لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟! (1) … بقلم: النور حمد

 


 

 

 elnourh@gmail.com

      لا تنطلق الشعوب في دروب النهضة، ما لم تتعرف بعمقٍ، وبسعةٍ، على عناصر تكوينها الحضاري، وتعي ذاتها، وتستجمع طاقات إرثها الروحي، والفكري، والنفسي، وتدفع به في وجهةٍ، جديدةٍ صاعدة نحو المشترك الإنساني الكبير. وأعني هنا، وجهةً تضيئها معرفةٌ بالاشكالات التي تحتوش الحاضر، وتصوراً منفتحاً مرناً، قادراً على رسم هيئة المستقبل. شهدت منطقة وادي النيل الأوسط، والهضبة الحبشية، حضارتين تُعدان من أعظم حضارات التاريخ الإنساني. ولقد تصاقبت هاتان الحضاراتان، وتعاقبتا، في المساق التاريخي الكورنولوجي chronological، تصاقباً وتعاقباً مدهشين. ولا غرابة! فلقد كانت كلا الحضارتين، في شدهما، وجذبهما، حسب تقديري المتواضع، مجرد تحولٍ في مسارٍ حضاري يحكمه، إلى حدٍ كبير، إطارٌ واحدٌ متداخلٌ، متكامل. أو قل، إن حركة الشد والجذب بين هذين الإقليمين المتجاورين، لم تكن سوى تململٍ لقوة واحدة تقسمت، وظلت تحاول إعادة تشكيل ذاتها، وتحريك جسدها، تمدداً، وانكماشاً، حسب رياح التاريخ، وحسب مؤشرات تيارات فرص البقاء. فأهل الحبشة القدامى، أو الأكسوميين، لم يكونوا، في الأصل، كما تقول بعض الروايات التاريخية، سوى هجين. وقد تشكل ذلك الهجين، عن طريق امتزاج دماء متحدثى الكوشية، الذين هاجروا من الصحراء الإفريقية الشمالية، إلى الهضبة الحبشية، بدماء السبأيين، الذي وفدوا إلى نفس الإقليم من جنوب الجزيرة العربية، حوالي 500 قبل الميلاد. ومرت القرون، وأصبحت أكسوم الحبشية، في القرون الميلادية الثلاثة الأولى، نقطة الربط التجاري بين جنوب الجزيرة العربية، وبين نوبيا في وادي النيل الأوسط. غير أن حضارة مروي، في وادي النيل الأوسط، أخذت في الإضمحلال، في القرون الميلادية الثلاثة الأولى. وتقول الروايات إن مروي، وهي تعاني أوجاع الاضمحلال، حاولت غزو أكسوم، فما كان من الأكسوميين إلا أن غزوها، في عقر دارها، وقضوا عليها، وبسطوا سلطانهم على أراضيها الخصبة. وحين جاء الإسلام، بعد ثلاث قرون من إعلان أكسوم نفسها دولةً مسيحية، علي يد ملكها عزانا، أختار النبي، عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، إرسال أتباعه إلى النجاشي، ملك الحبشة آنذاك، حفظاً لمهجهم من بطش سادة قريش. وإنني لأعتبر ما قام به النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، من إرسالٍ لأصحابه إلى الحبشة، وما قاله من كلماتٍ مشرقاتٍ، في حق النجاشي، وما قام به من إقامةٍ لصلاةِ الغائبِ على روحه، حين بلغه نبأ وفاته، تمثل في مجموعها رسالةً بليغةً للمسلمين، وللناس كافةً، عن المعانى الإنسانية الرفيعة، المندغمة في تلك الحضارة، وعن فضلها، وفضل مليكها. فما قاله، وما فعله النبي، في شأن الحبشة، وملكيها الصالح، يتضمن، فيما أرى، رسالةً مستقبليةً، لا تخلو من شيءٍ من التشفير، عن المعنى الإنساني الكبير لتلك الصلة بين معاني الإسلام الجوهرية، الخالدة، وبين الحبشة. وفك تشفير تلك الرسالة، لا يُلتمس، في تقديري، إلا في عالم المعاني المخبوءة وراء حجاب العقيدة. وهي معاني لا يسبر حقيقة أبعادها، إلا الذين اغترفوا من بحار العرفان، وانجابت عن ناظريهم حجب الظلمات، وحجب الأنوار، ورأوا البراح الفسيح، الواقع وراء نطاق العقيدة المحدود، المقيِّد للفهوم، القابض للانطلاق الحضاري.

