ألا رحم الله أبي الطيب المُتنبي الذي عطَّر حياتنا بأريج شعره الفواح. ونستميحه عُذراً في استبدال كلمة في مطلع قصيدته العصماء (لك يا مَنازلُ في القلوب مَنازِلُ/ أقفرتِ أنتِ وهُنَّ مِنكِ أواهِلُ) فلكل مِنَّا عشقه الذي يرُوم. والعنوان نفسه كنت قد استخدمته قبل نحو اثنتي عشر سنةً في ذات المناسبة التي نحن بصدد تكرار وقائعها، وهي الانتخابات الأمريكية. والأجدر أن يقال عنها الانتخابات الكونية، وذلك ليس افتناناً بها، بقدر ما هو واقع جسَّده الاهتمام الدولي في مشارق الأرض ومغاربها، أضحت فيه الكرة الأرضية كأنها عبارة عن دائرة انتخابية واحدة، تتمنى فوز هذا وخسارة ذاك. ومما يجدر ذكره أنها حققت أعلى نسبة مشاركة منذ ما يربو على المائة عام، الأمر الذي زاد من عناصر التشويق والإثارة والمتعة السياسية! بيد أن للصورة وجهاً آخر على المستوى الشخصي. إذ تعد هذه هي المشاركة الرابعة لي منذ مجييء لهذا البلد. وقد مثلت التجربة الأولى حدثاً فارقاً لي، لأنها بالفعل كانت الأولى في حياتي، وكنت حينها في العقد الخامس، ذلك على الرغم من أنني لم أَمِلُّ الكتابة عن الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان كدين مستحق لوطن ضائع. قضيت أكثر من نصف عمري أبحث عنه بين العواصم بُغية أن أمارس فيه تلك الفريضة الغائبة. والحمد لله الذي قيض لنا ثورة مجيدة قرَّبت المسافات نحو تحقيق ذلك الحلم الأبدي رغم وعثاء السفر. واقع الأمر لم تكن تلك محنتي وحدي، بقدر ما هي محنة جيل تقاذفته الديكتاتوريات يميناً ويساراً، وحرمته من ابسط حقوقه الأساسية. فالذين هم في العقد السادس مثلي الآن لم تتح لهم المشاركة بحكم السن في الانتخابات الديمقراطية الأولى عام 1958 ورغم ذلك أجهضتها الديكتاتورية الأولى بعد بضع أشهر. ولم يشاركوا أيضاً في الانتخابات الثانية عام 1965 إلا من بلغ العقد السابع الآن. أما من هم في العقد السادس مثلي فلم يشهدوا سوى انتخابات ديمقراطية يتيمة، وهي التي جرت عام 1986 ولسوء حظي فاتني شرف المشاركة لظروف قاهرة حيث كنت أقيم في الكويت، وتعذَّر عليَّ معانقة حلمي الذي كاد أن يصبح سرمدياً! ورب سائل من باب حب الاستطلاع يقول: وكيف تسنى لك تحقيق ذلك الحلم يومذاك؟ من المفارقات كنت قد حصلت على الجنسية الأمريكية عام 2008 أي بعد خمس سنوات وتسعة أشهر بالتمام والكمال من وصولي للولايات المتحدة. علماً بأنني عشت أكثر من ضعف هذه الفترة في الخليج، وعشت ما ينقص عنها قليلاً في الشرق الأوسط، وعشت في القرن الأفريقي ما يناهز ضعف الفترة المذكورة، أما وطني الذي عشت فيه أقل من نصف سنوات عمري كلها، فقد ابتلي بعُصبة منحت نفسها الحاكمية نيابة عن الله، وبسطت ذراعيها بالوصيد، وأوصدت بوابات الوطن لتذل من تشاء وتعز من تشاء! ورب سائل آخر يقول: ولماذا كل هذا؟ مكافأة لي على معارضتها منذ الساعة صفر، قامت الطغمة البائدة بسلب (هويتي) بعد شهور قليلة من جلوسها على سدة السلطة، وشرفتني به كأول إجراء تعسفي تقوم به تجاه معارضيها، وإمعاناً في التأكيد أو - إن شئت فقل المذلة - قاموا بلا حياء بمنحي شهادة توضح جرم ما اغترفت أيديهم (أنظر الوثيقة) بتاريخ 8/1/1990 وهو الإجراء الذي أصبح منهجاً وشمل بعض المعارضين. وحينذاك كنت أعمل في صحيفة الوطن الكويتية، وبعد عدة أشهر شاءت (الأقدار السياسية) أن تصبح الكويت نفسها في ذمة الله جراء الغزو العراقي. ومثلت تلك بداية شتات بين العواصم بحثاً عن بلد يحتويني. توقفت في الأردن، وبعد شهور اتضحت