية أحمد الأزهري صاحب مخطوط خلاصة الاقتباس، فهو الذي يرجع أصول الملك صلاح إلى موسى، الملقب بمسوا الكبير، بن محمد بن صلاح بن محمد بن دهمش بن بدير بن سمرة. وليس لدينا ما يثبت التاريخ الذي أسس فيه الملك صلاح مملكة الدُّفَّار، لكن المصادر التاريخية تشير إلى أن مملكة الدُّفَّار كانت قائمة في عهد أولاد الجابرية الذين ورد ذكرهم في القرن السادس عشر للميلاد. ويقول البدوي محمد نافع في هذا الشأن: إنَّ إبراهيم البولاد بن جابر قد وضع "مسجداً بقرية مَلِك الدُّفَّار قصاد قنتي شرقاً، وعند بنـاء المسجد وضع فيه خمسة أعمدة حذواً بقواعد الإسلام، ولا تزال آثار المسجد الموجودة بالدُّفَّار تدلُّ على مآثر مملكة البديرية، وصار ملوك الشايقية يحضرون لاستماع الدروس والإرشادات التي كانت توجَّه إليهم من داخل المسجد." ويقول ود ضيف الله: إن عبد الرحمن بن جابر خلف أخيه إبراهيم البولاد على سجادة الأسرة الدينية، وجلس "للتدريس والفقه وساير الفنون، ... وانتفعت به الناس، وبلغت ختماته في خليل أربعين ختمة. وكان له ثلاثة مساجد، موزعة بين الدُّفَّار، ودار الشايقية، وكُورتي”، وبعض المصادر تضع أمري الزورات بدلاً عن كُورتي.

 خضعت مملكة الدُّفَّار إلى سلاطين الفونج خضوعاً اسمياً عن طريق العبدلاب، ثم عن طريق ممثل الفونج في دُنْقُلا العجوز. ويتجلى ذلك الانصياع السياسي في الجزية التي درج ملوك الدُّفَّار على دفعها إلى سنار، ووثائق التمليك التي كانت تصدر من سلاطين الفونج إلى الحكَّام المحليين بشأن إقطاعيات الأراضي التي كانوا يمنحونها إلى رجال الدين ووجهاء المجتمع. والشاهد في ذلك وثيقة التمليك التي أقرَّ فيها السلطان بادي بن نول عام 1157ه/1744م ملكية الفقيه عبد الهادي محمد عبد الهادي دوليب على زريبة جدَّه ود دوليب، وأعلم بذلك ملوك الدُّفَّار الذين كانوا تحت ملكه، ذاكراً منهم الملك موسى ولد إمامة ولد دُفَّار، والملك صلاح، وحثهم على تنفيذ أمره، وحذرهم من المخالفة.

   وبنهاية النصف الأول من القرن الثامن عشر للميلاد بدأ نفوذ الفونج يضمحل في المنطقة، وشرعت قبائل الشايقية في إحلال سيطرتها تدريجياً على حساب العبدلاب في الجنوب، ومملكة الدُّفَّار وممالك الدناقلة في الشمال. وشكلت غارات الشايقية تهديداً حقيقيَّا للعبدلاب أجبرهم على نقل عاصمتهم من قرِّي إلى حلفاية الملوك؛ ليكونوا أقرب إلى قاعدتهم السياسية في الهلالية، التي ربما توفر لهم الدعم اللازم عند الشدائد والإحن. وأخذت جموع من فرسان الشايقية، كما يرى نكولز، "تطوف البلاد الواقعة شمالاً من كُورتي إلى حنك بقصد الإغارة والسلب، فنهبوا، وخربوا، وأثاروا الرعب، والفزع في نفوس الأهالي، ونتج عن ذلك التخريب هجرة مجموعات من أهالي المنطقة إلى كردفان، ودارفور، وبربر." ويصف الرحالة براون المناطق التي هجرها أهلها بأنها كانت أفضل من دارفور في جميع مميزاتها الطبيعية، لكنها "كانت مسرحاً للتدمير، وسفك الدماء، فلم يكن فيها حكومة مستقرة، وأسهمت الانقسامات الداخلية في تمزيقها، وظلت غارات الشايقية والقبائل القاطنة بين النيل والبحر الأحمر تلقي الرعب في نفوس الأهالي."