      لا غرابة إذن، أن بقيت الحبشة بمأمن من الغزو الإسلامي، حين أخذ الإسلام في التمدد في شمال، وشمال شرقي إفريقيا، بُعًيْد القرن السابع الميلادي. وإني لأزعم مع زاعمين آخرين كُثْرٍ، أن السبب وراء عدم غزو المسلمين للحبشة المسيحية، لم يكن بسبب ارتفاع أراضيها، ووعورة مسالكها، وشدة تحصينها، وإنما كان وفاءً من المسلمين لأهلها، نسبةً لإيوائهم، وحمايتهم للمسلمين الأوائل. ونسبةً لإكرام نبي الإسلام لهم، ولمليكهم، على ذلك الصنيع الذي دل على مروءة عالية، وحس ديني عميق. ومن بعض حوادث التاريخ الباعثة على التأمل، في شأن ارتباط الحبشة بالإسلام، أن النبي الكريم قد ولد في عام الفيل، (571م)، في وقتٍ بالغ الحرج في تاريخ مكة. فقد كانت أفيال أبرهة، الملك الحبشي، حينها، واقفةً على أبواب مكة، تبغي هدم الكعبة. ولم يمر نصف قرن من الزمان، حتى كان المسلمون الأوائل مقيمين في الأراضي الحبشية، متسجيرين بحمى الملك الحبشي النجاشي، من بطش بني جلدتهم. أخلص من هذا، إلى أن في جملة الأمر، رحمٌ روحية، قديمة.  هذه الرحم الروحية قديمةٌ قدم سليمان، وبلقيس! ونحن، كمسلمين سودانيين، لم نتفطن بعد، بالقدر الكافي، إلى كل هذا التشابك، والترابط، التاريخي. الشاهد هنا، أن المسلمين حين خرجوا فاتحين الأمصار، تركوا الحبشة وحالها. ومع ذلك، أصبح نصف أهل الحبشة، فيما بعد، مسلمين ! ولا يزال الإسلام، في الحبشة، قوةً حيةً، جبارةً، حتى هذه اللحظة! وإسلام الحبشة إسلامٌ غارفٌ من المعين المصفى الأول، ومتشرباً دفقة النور الأولى، التي لم تشبها شوائب التاريخ الإسلامي المضطرب، الوالغ في دنس السياسة، وفي سفسطات الفقه. فأغلب التاريخ الإسلامي تقطعت أواصر الصلة بينه وبين مدد ذلك النور الأول. وأقوى دليل لدي على اغتراف أسلام الحبشة من دفقة النور الأولى، هو أننا لم نسمع في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المسلمين، أن أحداً من مسلمي الحبشة، على كثرتهم، شارك في تنظيم إرهابي، قاعدةً كان، أم غيرها؟!

      كتبت هذه المقدمة التاريخية المبتسرة، وهذه التأملات المتناثرة، للفت النظر لطبيعة إسلام الحبشة المتميز، جداً. وهو إسلام ظل في الظل، بعيداً عن الهرج الجاري اليوم باسم الإسلام. ثم، للتذكير بالارتباطات التاريخية العميقة، التي وطدت صلات سكان وادي النيل الأوسط، بالهضبة الحبشية. وكذلك ما يجمع بين هذين الإقليمين، من الصلة الموصولة بجزيرة العرب، وبالنور الأول الذي أشع منها في القرن السابع الميلادي، ثم ما لبث أن غاب عن القلوب، وتحول إلى مجرد تمتماتٍ ميتةٍ في الشفاه.  كما أنني قصدت أيضا من كتابة هذه المقدمة، تسليط شيءٍ من الضوء، على ما ظل قائماً بين هذين الإقليمين المتجاورين، (الهضبة، والسهل الذي يقع إلى الشمال الغربي منها)، من حوارٍ حضاريٍ عميقٍ، متشعبِ المسارب والدروب. وهو حوار دخلت فيه شبه الجزيرة العربية، على الخط منذ البداية، كما تقدمت الإشارة. دخلت الجزيرة العربية على الخط، في هذا الحوار التاريخي ذي المدلولات التي لا تزال مغطاةً، مع كلا الجانبين، بعناصر الدم السبئي السامي، وباللغة السامية، وبالدين الإسلامي. فروحانية الحبشة، الإسلامية المسيحية، وروحانية التصوف السوداني، إنما تمثلان في نظري زاداً مستقبلياً هاماً لكيانٍ جيوسياسي، سوف يعيد التكامل إلى هذا الإقليم، منطلقاً من الجوهر الروحاني المشترك.

