لا تستغربوا من النهب والسلب فإنّها التربية الأبوية عندما تغيب الصناعة على العين

 


 

 

د. السر أحمد سليمان
أستاذ علم النفس التربوي، جامعة حائل، السعودية

أذكر أنّه قد تمّ تكليفي بتدريس مقرر مدخل التربية لطلبة المستوى الأول؛ وذلك في بداية عملي في الجامعة في السودان؛ والمقرر يتضمن التعريف بالمصطلحات والمفاهيم الرئيسة المتعلقة بالتربية والتعليم والتعلم ومدارسها المتنوعة.
ولما وجدت أنّ هناك تعريفات كثيرة ومتنوعة للتربية بناء على الاتجاهات والنظريات والفلسفات والمجتمعات المختلفة، رأيت أن أجعل طلبتي مساهمين في ذلك التنوع بدلا من استقبالهم لتلك التعريفات استقبالا سلبيا لا يتجاوز الحفظ والتذكر والمقارنات الأولية فيما بينها.
فكلفت الطلبة بواجب بسيط وهو أن يقوم كل طالب منهم بطرح سؤال محدد لثلاثة فقط من أفراد المجتمع، والسؤال هو: ما هي التربية من وجهة نظرك؟ ويكتبوا أو يسجلوا تلك الإجابة أيا كانت. وطلبت من الطلبة أن يدونوا مع تلك الإجابات بعض البيانات عن الأشخاص الذين يستجيبون لهم؛ والبيانات هي: النوع (ذكر/ أنثى)، العمر (.....)، المستوى التعليمي (.....)، المهنة (.....). وأن يكتب الطالب ورقة بسيطة يلخص فيها ما تحصل عليه، ويقارن فيها بين تلك التعريفات بناء على هذه البيانات التي جمعها.
وكنت أريد أن يطلع الطلبة على التباين في وجهات النظر لهذا المفهوم الذي يحتاج إليه كل فرد في حياته لكي يتعامل مع أطفاله خاصة والأطفال الآخرين عامة أيا كانت وظيفته، وأن يعرفوا أنّ التباين في النظرة لذلك المفهوم الرئيس مرتبط بجوانب أخرى في حياة الناس، ولذلك ينبغي أن يتم ضبطه وفق المعايير والأهداف العامة حتى يكون هناك اتساق في التعامل مع الأطفال.
وللحقيقة فقد عاد طلبتي بمادة غزيرة وتعريفات كثيرة، واستمتعوا بعرضها، واستمتعت معهم بما قدموه، وقد جمعت تلك المادة لأنشرها لتتم الاستفادة منها على نطاق واسع؛ ولكني فقدتها أثناء انتقالاتي وأسفاري؛ ولكن أثرها قد بقي لدى بعض الطلبة، فقد قابلني بعضهم بعد فترات وأكدوا لي أنّ تلك التجربة قد أفادتهم كثيرا.
والمستفاد من ذلك أننا قد وجدنا نظرات مختلفة للتربية كما كان يراها الأفراد وبناء على ذلك ينشئون أطفالهم؛ وذلك في مجتمع واحد في بيئة جغرافية محددة من وطن مترامي الأطراف كما يقولون في ذلك الوقت (قبل أن ينفصل الجنوب الحبيب).
وطبعا قد كان هناك تباين كبير في النظر للتربية في تلك العينة المحدودة، ومن المفارقات (الطبيعية وفقا للتباين الثقافي وغيره) أنّ البعض يرى التربية هي التنشئة على إكساب القوة والشجاعة والمواجهة وهزيمة الآخر وسلبه، والبعض يراها هي التنشئة على احترام الآخر وتقديره، والبعض يراها هي التنشئة على المعرفة البحتة، والبعض يراها هي التنشئة على اكتساب المهارات والمهن، وووو الخ.
