لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (4) … بقلم: د. النور حمد
10 May, 2010
elnourh@gmail.com
السياحة والتعليم:
الذين تحدثوا من الأقدمين، عن فوائد الأسفار، كانوا أهل بصيرة. لابد أن نُقِرُّ لهم بذلك، وإن اختلفنا معهم في تعديدهم لتلك الفوائد. وعموماً فإن ((لكل وقتٍ ومقامٍ حال، ولكل زمانٍ وأوانٍ رجال))، كما يروي أهلنا الأنصار، عن الإمام محمد أحمد المهدي، وعن من سبقه من الأقدمين، ممن نحتوا ما يشابه هذه القولة، ومنهم الشاعر الحطيئة، الذي قال: ((تحنَّن عليَّ هَداك المَليكُ/ فإنَّ لكلِّ مَقامٍ مَقـالا/ ولا تأخذَنِّي بقولِ الوشاةِ/ فإن لكلِّ زمانٍ رجالا)). وعموماً تمثل الأسفار تمثل واحدةً من أهم وسائل التعليم. فهي تسهم في التعليم، ربما بأكثر مما يسهم به أي أسلوبٍ آخر، خاصة لدى الفئة التي تسميها البيداقوجيات pedagogies التعليمية الحديثة، بالمتعلمين البصريين visual learners. فبعض الناس يتعلم بحاسة البصر، بأكثر مما يتعلم بحاسة السمع، والعكس بالعكس. وعموما فإن التعليم الذي يتنقل فيه التلميذ من كرسي إلى كرسي، ومن حجرة إلى حجرة، منذ سني الطفولة الباكرة، وحتى العشرينات من العمر، أصبحت قيمته في خلق إنسانٍ متكامل المعارف، متكامل الشخصية، محل تساؤلٍ كبيرٍ، الآن. ورحم الله عبقري الشعر الفرنسي، جان آرثر رامبو، الذي حين بلغ العاشرة كتب على سبورة الفصل: ((ليس من الخير أن نُبلي سراويلنا على مقاعد الدرس!!)). وهجر رامبو المدرسة، ولم يعد إليها، منذ تلك السن الباكرة. وحين بلغ رامبو السادسة عشرة، كتب شعراً حير العالم، ولا يزال. وبسبب عبقريته الاستثنائية، تشرد رامبو وعاش حياة مأساوية قصيرة، إذ مات وهو في السابعة والثلاثينٍ. وتسمي أدبيات التعليم المعاصرة، هؤلاء العباقرة الاستثنائيين، بالـ prodigies. الطريف، بما أنني في معرض التفكر في شأن هذا الكيان التاريخي العتيق، المسمى أثيوبيا، فلربما يكون من المناسب أن أذكر، أن رامبو الذي صمت عن قول الشعر قبل أن يبلغ سن العشرين، ترك فرنسا، ليشتغل بالتجارة. ودخل في مغامراتٍ تجارية مع القوافل المتنقلة بين اليمن وإقليم هرر الإثيوبي. وكما يقولون، فإن الشيء بالشيء يذكر!
