لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (5) …. بقلم: د. النور حمد
17 May, 2010
elnourh@gmail.com
التيه:
أزعم أن واحدةً من مشاكلنا الكبيرة، نحن السودانيين، التي لم تجد انتباهاً كافياً، هو أننا تحولنا، في مرحلة متأخرة جداً من تاريخنا الحضاري الطويل، من "الروحانية"، إلى "الفقه". أو قل، من تماسك الشخصية الحضارية، إلى انمساخها، وانمحاقها. ويمكنك أيضاً أن تقول، إننا تحولنا من "الممعنن"، في حياتنا (من كلمة "معنى")، إلى "المشكلن"، (من كلمة "شكل"). يفرق الغربيون، تفريقاً دقيقاً، بين الدين المؤسسي، وبين الروحانية. ولذلك تسمع من بعضهم قوله: (I am spiritual, but I am not religious)، أي، (أنا "روحاني"، ولكنني لست تابعاً لدينٍ مؤسسي). فالدين المؤسسي، لا يمثل بالضرورة، جوهر ما دعت إليه السماء، كما في اليهودية، والمسيحية، والإسلام، على سبيل المثال. والدين المؤسسي، في غالب حاله ـ وليس في كل أحواله، بطبيعة الحال ـ ذو صلةٍ ضعيفةٍ بالروحانية. ولو نظرنا إلى الدين بعد أن تحول إلى مؤسسة تابعة للحاكم، كما في الإمبراطورية الرومانية، وكما في الإمبراطورية الإسلامية، في كل عصورها، منذ العصر الأموي، وحتى نهاية الإمبراطورية العثمانية، نجده لم يكن أكثر من مجرد صنيعةٍ للسلطة الحاكمة. فسدنة الدين المؤسسي، حيث وُجد، كانوا مجرد فقهاء للسلطان، أو للبلاط. وفي سودان الحقبة التركية، أسمى الإمام محمد أحمد المهدي، (1844م-1885م)، سدنة الدين المؤسسي، في واحدةٍ من غضباته المضرية، بـ (علماء السوء). ولقد كان الإمام المهدي، محقاً، كل الحق، في غضبته تلك! هذا، حتى إن لم نسلِّم له بمهديته المطلقة، التي ادعاها، والتي يراها قد جبت كل ما عداها. ففي الوقت الذي انحاز فيه لدعوة المهدي، الجمهور العريض، الذي عانى من الاضطهاد المصري التركي، (1821م-1885م)، ومن ضرائبٍه التي ينوء بثقلها الكاهل، وسياطه التي تلهب الظهور، وقططه التي تُحبس داخل السراويل، اختارت الطبقة المتفيقهة، رغم كل تلك المظالم الفادحة، ورغم كل الضيم الذي لحق بالسودانيين، أن تقف إلى جانب الحاكم الوافد، مؤثرة سلامة نفسها، وسلامة امتيازاتها الوظيفية!!