وكما هو معروف في علوم التربية والتعليم وعلم النفس وبناء على نظرات واتجاهات الآباء للتربية سينشأ الأطفال ويكتسبوا تلك التوجهات الأبوية إن لم يكن هناك تدخل قوي من جهة نافذة (وهي الدولة في النظام الحديث)، وهذا معروف منذ القدم حتى ولو خالفت توجهات الآباء المنطق الواضح كما ورد عن قوم إبراهيم عليه السلام الذين برروا لما يقومون به هو ما وجدوا عليه آباءهم بغض النظر عن صلاحيته أو عدم صلاحيته وفقا للمنطق العقلي كما ورد في سورة الشعراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيم (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُون (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُون (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون (74)}.
وكما قال أبو العلاء المعري:
وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ
وَما دانَ الفَتى بِحِجىً وَلَكِن يُعَلِّمُهُ التَدَيُّنَ أَقرَبوهُ
ولكن الأمر لن يكون كذلك بصورة عامة إذا كانت هناك تدخلات قوية لتعديل وضبط التربية الأسرية وفق منظومة قيمية وأهداف عامة متفق عليها من قبل الجهات المنوط بها التخطيط التربوي على مستوى الدول، كما هو موجود في الدول المتقدمة تربويا حاليا، فأيا ما كانت التربية الأسرية فإنّ مؤسسات التعليم والوعي الثقافي تعدل وتضبط التنشئة لدى الأطفال في المدارس وأماكن الترفيه والحياة العامة بإرشاد توجيهي وقانون صارم محقق للأهداف التربوية العامة، حتى ولو ضمت تلك الدول مكونات اجتماعية ذات خلفيات وثقافات متباينة كما هو موجود في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال.
وفي القرآن الكريم نلاحظ أنّ النبي موسى عليه السلام نشأ في كنف فرعون الطاغية، بل وإنّ فرعون امتن عليه بأنّه قد رباه عندما كان وليدا: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِين}[الشعراء:18]. ولكن الله سبحانه وتعالى لم يترك موسى عليه السلام ليكون تحت الصناعة الفرعونية! بل تدخلت العناية الإلهية ليُرد موسى إلى من يكلفه وينشئه على القيم والمعايير السوية وفقا للعناية الإلهية، وهم أهل بيته وأمه الحنون؛ كما ورد في قصته في سورة طه: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ .. (40)}.
والمستفاد من ذلك أنّ التربية يقوم بها كل من نشّأ ورعى طفلا، وسوف يكسبه القيم والمهارات وفقا لتوجهاته ووفقا لثقافته وقيمه أيا كانت. ولكن ومن أجل ضبط هذا الأمر لابد من تدخل الدولة بقوة من خلال التخطيط التربوي لتحديد القيم الكلية، والمهارات المطلوب اكسابها للأطفال، وتوجيه المؤسسات المختلفة لتحقيق تلك الأهداف الاستراتيجية، وتعديل الأخطاء التربوية بصورة مستمرة من خلال المؤسسات التثقيفية والعدلية لضبط التوجه السليم.

ولعل ما نشاهده الآن من سلوكيات متباينة من خلال هذه الحروب، وخاصة الحرب التي عندنا في السودان، بحيث يقوم البعض بالنهب والسلب من عامة الناس بسلاحه؛ معتقدا أنّها غنائم، ويجد احتراما وتقديرا في أهله عندما يعود لهم بهذه المنهوبات، هو من نتائج التربية الأبوية التي لم يصاحبها تدخل وصناعة من تربية الدولة. ولذلك فإنّ الإصلاح لابد أن يبدأ على مستوى الدولة، وذلك بالعناية بالتربية الكلية، وأي مصلح إن لم يضع التربية والتعليم هدفه وهمه الأول ولم ينفق عليه من المتطلبات المادية والبشرية ما يحتاجه فإنّ عمله ومبادراته لن تكون مجدية ولو كانت مخدرة لبعض حين.

sirkatm@hotmail.com
/////////////////////

 

آراء