السياحة، بمعنى الطواف في البلدان، وما هو أقل منها، فيما يسمى في الأوساط التعليمية بـ "الرحلة الحقلية" field trip، التي يؤخذ لها أطفال المدارس، تمنح من يقوم بها، ما يسميه عالم التربية الفنية المرموق، فيكتور لوينفيلد بـ "التجربة الحواسِّية" sensory experience. فالإنسان لا يتعلم بحاسةٍ واحدة، وإنما بجميع حواسه مجتمعةً. وكلما اشتملت التجربة التعليمية على مخاطبة أكثر من حاسة، واستخدم فيه المتعلم أكثر من حاسة، كلما كانت تجربة التعلم أكثر إمتاعاً، وكلما كانت الحصيلة المعرفية أشمل، وأعمق، وأرسخ. ولذلك، لا غرابة، أن عُرفت "السياحة" وسط المتصوفة، كنهجٍ مجرَّبٍ في التعلُّم العميق، الذي ترسخ مُخرجاته، ولا تتبخر في الهواء، كسائر تجارب التعلم السطحية. كما أن السياحة، لدى المتصوفة، تمثل، أيضاً، أسلوباً من أساليب تطهير الذات، واكتساب عمق الرؤية، وسعتها، وصفائها. فهي نهجٌ جربه العارفون منذ قديم الأزمنة وجنوا منه من الثمار أطيبها. وعلى سبيل المثال، فإن جدي الأكبر، الشيخ ننَّة الترابي، الشقيق الأكبر للشيخ حمد الترابي، الذي تتلمذ على يدي ابن خالته، الشيخ دفع الله العركي، ضمن من جرت تسميتهم بـ "رجال الضحوة"، ساح عقب إكماله التتلمذ، على الشيخ دفع الله. وتقول الروايات الشفاهية إنه سار بمحاذاة النيل الأزرق، صوب المنبع، حتى توغل في الأراضي الإثيوبية. ويقول أهلنا أنه بلغ جهة (بيلا)، ولعلهم يعنون (لاليبيلا)، الحاضرة الدينية الإثيوبية العتيدة. وتقول نفس تلك الروايات، أنه عاش لسنوات طوال، في البرية، مبتعداً بنفسه عن الناس. وعندما أيقن، أن أمر نفسه، قد استقام له، كما يحب، عاد راجعاً، وأسس بقعته المعروفة في منطقة ود الترابي، شمال غرب مدينة الكاملين الحالية. أيضاً، فيما يخص السياحة، كنهج تعبدي صوفي، نقل بعض قدامى الجمهوريين، عن الأستاذ محمود محمد طه، أنه قال: إن غالب الأولياء من أهل الشام، كسبوا ولاياتهم بالسياحة، وكسب غالب الأولياء من المصريين ولاياتهم بالعلم، أما غالب الأولياء من السودانيين، فقد كسبوا ولاياتهم بالكرم. وبطبيعة الحال، فإن الاستثناءات قائمةٌ، في الفئات الثلاث المذكورة. فالسمة العامة في كل فئةٍ تم ذكرها، لا تنطبق بالضرورة على كل أفراد الفئةٍ، تمام الانطباق.
روح المكان:
المكان لا يُرى وحسب، وإنما يُري، ويُشم، ويُسمع، وُيلمس، وقيل يُذاق. بل إن من يمتلك قدراً، ولو ضئيلاً، مما يسمى بالحاسة السادسة، أو الحاسة السابعة، فيمكنه سبر غور روح المكان، في هذين البعدين أيضاً!! وبالنسبة لي، فإنني كلما أوشكت على ولوج بلدٍ جديدٍ، أحس بأن حواسي قد أخذت تحتشد، وترهف. فيتلبَّسني إحساسٌ، كالإحساس الذي يعتريك وأنت تدخل على معبدٍ، أو ضريح. فالمكان، على التحقيق، ليس جسداً، أو كياناً متعيناً، وحسب، وإنما هو جسدٌ متعينٌ (مُمَعْنَنٌ)، أي، متشربٌ بالمعنى، ومحشوٌ به. بل إن روح المكان، ربما طالعت القادم الجديد، المتنبه الحواس، وخاطبته، قبل أن تخاطبه هيئته. ومن الأقوال العرفانية البديعة، في هذا الصدد، ما قاله الأستاذ محمود محمد طه؛ وهو أن البيئة التي نعيش فيها، بيئةٌ روحيةٌ، ذاتُ مظهرٍ مادي! هذا النوع من الرؤية للبيئة شائع جداً وسط قبائل الهنود الحمر، كقبيلة الأباتشي المعروفة. وقد ناقش ذلك بشكلٍ شيِّقٍ، الكاتب، كيث باسو، في كتابه، Wisdom Sits in Places. مثل هذه الرؤية التي تربط الحس ربطاً عضوياً بالمعنى، وتربط التعيٌّنات المادية بأقانيم الروح، تنقل إدراك حواسنا للمحيط الذي يضمنا، من تسطيح الإدراك الكمي، quantitative إلى عمق الإدراك الكيفي، qualitative.