الشاهد، أن الفقهاء من هذا النوع يحتلون وظيفةً ديوانية، شأنها شأن أي وظيفية ديوانية أخرى، من حيث تبعيتها للسلطة المركزية. ولذلك فهم يتلقون رواتب، أو أعطياتٍ، راتبةً، من الحاكم. هذه الرواتب، والأعطيات، لا تُمنح لهم إلا لقاء قبولهم وضع أنفسهم تحت إمرة الحاكم، جاعلين من أنفسهم ذراعاً له، تسوغ للناس حاكميته، وتشرعنها لهم، وتُعطيها سنداً إلهياً، مهما كان حال تلك الحاكمية من الضلال، ومن الفساد، ومن مخالفتها لروح التدين. هذا النوع من الفقهاء "الحشويين"، كما يسميهم وجيه كوثراني، منتشرون في سائر أرجاء العالم الإسلامي. وأمر هؤلاء من حيث التبعية للحاكم، والتفريط في روح التدين، ومجانفة جوهر قيمه، لا يحتاج إلى إجلاء، فهو أجلى، وأسطع، من الشمس في رابعة النهار. ولم تكن ثورة أوروبا على الكنيسة، وتأسيسها للفصل بين السلطتين الدينية والدنيوية، سوى إنهاء لعهود طويلة من الاستبداد الديني والمظالم التي بلغ سيلها الزبا. ونحن هنا لا يهمنا النعي على سدنة الدين المؤسسي لدينا، بقدر ما يهمنا أن نبين أن روحانيتنا، نحن سودانيي الوسط والشمال النيلي، التي تجذرت في حقبٍ قديمةٍ، ترجع إلى أكثر من أربع ألفيات، قد حرفها عن مسار تطورها، وأطفأ شعلتها الوهاجة، الفقه المدرسي الوافد، وسلطة رجل الدين "المحترف"، المستتبع للسلطة الحاكمة. أن ما يعتري حياتنا اليوم، من تردي مضطرد، ومن ضمورٍ في العقول، ومنً تراجع في الفهوم، يزداد يوما بعد يوم، ومن جنوحٍ صبياني لنكران سوء الحال القائم، ومراءٍ أجوف حول سواد المنقلب الذي يتهدد وجودنا ذاته، لأكبر تجسيد لفشلنا الحضاري، وأكبر دليل على انطفاء وقدة المبادرات الإحيائية في بنية وعينا. فنحن قد تهنا في منذ قرون عن جذورنا الحضارية، وعن شخصيتنا الثقافية، التي تميزنا وأصبح سقفنا العقلي، وسقفنا الوجداني، لا يتعدى سقف هذا الفقه المدرسي القروسطي المحدود.
حين وفد المتصوفة إلى السودان ـ وهم أول من قدم الإسلام لسودانيي الوسط والشمال النيلي، بشكلٍ مرنٍ، معمقٍ ومستفيض ـ رأوا ملامح الروحانية الموروثة، من الحقب السابقة لمجيئهم، وهي النبتية، والمروية، والمسيحية، وما كان وظل قائما من كريم المعتقدات في الديانات المحلية. واستبانوا، بحاستهم التي تلم، وتستوعب، ولا تُقصي، inclusive ، جوهرية قيمها، وتماهيها مع جوهر روح الإسلام. ولذلك لم يقم المتصوفة بانقلابات راديكالية في وعي من حلوا بين ظهرانيهم، وإنما اختاروا أن يتخلل روح التصوف الشفيف، مجتمعات الوسط والشمال النيلي، في رفقٍ، لا صدمةَ فيه، ولا إرباك. ولذلك، فقد تخللت روح التصوف حياة الناس، وسرت في بنية وعيهم، وممارساتهم، كما تسري نسائم الفجر الوادعة، وسط أعواد حقل القمح. لم ينكر المتصوفة على المجتمعات التي وفدوا إليها، أو نشأوا فيها، أنشطتها الثقافية، وإنما استوعبوا طقوس، وموسيقى، وإيقاعات، ورقصات، تلك المجتمعات، وجعلوها جزءاً من شعائر الطريقة، وأذكارها، وتراتيلها. غير أن الغزو التركي الذي قضى على سلطنة الفونج، رجح كفة الفقه على كفة التصوف، وجاء من بعدهم الإنجليز، الذين أرتهم الثورة المهدية وجهاً مقاتلاً، شرساً، لم يعهدوه في التصوف، فساروا على نفس درب الأتراك في إضعاف البيوتات الصوفية، وتقوية المؤسسة الفقهية الرسمية، المؤتمرة بأمر الحاكم. واستمر ذلك