صحيفة التيار 15 سبتمبر 2020 ظللت أسأل نفسي لماذا يبقى السعر الرسمي للدولار 55 جنيهًا، في حين ظل سعره يزداد في السوق الموازي حتى تعدى مئتي جنيه؟ ولربما تكون للذين يديرون الاقتصاد، منذ عهد الانقاذ المدحور، وصولاً إلى ما نحن فيه الآن، حكمةٌ اقتصاديةٌ أجهلها. سمعنا قبل شهور أن السعر الحكومي سيرتفع إلى 120 جنيهًا، لكن ذلك بقي نظريًا حتى الآن. أول تساؤلاتي في هذا الصدد: من هم الزبائن المستهدفون بسعر 55 جينها؟ فهل هناك مغتربٌ ينضح وطنيةً يُحضر معه آلاف الدولارات من مغتربه أو مهجره ليذهب بها إلى البنوك وبيعها بالسعر الحكومي، مفضِّلاَ ذلك على سعر السوق الموازي الذي يبلغ ثلاثة أو أربعة أضعاف السعر الحكومي؟ أعرف، مثلاً، أن هذا السعر هو ما تبيع به الحكومة العملة السودانية للمنظمات الطوعية العاملة في السودان وهي مجبرة وهو، أيضًا، ما تحسب به القروض والمنح. ففي حالة التعامل مع المنظمات، جعلت الحكومة من نفسها سارقًا لأموال الضعاف المستهدفين بخدمات المنظمات، الذين ما جاءت المنظمات لمساعدتهم إلا بسبب عجز الحكومة. تأخذ الحكومة جزءًا كبيرًا جدًا من تلك الأموال لنفسها دون وجه حق، لأنها تعلم أن السعر الذي تحسب به غير حقيقي. وقد كانت حكومة الإنقاذ تتكسب من هذا الإجراء على حساب شعبها فتأخذ، أحيانًا، ما يقارب نصف ما تجلبه المنظمات من عملة حرة بهذا السعر الزائف. فتضطر المنظمات إلى تقليص مشاريعها، لأن نصف الميزانية المرصودة لها يضيع عند عتبة الحكومة المُضيفة. كان بنك السودان قبل بضعة عقود يغطي حاجة المستوردين من العملة الأجنبية، وكان حتى بدايات عهد نميري قادرًا على توفير ما يطلبه المستوردون، وفقًا للضوابط والشروط. أيضًا كان يفي بحاجة الطلاب الذين يدرسون في الخارج والمسافرين للعلاج أو السياحة، من العملات الحرة. غير أن ذلك تراجع مع تدهور أحوال البلاد الاقتصادية، حتى وصلنا إلى هذه الحالة العويصة التي نحن فيها اليوم. الآن لا تستطيع الحكومة أن توفر للمستوردين كل ما يطلبون من عملة حرة. فهي ربما تمنحهم جزءًا، لا أعرف نسبته، ثم تتركهم يكملون النقص من السوق الموازي. فبأي منطقٍ، إذن، تحارب الحكومة السوق الموازي وهي معترفةٌ به أصلا؟ ثم، هل هي تحارب مبدأ وجود سوقٍ موازٍ، أم تحارب تخريبًا ممنهجًا، يتعمد رفع سعر الدولار؟ وإذا افترضنا أن الجواب الأخير هو الصحيح، فما هي الكيفية التي تفرق بها الحكومة بين الفعلين، فتغض الطرف عن واحدٍ، وتقوم بمطاردة الآخر وتجريمه؟ يدخل المغتربون السودانيون البلاد عبر المنافذ الرسمية كل يوم، وفي حوزتهم عملاتٍ حرة، لا يسألهم أحد عن مقدارها ولا عن أين سيستبدلونها. بل، إن المسؤولين الحكوميين أنفسهم، يعودون من مهامهم الرسمية خارج البلاد، بمبالغ من العملات الحرة. فهل يا ترى يذهبون لاستبدالها بسعر البنك؟ نحن نعاني من اختلال هيكليٍّ وإداريٍّ وتضاربٍ بالغ الفظاعة في الضوابط الاقتصادية. ما نحتاجه هو أن نوقف هذه الفورات الأمنية المتكررة التي لا تسندها سياسات مالية متسقة. وأن نتجه إلى حلولٍ جذرية مستدامة، قادرة على الصمود؟ هناك سوقٌ موازٍ للعملات الحرة في كل الدول ذات الاقتصادات الضعيفة، لكن الفارق بين سعر السوقين الرسمي والموازي، لا يتعدى عادةً في هذه الدول بضع وحدات، في حين يبلغ الفارق عندنا مئات الوحدات! فبالله عليكم اكشفوا لنا المستور، وأطلعونا على حقيقة مسببات هذا الخلل. ودعونا من زبد حملات العلاقات العامة، الذي لا يلبث أن يذهب جفاء.