      لربما كان من المناسب أن أشير هنا، إلى أن الهضبة الحبشية، رغم اتصالها الأقدم بجزيرة العرب، بقيت على لغتها الخاصة بها. وهي لغة تدخل ضمن المجموعة السامية، في حين تحول أهل كوش، رغم اتصالهم الأحدث، نوعاً ما، بجزيرة العرب، من كوشيتهم، إلى اللغة العربية. غير أن هذا الحوار المركب المتشعب، يقع، ضمن غير المنتبه إليه في ما يمكن أن أسميه بـ "النطاق البحثي المتعمق". وأعني تحديداً هنا، مقاربة هذه العلاقة المستشكلة، بآليات بحث من النسق العالي، الذي يستخدم الحقيقة التاريخية، والجغرافية، والإثنية، ويولف مزيجها توليفاً خلاقاً، باستخدام المنهج التأويلي،hermeneutics ، بغية تقصي جذور بنية وعينا، وتركيبتنا الوجدانية، وهويتنا الحضارية المستشكلة المحيرة. ولا أريد أن أغمط الباحثين السودانيين حقهم، في ما قاموا به في هذا الشأن، زاعماً أن لا أحد فعل شيئاً، من قبل، في هذا الصدد. فقد قدم بعض الباحثين السودانيين أعمالاً مقدرةً في هذا الإطار. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الراحل، البروفيسر عبد الله الطيب، والراحل، محمد أبو القاسم حاج حمد، والدكتور حسن مكي، والدكتور يوسف فضل، والدكتور جعفر ميرغني،  والدكتور محمد إبراهيم أبو سليم ، والراحل، الدكتور محمد سعيد القدال. كما وردت عن هذا المنحى إشارات لدى البعض الآخر في إطار دراساتهم، بشكل جزئي، 

 غير أنني أظن أن أرضاً بكراً في هذه الوجهة، لا تزال في انتظار أن نستكشف مجاهيلها. فنحن، في ما يبدو لي، بحاجة إلى العبور من مجرد التعريف بالروابط التاريخية، والتفاعل التاريخي، إلى الحفر العميق الذي يتلمس جذور هذا التشابه بين شعبي الهضبة، والسهل الأوسط من وادي النيل. علينا أن نتأمل ملياً، وبعناية شديدة، سر هذا التقارب الوجداني، والقبول المتبادل، عبر حاجز اللغة ، (كما في حالة المسلمين منهم)، وعبر حاجز اللغة والدين معاً، (كما في في حالة المسيحيين منهم). هذا التقارب الوجداني لم تسطع كل حالات الشد والجذب، بين الحكومات المتعاقبة، في البلدين زعزعته، أو النيل منه. نحن بحاجة إلى حفر تاريخي، وتوليفٍ خلاقٍ يلمس صورة المستقبل المشترك لهذه البقعة الجغرافية، مترابطة العناصر، ومتفككتها، في ذات الوقت. إن عناصر التكامل بين هذين الكيانين، جغرافياً، واقتصادياً، وروحياً، وإثنياً، وسياحياً لبالغة الكثرة، غنية الوعد.

      يواجه الكيان السوداني المسلم، الآن، منعطفاً خطيراً. وأعني هنا، تحديداً أهل السودان الشرقي، والأوسط، والشمالي، والغربي. فالجنوب الجغرافي، ربما يذهب بعيداً عن هذا الكيان، بعد حوالي العام، وربما لايذهب. الشاهد، أننا ظللنا في غيبوبة حضارية، جعلتنا مصوبين أبصارنا نحو الشمال وحده! هذا التحديق الطويل صوب الشمال، قد أخذت طاقته في التناقص، وبدأ مده في الانحسار. على الأقل، يمكن القول إن التساؤلات حول جدواه، أصبحت أكثر بروزاً من أي وقتٍ مضى. فالمطامع في مواردنا، هي الشيء الوحيد الذي نراه، حين نحدق في أفقنا الشمالي. فنحن حين نحدق شمالاً، نرى الأطماع البادية، ولا نرى الجيرة الحنونة، ولا الشراكة النظيفة! ولعلنا خدعنا أنفسنا كثيراً بقضية اللغة والدين، في مستوى المضامين السطحية، المرتبطة بهما. وهي مضامين سطحية تهييجية استخدمتهما "الكلفتة" السياسية لدينا. وهي كلفتةٌ لا يسندها علمٌ، ولا بحثٌ متعمق. ارتكازاً على تلك "الكلفتة" صغنا لأنفسنا هويةً زائفة، وتطلعاتٍ زائفة. وعموماً، أظننا على وشك أن نغلق باب حقبةً أخذت تتولى، ونفتح باب حقبةٍ جديدةٍ، أخذت تتخلق، في مضمار علاقاتنا بدول الجوار. ولعل مشروع كونفدرالية القرن الإفريقي، الذي رفع شعاره، الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد، قد عاد يطل برأسه، هوناً ما، من جديد. هذه الكونفدرالية يمكن أن يلعب فيها السودان دوراً مفتاحياً.