الانقلاب، مواصلاً تحوير بنية وعينا، معيداً عجن وتشكيل ثقافتنا، حتى مات ما تبقى من شخصيتنا الحضارية. انطفأت الوقدة، وابتلعنا تيه الغربة عن الذات. وحين أخذ أمر حكم البلاد يؤول إلى طلائع مثقفينا، قُبيل منتصف القرن العشرين، لم يكن يملكون في مجال الرؤية سوى "رزق اليوم باليوم". ولذلك فقد جروا البلاد بكل ثقافاتها، وكل تنوعها، وكل ثرائها، وحشروها في "كستبانة" الفقه العثماني، والتعليم المصري الاستعماري، الذي غيبهم عن تاريخهم، وقتل فيهم احترامهم لذواتهم، وثقتهم في أنفسهم، وأمات فيهم القدرة على النظر في جوهر ثقافتهم، واستنطاقها، وإعادة تفعيلها في بوتقةٍ، كليةٍ، تزاوج بين الروح الإيجابي في تاريخنا، وبين روح المعاصرة، دستوراً، وقانوناً، ونظامَ حكمٍ، وتنميةً، وتكافلاً اجتماعياً، وتعليماً، وثقافةً، وإدارة. فكل ما نحن فيه الآن، من عجز مريع، تلبس كل جوانب إدارتنا لشؤون حياتنا، وترتيبنا لأولوياتنا، ورسمنا لتحالفاتنا، ليس سوى انعكاسٍ لحالة التيه هذه. ولو نظرنا لموقفنا الأخير، مما ثار حول مياه النيل، في الأيام القليلة الماضية، وإلى اندغام موقفنا في بطن الموقف المصري، دون كبير فرز، لوضح لنا مبلغ الهوان الذي بلغناه، في تيهنا الطويل هذا. فنحن، نترك موقفنا ليندغم بالكلية، في بطن الموقف المصري، رغم أن مصر ظلت تستولي على حقوقنا نحن أيضاً في مياه النيل، وتفرض علينا استئذانها، في ما ينبغي أن نفعله، وما لا نفعله فيما يخص تنمية بلدنا! وأسوأ من ذلك، أن مصر قضمت، في صمتٍ، وبهدوء، جزءاً من أرض بلادنا، ووضعت يدها عليها، عنوة! ومع ذلك، لا ننفك نترنم: ((مصرُ يا أختَ بلادي يا شقيقة))!!
(إس كيو) الذكاء الروحيSQ, Spiritual Quotient
نشطت في الدوائر الأكاديمية، في مجالات علم النفس، وعلم التربية، في العقود الثلاثة الأخيرة، في الدراسات المتعلقة بظاهرة الإدراك cognition، المقاربات التي تمركزت، حول ما يسمى بـ "الذكاء الروحي". فما أن خرج البروفيسور هاوراد غاردنر، من جامعة هارفرد، العتيدة، بنظريته المسماة: (نظرية الذكاءات المتعددة)، في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، حتى ألهمت استنتاجاته التي خرج بها، من بحوثه المطولة، المعمقة، الموسعة، علماء آخرين، فدفعوا بجهوده نحو آفاقٍ، أبعد، وأعمق. وتتلخص نظرية هوارد غاردنر أنه لا يوجد ذكاءٌ واحدُ يمكن قياسه كمياً، كما كان متعارفاً عليه في الدوائر الأكاديمية، التي كانت تستخدم المقياس المسمى بـ (آي كيو) (IQ) (intelligence quotient). فقد قادت غاردنر أبحاثُه ليكتشف أن ظن العلماء، بأن الذكاء خاصية أحادية في الشخص، يمكن قياسها كمياً، ليس صحيحاً. فالحقيقة أن الذكاءات متعددة، ويملك كل فردٍ بشري، واحداً منها، أو بعضاً منها. الشاهد، أن لا شخص يملكها جميعها، وبنفس القدر. فالشخص قد يملك قدراً كبيرا من اثنين، أو ثلاثة منها، ومقادير أقل من بقيتها. حصر غاردنر، في بادئ الأمر، الذكاءات في سبعة، هي: (1) الذكاء الرياضي المنطقي، (2) الذكاء الشفاهي اللغوي (3) الذكاء الجسدي الكيناستاتيكي (4) الذكاء الإيقاعي الموسيقي (5) الذكاء الفراغي التصوري (6) الذكاء في معرفة الذات (7) الذكاء في معرفة الآخرين. وبعد فترة أضاف إليها ذكاءً ثامناً، أسماه (الذكاء الطبيعي)، أي المعرفة بالطبيعة من حولنا.
