لا عزاء لدعاة الوحدة الجاذبة!!
زفرات حرى
الطيب مصطفى
وانكشف المستور وبانت الحقيقة المُرة وتعرّى من كانوا يبيعون الأوهام ويرفعون شعار الوحدة الجاذبة.. لا نستثني أياً من التنظيمات أو القوى السياسية أو غيرها من منظمات المجتمع المدني فقد كانوا جميعاً يمارسون خطيئة تضليل الناس ويتحدثون عن حتمية تحقيق ما كنا نعلم أنه المستحيل وما هو بمثابة تحويل الليل إلى نهار والشمس إلى قمر، وهل من دليل على ما أقول أكبر من نسبة الـ 89% التي دوّت بها صناديق الاقتراع وهي تكشف عن رغبة شعب الجنوب في الخروج من وطن موحد يضمهم مع شعب الشمال؟!
لقد ألقم شعب جنوب السودان من ظلوا يملأون الفضاء والصحف والصحائف ليل نهار ويهدرون الأموال في مستنقع الوحدة الجاذبة حجراً كبيراً بل لقد لقن كل ساسة الشمال بأحزابهم وتنظيماتهم السياسية منذ فجر الاستقلال دروساً ما كانوا يحتاجون إليها لو كانوا قد استقرأوا التاريخ وقرأوا الواقع الماثل قديماً وحديثاً من لدن تمرد توريت مروراً بلهيب الحرب المتطاولة ثم بأحداث الإثنين الأسود في قلب الخرطوم ثم بشراكة القط والفار التي أعقبت نيفاشا بين طرفي تلك الاتفاقية أو لو كانوا قد فكروا بعقولهم بدلاً من إطلاق العنان لعواطفهم المجنونة وأحلامهم الصبيانية!!
تماماً كما أهدرنا أموال شعب الشمال المتضوِّر جوعاً إلى الخدمات والغذاء في إقامة وإنشاء بنيات تحتية وطرق وجسور وسدود ومحطات كهرباء ومياه في جنوب السودان ممنين أنفسنا بإغراء الجنوبيين للبقاء في وطن واحد مع الشماليين... تماماً كما فعلنا ذلك ونحن نتوهم أن شعب الجنوب البعيد سيصوت للوحدة.. أهدرنا أموالنا كذلك في نقل أبناء الجنوب المقيمين في الشمال بعربات المؤتمر الوطني في ولايات الشمال ومحلياته إلى صناديق الاقتراع واثقين أنهم سيصوتون للوحدة!! كيف لا يصوتون وقد جاءوا بعربات المؤتمر الوطني؟! كيف لا يصوِّتون وهم الذين عاشوا بين ظهرانينا في الشمال واحتضنّاهم بعد أن لاذوا بنا فراراً من جحيم الحرب المشتعلة في بلادهم ولم يرجعوا إلى الجنوب حتى بعد أن مُنحوا حكم بلادهم في أعقاب نيفاشا؟! هل من دليل على أنه ينبغي لهم أن يتشبثوا بالوحدة أكبر من هذه الحيثيات التي جعلتهم يبقون في الشمال حتى بعد أن استُنفروا للعودة ووُفِّرت لهم وسائل الرجوع إلى جنوب السودان؟! هذا ما فهمه المؤتمر الوطني وتوهَّمه لكنه من أسفٍ لم يستطع سبر المشاعر الممتلئة والمحتدمة بذات الحقد الذي جعل السياسي الجنوبي الكبير بوث ديو يصرح عام 8491م بقوله: «لو كنت شمالياً لانتحرتُ»!! رغم ذلك كله كانت اللطمة الكبرى والدرس القاسي والطعنة النجلاء والعبرة الأبلغ، فقد صوت معظم جنوبيي الشمال ومن داخل أرض الشمال للخروج من الوحدة مع الشمال والتحرُّر من الشمال!! فهل من فجيعة لبائعي الوهم أكبر من ذلك؟!
نحمد الله أننا كنا ندرك مآلات الأمور ونعلم ما ينطوي عليه أبناء الجنوب وأسسنا جراء ذلك رؤيتنا حول الحل الناجع لمشكلة جنوب السودان التي قلنا فيها إن الجرح الغائر أكبر من أن يندمل بالمسكِّنات وأن السرطان أكثر فتكاً من أن يعالَج بالبنادول فقد صوَّت حتى أبناء الجنوب ممن عاشوا وأقاموا في الشمال أكثر من إقامتهم في الجنوب.. صوتوا للانفصال فهل بربكم بقي لبائعي الوهم شيء يحفظ ماء وجوههم؟! وهل بقي لدعاة الحريات الأربع منطق يسوقون به تخرصاتهم؟!