لي صعوبة خياري، فيممت وجهي شطر القاهرة فوجدت سابقين توافدوا عليها إثر التفريغ الممنهج للبلاد. بالنظر أن لكل أجل كتاب، فقد انتهت صلاحية الجواز الذي أحمله، ومرة أخرى هيأت (الأقدار السياسية) مخرجاً لمعشر المعارضين الذين واجهوا ذات الظروف الحرجة. تحقق ذلك بهروب الزميل الراحل نجيب الخير - طيب الله ثراه - من سفارة السودان بأثيوبيا حيث كان يشغل منصب القنصل. شاء ألا يغادر خالي الوفاض، فحمل معه أختام القنصلية، ومن باب التفكه أسبغنا عليه لقب قنصل التجمع الوطني الديمقراطي في حكومة المنفى. فأصبحنا نُزوِّر جوازاتنا بأنفسنا. المضحك أن تجديدات جوازي وصلت لاثنتي عشر عاماً، ومع ذلك لم يقل لنا أحدٌ: لقد تجاوز المزورون المدى! ولكن لكل أجل كتاب مرة أخرى، فقد نفدت أوراق جوازي ولم تنفد محنتي. ويومذاك استقريت في منطقة القرن الأفريقي، غير أن ظرفاً صحياً واجهني بعدئذٍ مما سيضطرني للسفر، فشرحت معضلتي للأصدقاء في الجبهة الشعبية الإريترية، فتكرموا عليَّ بجوازهم وشكرتهم على حسن صنيعهم. وبعد عدة سنوات اشتعلت الحرب الثانية بين إرتيريا وأثيوبيا وبعد أن توقفت انعكست آثارها السالبة على الجميع، مما اضطرني لأن أغادر المنطقة عام 2002 بمعية أسرتي بعد أن سلمت أصدقائي هويتهم الثبوتية التي تشرفت بحملها زمناً، ثم قطعت المحيط الأطلسي حاملاً هوية لاجيء صادرة عن المفوضية العليا لشئون اللاجئين، إلى الولايات المتحدة حيث تحوَّلت الصفة لمواطنة! بعدما سردنا (لزوم ما يلزم) كما قال نجيب سرور. يجيء الحديث عن الانتخابات مرة أخرى باقتباس شذرات من مقالي الأول والذي جسَّد مشاعري حيال تجربة جديدة خضت غمارها لأول مرة بعد ما كافحت لأجلها سنين عددا. بأمل أن تكون حافزاً للشباب الثائر صانع ثورة ديسمبر المجيدة، وهو مقبل على تجارب مثلها بعد سنين قليلة، لعلها تكون ملهمة لهم في معالجة قضايا هذا الوطن المرهق. الجدير بالذكر أن التجربة الأولى كانت ماثلة بينما العصبة جاثمة على صدورنا، غير أنه من محاسن الصدف أنها ارتبطت بحدث تاريخي تمثل في فوز باراك أوباما، مثلما منحتني التجربة ذاتها شرف المساهمة في إسقاط نقيضه دونالد ترامب الآن. كما كتبنا بالأمس: (أماكن الاقتراع كما في كل دورة تتسم بالنظام والانضباط التام. ثمة متطوعون كُثر من الجنسين وأعمار مختلفة، يحملونك على أكف الراحة حتى تنجز مهمتك التاريخية على أكمل وجه وتغادر مزهواً وأنت تشعر بالفخر والاعتزاز. عند حلول دوري سألتني سيدة وهي تدقق في بياناتي الشخصية: ما إذا كنت أريد أن أدلي بصوتي الكترونيا أو يدوياً. توهمت أنني أغمي عليَّ، فصمتُّ برهة إذ داهمتني هواجس مخيفة من أثر الحرمان المرير وأفعال الديكتاتوريات. قلت لنفسي دعك من التكنلوجيا الآن وادخرها لشيء آخر، فهذه اللحظة لا تحتمل المخاطرة، هب أن النور انقطع (فجأة) وضاع (صوتك) في أكباد الجهاز العجيب. وأجابني خاطر آخر هذه سذاجة: هل تراهم لم يتحسبوا لطاريء كهذا. وجاء خاطر ثالث وقال: هب أنك استخدمت الورقة والقلم وجاء أحد أصحاب الولاء ممن تنسدل أذقانهم على صدورهم، وخطف ذلك الصندوق وبيديه المتوضئتين شرع فيه خجاً وتزويراً فماذا أنت فاعل؟ قطع صوت السيدة هواجسي وكررت عليَّ السؤال. فقلت لها أريد التصويت اليدوي، وأنا أتمتم بحديث لم تسمعه... أريد أن أشتم رائحة الحبر والورق.. أريد أن أسمع خشخشة القلم على الورق لأشنف بها أذني.. ما أقسى الحرمان!) آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!! عن صحيفة الديمقراطي