      نمت الهضبة الحبشية من حيث تشكيل الشخصية الحضارية، نمواً شبه مستقلٍ عن العناصر الخارجية. فهي لم تتأثر بالغزاة كثيراً، إذ حصنتها الجغرافيا الوعرة، من جيوش الغزاة، فاتخذوا مساربهم من حولها عابرين إلى غيرها. يضاف إلى ذلك أن للهضبة شخصية حضارية ضاربة في القدم. وتلك الشخصية الحضارية، تتشاركها معظم الشعوب التي قطنت هذا المكان المرتفع الفسيح. هذه الشخصية الحضارية لم تتغير كثيراً، وإنما بقيت محتفظة بسماتها الرئيسية. ولربما كانت الجغرافيا عنصراً من عناصر بقاء الهضبة على ما هي عليه، إلا قليلا. ترتفع الهضبة الحبشية بسبعة آلاف قدمٍ فوق سطح البحر، كما تتسم بوعورة مسالكها. وتمثل الهضبة الحبشية من حيث الشخصية الحضارية المستقلة في إفريقيا، شيئا مشابهاً لما تمثله الصين في القارة الآسيوية، وإن كان تأثر الأراضي الحبشية بالتيارات الحضارية الوافدة، أكبر نسبياً من تأثر الصين. فالعلماء يجمعون على أن الحضارة الصينية، ربما تكون الحضارة الإنسانية الوحيدة، التي نمت من داخلها، مستخدمة أقل قدرٍ ممكنٍ من العناصر الخارجية. وفدت المسيحية إلى الحبشة، بُعيد الميلاد بقليل، ثم لحق بها الإسلام، في القرن السابع. وبمرور القرون، أصبح غالب أهل الحبشة إما مسلمين، وإما مسيحيين. ولكن، في الحياة اليومية الإثيوبية، وفي الحوارى الإثيوبية، يصعب جداً أن يعرف المرء من منهم المسيحي، ومن منهم المسلم. فهم يعيشون متجاورين في البيوت وسط الأحياء، باختلاف طبقاتها، مسلمين، ومسيحيين، متداخلين مع بعضهم بعضاً، في بساطةٍ شديدة. بل هم يتزاوجون فيما بينهم. والطريف أن تعدد الزوجات غير شائعٍ وسط المسلمين من الأحباش!! وفي تقديري أن أهل الحبشة ألبسوا كلاً من الإسلام والمسيحية، شيئاً من نسيج شخصيتهم الحضارية، المتميزة، فجعلوا من كلي المسيحية، والإسلام شقاً لا غنى عنه في قوام شخصيتهم الحضارية الكلية، كقوميةٍ واحدةٍ لها أكثر من مكوِّنٍ، وأكثر من خاصية. وفي حين ظل مسلمو الأحباش، ومسيحيوهم، متعايشين في سلامٍ، إلى حدٍّ كبير، نجد أن الثورة المهدية، حين انتصرت في السودان، استهدفت بلادهم برمتها، بوصفها أرض كفر!! وحملت السيف في وجوههم، رغم أنهم قابلوها في بداية الأمر باللين، بل وعرضوا عليها التحالف لمواجهة الغازين الأوربيين، الذين كانوا يقفون على الأبواب، طامعين في ابتلاع القطرين. (راجع كتاب الدكتور محمد سعيد القدال: المهدية والحبشة، دراسة في السياسة الداخلية والخارجية لدولة المهدية "1881م-1898م. الصادر عن دار الجيل ببيروت عام 1992م)،  وفي نهاية المطاف، ذهبت المهدية من المشهد السياسي لأواخر القرن التاسع عشر، وانحسر ظلها الديني، وبقيت الشخصية الحضارية للشعوب الحبشية، على ما هي عليه.