لقد آن للمؤتمر الوطني أن ينعتق من الشعور بذنب لم يقترفه أنه تسبب في الانفصال فقد فعل ما لا ينبغي أن يفعل مِعشاره في سبيل الحفاظ على الوحدة التي آمنت بها قيادتُه دون قاعدته رغم أنف الشورى والآن أكثر من أي وقت مضى آن له أن يشعر بصحة قراره المتأخر للغاية والذي شاركته فيه جميع القوى السياسية وأن يفخر بأنه أتاح الفرصة لأبناء الجنوب أن يعبِّروا عن رأيهم ويقرروا مصيرهم ذلك أن نتيجة الاستفتاء بهذه النسبة الكاسحة بما في ذلك نسبة تصويت الجنوبيين المقيمين في الشمال الذين مورست معهم كل أساليب الترغيب لصالح الانفصال كشفت بجلاء أن إبقاء الجنوب في وطن واحد مع الشماليين يعتبر استعباداً وإكراهاً وهو ما يتناقض مع الإسلام والقرآن الكريم الذي حكم بأنه «لا إكراه في الدين» وأعجب أن يُحرّم الإكراه حتى في الدين والذي ينتج عنه آفة النفاق التي تعتبر أبشع من الكفر ونكره الناس على ما هو دون ذلك متناسين أن الوحدة القسرية تعني الحرب وهل يشك أحدٌ اليوم أن تلك المشاعر المُبغضة للشمال والشماليين هي التي تسببت في الحرب المتطاولة التي فتكت بالبلاد على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان؟!
اليوم حق لمنبر السلام العادل أن يزهو ويفخر أنه كان الأصدق والأكثر توفيقاً في سبر أغوار مشكلة جنوب السودان حين جزم أنه لا حل إلا بالانفصال بين المتناقضين أما المتاجرون بقضية الجنوب من أمثال «الجاهل» عرمان من المهرِّجين ممَّن أرادوا أن يسخِّروا قضية الجنوب من أجل طمس هُوية هذه البلاد وإطفاء نور الله بأفواههم ومعاركهم الدونكيشيوتية فإنهم سيذهبون إلى مزبلة التاريخ بعد أن أضاعوا أعمارهم قديماً في اعتناق فكر اليهودي كارل ماركس ثم امتطوا ظهر الحركة التي ركلتهم وأهانتهم وتركتهم في العراء لكن متى كان لمن يرضى الهوان لنفسه كرامة ومتى كان الميت يتألم من الجروح؟! ومن يهُن يسهل الهوان عليه.. ما لجُرح بميت إيلام!!
أعجب ما في الأمر أن سلفا كير دعا الجنوبيين من داخل كنيسة بجوبا لأن يسامحوا الشماليين على ما سماها بالحروب التي خاضوها معهم!!
يا سبحان الله.. صدِّقوني إن قلت لكم إن هذا الرجل لا يستحي.. سلفا كير الذي أحيا بعد أن تقلد منصب النائب الأول ورئيس حكومة الجنوب.. أحيا ذكرى تمرد توريت وسماه يوم الأبطال يحتفل به كل عام في يوم 81 أغسطس الذي شهد اشتعال التمرد الذي قُتل فيه مئات الشماليين في أول عملية تطهير عرقي في تاريخ السودان الحديث.. سلفا كير الذي نكأ ذلك الجرح الدامي وأعاد تذكير الجنوبيين به من خلال إحيائه كل عام رغم أنف نيفاشا التي نصت في المادة: «1 ــ 7» من اتفاق السلطة على إلزام طرفي الاتفاقية بإجراء «مصالحة وطنية شاملة وتضميد الجراح في جميع أرجاء القطر كجزء من عملية بناء السلام».. سلفا كير الذي يعلم أن أبناء الشمال من المدنيين قُتلوا بأطفالهم ونسائهم في أبشع محرقة ومجزرة في تاريخ السودان الحديث قبل أن يخرج الإنجليز من السودان وقبل أن ينال السودان استقلاله وأن أولئك المجرمين الذين سماهم بالأبطال قد صدّق الحاكم العام الإنجليزي المحب والمتعاطف مع أبناء الجنوب على إعدام «121» منهم.. سلفا كير هذا في حاجة إلى أن يعلم أنه مطلوب منه أن يعتذر للشمال وأبناء الشمال عن كل ما ألحقه الجنوب بهم وببلادهم.
لقد هزّني مقالان رائعان خطّهما في صحيفة الرأي العام كلٌّ من الأخوين راشد عبدالرحيم بعنوان: «من يسامح من يا سلفا كير؟!» ومحمد عبد القادر بعنوان: «سلفا كير.. والله يا هو الفضل» وذلك تعليقاً على جليطة الرجل وهو يدعو الجنوبيين لمسامحة الشماليين وكان المقالان رائعين بحق وحقيقة بالرغم من أن محمد عبد القادر أورد معلومة غير صحيحة ذلك أن ولاية سلفا كير في منصبه الاتحادي يا محمد تنتهي بالإعلان عن انفصال جنوب السودان وليس في يوليو وذلك قول القانون وهل نحتاج إلى فتوى أكبر من تلك التي أدلى بها نقيب المحامين السابق مولانا فتحي خليل الذي جزم بسقوط كل الوظائف الدستورية وغيرها بمجرد أن يعلن عن الانفصال الذي يعني سقوط الجنسية تلقائياً والانتماء لوطن جديد.. عليهم يسهِّل وعلينا يمهِّل!!