أثارت نظرية غاردنر، حين خرجت، ثائرة الدوائر الأكاديمية، خاصة في حقل التعليم. فقد أحدثت نظريته انقلاباً غير مسبوق، وقلبت الطاولة على كثير من الممارسات التعليمية التي انبنت على مفاهيم خاطئة ـ هذا إن نحن سلمنا بصحتها ـ وهي عندي صحيحةٌ تماماً، في بابها. بناءً على نظرية غاردنر، فإنه، باستثناء حالات الاحتياجات الخاصة، وهي حالات استثنائية، لم يعد هناك، طفلٌ ذكي، وآخر أقل ذكاءً. فكل ما في الأمر، هناك طفل له استعداد فطري لتعلم أشياء بعينها، في حين ليس لديه استعداد فطري لتعلم أشياء أخرى بعينها. هذا الوضع يلقي باللائمة في ضعف الأداء الأكاديمي للطلاب على المدارس، وعلى الآباء والأمهات، بأكثر مما يلقيه على الطفل. فالمدرسة الحداثوية، بشكلها الذي نعرفها به، مصممةٌ لتعمل، وكأن الأطفال جميعاً متشابهين من حيث الاستعداد الفطري. فقط هناك من هو ذكي، وهناك من هو أقل ذكاء. ولذلك تصر المدارس على أن يحرز الطالب قدراً معيناً من الدرجات، في طائفة واسعة جداً من المواد الدراسية، والأنشطة. ومن لا يحرز ذلك القدر، يتم إبعاده، كما في الدول النامية، التي لا تتوفر فيها الفرص الدراسية الكافية، أو تلصق به بطاقة قلة الاستعداد للتعليم، كما في الدول التي تتوفر فيها الفرص للجميع. ويترتب على ذلك، أن يظن الطالب، وتظن أسرة الطالب أنه لا يصلح للتعليم الأكاديمي، ويصبح لا سبيل أمامه، من ثم، سوى الانخراط في عالم المهن، التي لا تتطلب ذكاءً عالياً، أو تأهيلاً وتدريباً، عالياً. باختصارٍ شديد، ترى نظرية غاردنر للذكاءات المتعددة، أن على المدرسة أن تدرِّس الطالب حيث تكون قوته، لا حيث يكون ضعفه، teach to strength not to weakness. وهذا يلقي على المدرسة عبء اكتشاف، أين تكمن موهبة الطفل، بالضبط، وأين يقع استعداده الفطري. فكثير من الطلاب يضيعون لأن المدرسة ليس لديها المعرفة الكافية بتنوع الذكاء، وسط جمهور الطلاب، وليس لديها المناهج القادرة على استيعاب هذا التنوع الإدراكي وسط التلاميذ. فالمشكلة تكمن في نموذج المدرسةschool model الحداثوية، بأكثر مما تكمن في الطلاب، واستعدادهم للتعلم.
قدمت هذا الشرح الموجز، والمضغوط جدا لنظرية الذكاءات المتعددة، وما يمكن أن يترتب عليها في مجال الممارسات التعليمية، لأن نظرية الذكاءات المتعددة أحدثت انفجاراتٍ إضافية في مباحث الذكاء. ولسوف أعود لنظرية الذكاءات المتعددة، وأثرها على الممارسات التعليمية في مقالات منفصلات، لما في ذلك من فائدة للتربويين، والآباء والأمهات. فهذه النظرية تمثل واحداً من محاور اهتماماتي البحثية لأكاديمية ولقد نشرت حول انعكاسات نظرية الذكاءات المتعددة على التربية الفنية، في دورية، بحوث في التربية الفنية والفنون، التي تصدرها كلية التربية بجامعة حلوان، ج. م. ع. (العدد 24، مجلد 24، مايو 2008م، ص. ص. 63 ـ 94). الشاهد، أن نظرية الذكاءات المتعددة قادت إلى أن تحتل مباحث الذكاء، الواجهة في فهم ظاهرة الإدراك، وما ترتب عليها من تفرعات في أبحاث الذكاء العاطفي والذكاء الروحي، أسهم