      يسير العالم نحو الوحدة، سيراً حثيثاً. والذي لا يرى سير العالم نحو الوحدة، إنما هو الشخص الغافل عن رؤية مسارات تيارات الكوسموس. وتيارات الكوسموس ليست سوى القوى الكونية، التي تمثل في تجلياتها في حيز الزمان، والمكان، اليد الظاهرة للقوى الإلهية. وهي قوىً تعمل بالقهر الإرادي، ولا تملك إرادة العقول الصغيرة المحبة للتشظي، وقف سعيها الموكل بالتوليف، وبتذويب الخلافات، وبخلق الاتساق، والتناعم. فالوحدة مضروبة على هذا العالم المتشظي، رضي بعض المشككيين في حتمية الوحدة، أم أبوا. والوحدة الكلية، إنما تبدأ بالتكامل الداخلي لكل قطر، ثم التكامل الإقليمي بين المتشابه من الأقطار، ثم يزداد التشابه، ويتسع المشرك، وتكبر الأقاليم، حتى تندغم مع بعضها بعضا، وتتخلق الشخصية العالمية التي تجسد الوحدة والتنوع في آن معا، وتحدث الوحدة الكبرى. وما من شك أن الأقاليم الجغرافية، والأقاليم الروحانية، تتكامل، وبيننا وبين إثيوبيا تكامل روحي، وحضاري، واقتصادي، وبيئي.

      من نظرة عابرة للهضبةٍ والسهل المنخفض، المجاور لها، الذي تطل عليه من ارتفاع يصل إلى سبعة آلاف قدم، تتضح معالم التكامل. فما نراه مجرد سمات منعزلةٍ، تخص كل إقليمٍ، أو كل قطرٍ، على حده، ليست واقعةً، في حقيقة أمرها، ضمن هذا الإطار المضلل الذي نراه فيها، وإنما هي واقعة، في حقيقة أمرها، في تيارات الحراك الكلي الذي يعمل على التوحيد، ببطء، ولكن بكل تأكيدslowly, but surely. . إن الذي يعوز أحد أي إقليم من الأقاليم، ويكون متوفراً في الإقليم الآخر المجاور، إنما يمثل، في حقيقة الأمر، عنصراً من الترابط والتكامل المستقبلي بين الإقليمين. فإنسان الهضبة الحبشية، وإنسان سهل النيل الأوسط، هما في حقيقتهما إنسان واحد ضاع بعضه عن البعض الآخر! فهما منسجمان وراء حاجز اللغة وحاجز العقيدة (كما في حالة المسيحيين)، وكذلك وراء حاجز القومية. إن التشابه الحسي، والوجداني بين إنسانيْ هذين الإقليمين ليس صدفةً. ولقد أشار الطيب صالح، في رائعته موسم الهجرة إلى الشمال إلى التباين بين الأقاليم الجغرافية، حين يتسم كل إقليم بسمات متطرفة. تساءل الطيب صالح على لسان الراوي: (أين الاعتدال؟!)، فهناك (بلاد تموت من البرد حيتانها)، وهناك (صحارى تتعاور رمالها ويجف فيها حلق العندليب)!! هذا التباين المتعلق باختلاف الطقس، الذي يجعل ساكن إقليمٍ بعينه منجذباً نحو إقليم آخر، ومناخٍ آخر، لا يمثل سوى عنصر واحد من عناصر التكامل بين بقاع الأرض المختلفة. وقياساً على هذا، فإن رحلة الشتاء والصيف بين قلب الجزيرة العربية والشام، واليمن، لم تكن رحلة تجارية، كما تبدو من ظاهر الفعل، وإنما هي رحلة متعددة الطبقات، تصاقبها رحلات أخرى باطنية،منها الجمالي، والروحي، والشعري. وكل هذا مرتبطٌ بتكامل الأمكنة، وبانجذاب الأقاليم إلى بعضها، وبتكامل الوجدان الإنساني والتجربة الإنسانية. ويمكننا أن نقيس على ذلك، أموراً أخرى كثيرة في حراك التكامل الذي لم يبطئ إيقاعه سوى جشع بني الإنسان وجهالاتهم . (يتواصل).

 

آراء