يدخل المرء البلدان الجديدة، وهو مستصحب معه ما عرفه عنها، من إرثٍ حضاري، ومن تاريخٍ، ومن ثقافة. وأثيوبيا من البلاد التي تضرب جذورها عميقاً في تربة القدم. وينطبق عليها هذا، من حيث تاريخ نشأة البشر على ظهر هذا الكوكب، ومن حيث اعتناقها لديانة التوحيد، واحتضانها للتقاليد الإبراهيمية. فقد تفاعلت إثيوبيا مع اليهودية، فيما جري بين سليمان وبلقيس، وربما ما هو سابقٌ لذلك. فالروايات تقول إن تكوين إثيوبيا العرقي، مرتبطٌ بهجرة الصابئة، في الألفية السابقة لميلاد السيد المسيح. ولابد هنا من تأمل الآية القرآنية القائلة: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ، وَالَّذِينَ هَادُواْ، وَالصَّابِئونَ، وَالنَّصَارَى، مَنْ آمَنَ بِاللّهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وعَمِلَ صَالِحًا، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)). تحمل هذه الآية، إشارةً شديدةَ الوضوح، إلى فضاء التعايش الإسلامي الفسيح، الذي يمتد وراء تخوم العقيدة الجامدة. فالحبشة تمثل في كليتها جماع تقاليد ديانات التوحيد. فهي قد تجذرت دماً، وروحانيةً، في هجرة الصابئة إليها، من جنوب الجزيرة العربية، واليمن، عبر باب المندب. كما تهودت عقيدةً، عقب ذلك، هوناً ما، في عصر سليمان بن داؤد عليه السلام، الذي تزوج بلقيس الحبشية، وأولدها منليك، الذي زار أباه في القدس، وعاد من زيارته تلك بالألواح، حسب الروايات الأثيوبية. أما حين جاءت المسيحية، فإن أول مملكة أعلنت مسيحيتها في العالم، على إطلاق العبارة، إنما هي مملكة أكسوم الحبشية. بل إن أكسوم سبقت الإمبراطورية الرومانية في التمسُّح! ففي الوقت الذي تم فيه تتويج الملك عزانا ملكاً مسيحياً، لأول مرة في تاريخ الحبشة، بل في تاريخ العالم كله، في العام 340م، نجد أن الإمبراطورية الرومانية كانت غارقةً، حينها، حتى أذنيها، في اضطهاد المسيحيين. ولم تصبح الإمبراطورية الرومانية، إمبراطوريةً، مسيحيةً، إلا بعد العام 380م. ولا غرابة أن التجأ المسلمون الأوائل إلى الحبشة، هرباً من اضهاد القرشينن. ولا غرابة أن اختارها النبي لأتباعه دون بلاد الأرض، حين قال لهم: ((أخرجوا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكٌ لا يُظلم عنده أحد)).
باختصارٍ شديد، دخلت إلى أثيوبيا مستصحباً هذا التراث الذاخر، بكل ما فيه من دلالاتٍ على شخصيتها التاريخية الفريدة. ولذلك، لم أملك حين دخلتها، سوى أن أستشعر خشوع من يدخل معبداً، إنسانياً، قديماً. ولقد جرى مني ذلك، بشكلٍ تلقائي، خلا من أي تَصَنُّعٍ، وأي تَعَمُّلٍ. فأثيوبيا فضاءٌ روحانيٌ، ظل حاضناً للكثير من المعاني النفيسة، لثلاث ألفيات كاملة. ولذلك، فإن آخر ما شغلني، حين دخلتها، كونها كيانٍاً، سياسياً، معاصراً، مجاوراً لنا. هذا، مع أهمية الاعتبارات السياسية، في علاقتنا نحن السودانيين بهذا الكيان المجاور.