ويظهر ذلك الانقسام في وثيقة حصلتُ عليها من جامعة بيرغن (النرويج)، يصف مؤلفاها الخواجة يوسف خير حبيب، والخواجة إبراهيم باذ الواقع السياسي في المنطقة قبل مجيء الغزو التركي المصري، ويبينان كيف قُسِّمت مملكة الدُّفَّار إلى كينونات سياسية صغيرة، آل حكمها لبعض أعيان المملكة الذين شملتهم الوثيقة، وهم: الملك سرير في جزيرة الشاطراب، والملك أرباب النور بن عايد في منطقة أمبكول، والملك محمد دار موسى على الضفة الشرقية لمملكة الدُّفَّار، والملك الحتاني على الغربية، والملك بشير الخندقاوي في الخندق. ويعلِّق الرحالة كايو على الواقع الذي فرضته سيطرة الشايقية على المنطقة بقوله: "بعد زوال مملكة سنار، أصبح الشايقية جبابرة في نظر جيرانهم، وقد عانى أهالي دُنْقُلا وبربر والحلفاية ما عانوه على أيدي هؤلاء القوم الجسورين، قوم نشأوا محاربين نساءً ورجالاً." ويبدو أن حالة عدم الاستقرار التي أفرزتها غارات الشايقية في المنطقة قد دفعت ملوك دُنْقُلا، والبديرية إلى التوحد ضدَّ هجمات الشايقية. وبعد تدمير مملكة الدُّفَّار قبل الغزو التركي المصري دارت معركة بين الشايقية والقبائل المتحالفة ضدَّهم في منطقة القولد (شبعانة)، وأفضت إلى هزيمة الشايقية وتقهقرهم جنوباً، وقبل أن تتمَّ المواجهة العسكرية الثانية على حدود دار الشايقية "نزل الملك شاويش الأول عن فرسه، وفرش"، أي استسلم، وبناءً على ذلك تدخل علماء المنطقة وأجاويدها، وأصلحوا بين الطرفين، ووضعوا حجراً في قرية الباسا؛ ليكون حدَّاً فاصلاً بين البديرية والشايقية. 

خلاصة

لم يكن لكُورتي تاريخ قائم بذاته، بل إن تاريخها السياسي والإداري يجب أن يُقرأ في إطار الواقع السياسي لإقليم دُنْقُلا بصفة عامة، علماً بأن حدود منطقة كُورتي كانت تتغير حسب ظروف الزمان والمكان. ففي العهد السناري (1504-1821م) كانت كُورتي جزءاً من مملكة الدُّفَّار، حيث تأثرت بواقع الصراع الذي جَرَتْ فصوله بين الشايقية وجيرانهم من الشمال. وفي العهد التركي المصري (1821-1885م) كانت مسرحاً لأكبر معركة فاصلة في تاريخ المنطقة بين الأتراك والشايقية، فضلاً عن أنها كانت معسكراً مهماً لتحركات جيش إسماعيل بن محمد علي باشا. في هذا السياق ربما يسأل القارئ سؤالاً: ما دور كُورتي في واقعة أم بقر؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن ينظر إلى موقف أهالي كُورتي في منظومة مواقف الكينونات السياسية الأخرى التي كانت ترى في مناصرة الأتراك خيراً؛ لأن الأتراك من وجهة نظرهم ربما يخلقوا وضعاً أفضل من حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي أحدثتها غارات الشايقية في المنطقة، فضلاً عن أنهم لم يكونوا مستعدين مادياً وعسكرياً لمناصبة الجيش الغازي العداء. وفي ظل تلك التحولات السياسية أضحت منطقة كُورتي تابعةً لخط أمبكول، ومن ثم تشكل موقفها السياسي والإداري حسب موقف السواد الأعظم من أهالي خط أمبكول الذين ناصروا مصطفى ياور، مدير دُنْقُلا، ولم يشذ عنهم إلا حفنة من الأعيان، يأتي في مقدمتهم الحاج كمبال ود حمد، الذي وقف مناصراً للشيخ الهِدَيْ إلى أن استشهد في واقعة ود دبش عام 1884م. في الحلقة الرابع نجيب عن هذه الأسئلة، ونعرض تاريخ كورتي في التركية السابقة.

(يتبع: الحلقة الرابعة)

 

آراء