شروق شمس الحضارات القديمة:
خلقت حقبة الحداثة معايير خاطئة للقيمة. فالحضارة الغربية المادية، ألبست سائر القيم، ثوباً مادياً. ولقد اشترت كثير من شعوب الأرض، من الغربيين ذلك المفهوم الخاطئ. ولذلك، فقد تحولت القيمة، على ظهر هذا الكوكب، بشكلٍ عام، من ما ينطوي عليه المرء، من نبيل المسلك، ومن سعة الفكر وعمقه، وسعة الشعور وعمقه، لتنحصر في مجرد ما يملك؛ حتى بلغ أن قال البعض: (اخبرني كم تملك، أخبرك من أنت!!). فلربما تعين علينا أن نعرف، أن الفقر، ليس شراً كله. ولو كان الفقر شراً مطلقاً، لما اختار خير الخلق، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، عيشة الفقر. فهو القائل: (خُيِّرتُ بين أن أكون نبياً ملكاً، وبين أن أكون نبياً عبداً، فاخترت أن أكون نبياً عبداً)!! وبطبيعة الحال، فإن الدعوة هنا، ليست للإبقاء على الفقر، أو دعوة الأفراد للركون لقبضته. وإنما الدعوة هنا، وبالتحديد، للاعتدال. سمعت الأستاذ محمود محمد طه يقول: ((الزهد لا يعني ألا تملك، وإنما يعني أن تملك، ولكن، بشرط ألا يملكك ما تملك!!)). الشاهد، أن الأثيوبيون فقراء، ونحن، أيضاً، فقراء. ومع الفقر، كانت للإثيوبيين فضائلهم، كما كانت لنا نحن، أيضاً، فضائلنا. والغربيون، في عموم حالهم، لا يعرفون الفضيلة مع الفقر. فحيث يوجد الفقر لديهم، توجد الجريمة. أما نحن، فيما أزعم، فإن ذلك لا ينطبق علينا، إلا في نطاقٍ ضيقٍ جداً. بل إن الفضيلة لدينا لربما، لازمت الفقر، بأكثر مما لازمت الغنى. وهذا، في تقديري، مبحثٌ جديرٌ بالاهتمام. فهناك من الشعوب ما لا يشوه أفرادها الفقر، ولا يطمس فطرتهم. وهناك من الشعوب، ما يشوه أفرادها الفقر، أبلغ تشويه، ويطمس فطرتهم، أبشع طمس. وأني لمن الزاعمين، أن المدنية الجديدة، المرتجاة، سوف تحمل راياتها شعوب الحضارات القديمة، مع فقر هذه الشعوب البادي الآن، ومع تخلفها عن ركب التصنيع، والتقنية. وأظن أن الوقت الذي سوف تُسلم فيه الشعوب، ذوات التاريخ الحديث، الراية، للشعوب ذوات التاريخ القديم، قد دنا دنواً كبيراً. فالبناء النفسي المتماسك، لإنسان الحضارات القديمة، فيما أرى، هو الكنز الذي ادخرته يد العناية الإلهية، أو قل، تيارات الكوسموس الخفية، التي تمر في بنية الكون، مر السحاب، لتنقل هذه الحضارة المادية الضخمة، من مجرد التحضر، إلى التمدن. هذا التماسك النفسي، أو قل، الصحة النفسية، التي بقي معدنها مجلوَّاً لدى شعوب الحضارات القديمة، رغم الفقر، والتي لم تلو فطرتها قلة الحيلة، هي الذخيرة المدخرة، التي سوف تُخرج بها البشرية المعاصرة، من هذا المطب النفساني، العويص، الذي أوقعها فيه فكر الحداثة الأوروبي، ونظرته المادية المحدودة. فعلم النفس المعاصر الذي تأسس على أحادية النظرة المادية، علمٌ ضالٌ ومضللٌ، وقد تميز بمحدوديةٍ شديدةٍ، في إدراكه للذات الإنسانية. فالذات الإنسانية ذات "غميسة"، ملفوفة بغلالاتٍ عديدة من أقدس الأسرار.
هناك حكمة "مرحلية" وراء فقر الشعوب الفقيرة، ووراء عوزهم، وقلة حيلتهم. ويحب ألا تخفى علينا تلك الحكمة. فهذه الشعوب الفقيرة مدخرةٌ لرسم صور الغد. فالفقر يعلِّم، والفقر يقود إلى الالتصاق بالله، في حين يقود الغنى إلى الاستغناء، ومن ثم، وإلى الغفلة المطبقة. فتجربة الفقر الطويل، وتجربة التهميش، أبقيتا على الموروث الروحاني المتراكم من سوالف الحقب، في شعوب الحضارات القديمة، التي أفلت شمس حضاراتها من قرون، وقرون. كما مخضتا في تلك الشعوب صحةً نفسيةً، لم تنل منها تشوهات النظرة المادية، إلا في حدودٍ ضيقةٍ جداً. هذه الصحة النفسية هي أس الرجاء في بناء المدنية الجديدة. قال الطيب صالح، عليه رضوان الله، على لسان راويته المبصر، في "موسم الهجرة إلى الشمال": ((نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوربي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي، أحس بالغنى!!)). وكتب الأستاذ محمود محمد طه، عقب خروجه من خلوته، في أوائل خمسينيات القرن الماضي، وهو يرد على الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا، في صحيفة "الشعب" في 27 يناير 1951، ما نصه: ((أنا زعيمٌ بأن الإسلام هو قبلة العالم، منذ اليوم، وأن القرآنَ هو قانونُه، وأن السودانَ إذ يقدم ذلك القانونَ في صورتهِ العمليةِ، المحققة لحاجةِ الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجةِ الجماعة إلى الأمن، لهو مركزُ دائرةُ الوجودِ على هذا الكوكب. ولا يَهُوْلَنَّ أحداً هذا القولُ، لكون السودان جاهلاً، خاملاً، صغيراً، فإن عنايةَ اللهِ، قد حفظت على أهلِهِ، من أصائلِ الطبائعِ، ما سيجعلهم نقطةَ التقاءِ الأرضِ بأسباب السماء!!)). أما المفكر العراقي الراحل، هادي العلوي، الذي عاش سنين طويلة في الصين، دارساً لغاتها، ومتأملاً إرثها الروحاني التاوي، والكونفوشيوسي، العريق، فقد ذكر، أن ماضي الصين الروحاني العتيد، هو الذي يرسم لها الآن صورة مستقبلها. وأخلص من كل ما تقدم إلى أننا بحاجة للنظر في الميراث الروحاني الغني الذي يربطننا بجيراننا شرقاً، وجنوباً، وغرباً. لقد آن الأوان لكي نعيد النظر في هذه القبلة الشمالية التي اتخذناها. إن القبلة الشمالية التي اتخذناها في القرنين الماضيين، قبلة ضعيفة الصلة بجذورنا الاثنية، والروحانية، والحضارية. بل هي ضعيفة الصلة بجوهر الإسلام، وروح رسالته الخالدة. إنها ببساطة، قبلة القشور، التي لا تسمن، ولا تغني من جوع. هذه القبلة لن تفعل شيئا، سوى أن تؤخر سعينا لإعادة اكتشاف ذواتنا الضائعة. فنحن، في نهايات تهينا الروحاني، والمادي، أيضاً، اختزلنا عقيدتنا في التجليات السطحية للتدين، التي يمثلها الفقه المدرسي الدخيل. ومن ينظر في هذه الوجهة، لن يرى غير الأزهر، وما تجذر في أفقه المعرفي المحدود، من حركاتٍ كحركات الإخوان المسلمين بكل تفرعاتها، وما شاكلها. أما من ينظر إلى جوهر المشهد الروحاني الإسلامي، الإبراهيمي، العيسوي، الأحمدي، في أفقه الفسيح، فإن عالما طازجاً، بهياً، واعداً، سوف تنفتح له أبوابه. فلندر الدفة، عن هذه القبلة الشمالية العقيم، لنجد كنزنا، وذواتنا، التي أضعناها في تيهنا الروحي الطويل، الذي فاق تيه بني إسرائيل. (يتواصل).