في إعادة فهم البناء النفساني للكائن البشري human psyche. ففي العام 1995 ظهر دانيال قولمان، بما أسماه الذكاء العاطفي. ثم جاء كل من دانه زوهار، وإيان مارشال في العام 1997، بما أسمياه "الذكاء الروحي". وتشعبت الدروب في الاحتفاء بما أسموه "الذكاء الروحي" إذ سار على الدرب كثيرون، أذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، توني بوزان، وروبرت أيمونز، وكاثلين نوبل، وآخرين. فعلى سبيل المثال يقول توني بوزان (2001)، إن الذكاء الروحي يمكن أن ينعكس في وعيك بالعالم من حولك، ومكانك فيه. ويعرفه روبرت إيموس (2000) بأنه الاستخدام التأقلمي adaptive للمعلومات الروحانية، من أجل الإتيان بحلولٍ للمشاكل اليومية، وتحقيق الأهداف. أما زوهار ومارشال فإنهما يعرفان الذكاء الروحي، بأنه، الذكاء الذي بموجبه نموضع أفعالنا، وحيواتنا، في إطار موسَّعٍ، ثريٍّ، مانحٍ للمعنى. إنه الذكاء الذي به نقيِّم، أن أحد مسارات فعلنا، أو مسار حياتنا الذي اخترناه، أكثر معنىً، وأكثر ناتجية، من مسارٍ آخر. وأهم من ذلك، في ما يتعلق بما نحن بصدده، في هذه السلسلة من المقالات، فقد عرف زوهار، ومارشال (2000)، الذكاء الروحي في موضع آخر قائلين: ((يمنحنا الذكاء الروحي قدرتنا على التمييز. إنه يعطينا حسنا الأخلاقي، وقدرتنا على التعامل مع القوانين الصارمة الجامدة عن طريق الفهم والتعاطف، وأيضاً التعامل بقدرٍ مماثلٍ من القدرة على الرؤية، حين يكون التعاطف والفهم قد بلغا حدهما الأقصى. إننا نستخدم الذكاء الروحي لنصطرع مع سؤال الخير والشر، ولنتخيل الإمكانات غير المتحققة ـ لنحلم، ولنأمل، ولنرتفع بأنفسنا من الوحل)).
أردت أن أقول من كل الإيضاحات، الموجزة، التي وردت أعلاه، إن شمس "العلموية"، و"الوضعية" الغربية، قد أخذت تغرب، بشهادة الأكثر وعياً، ومعرفةً من أهلها. كما أن قيم إنسان الحضارات القديمة، التي انطمرت، توشك أن يتبعثر عنها التراب، وتنهض في قامةٍ جديدة، وأفق جديد. ونحن، من حيث الميراث الحضاري، أمة تمتلك ذكاءً روحياً عالياً، ولكنه مطمور. فقد مخض فينا تاريخنا الحضاري الطويل ذكاء روحياً، علي العيار. غير أن ذكاءنا الروحي هذا تعرض لأنواء كثيرة، ولعوامل تعرية كثيرة، لا زالت معاولها تنشط في هدم بنيته. ولقد رانت على قلوب النخب لدينا، وغطت على ذكائها الروحي، مقادير أكبر مما ران على قلوب عامة الناس عندنا. وهذا أمر سأتوسع في شرحه، في ما هو مقبلٌ من حلقات.
تعرضت نخبنا في القرنين الأخيرين لجوائح خارجية، ولما يمكن أن نسميها: "نظرة أجنبية للكون وللحياة، مغايرة للمتشكل التاريخي لرؤيتنا"، مما يصح أن نطلق عليه: an alien worldview. فقد اجتاح نخبنا الفقه العثماني الوافد، ثم ما لبثت أن اجتاحتهم النظرة الغربية الرأسمالية، "العلموية"، الفردانية، التي جلبها التعليم الغربي الوظيفي، المحدود. فأحلت تدليل الذات، self indulgence، محل الوعي المجتمعي الترابطي، التكاملي، الذي يؤمن صاحبه روحياً بأنه لن يسلم، ولن يتحقق له الخلاص، ما لم تسلم البنية المجتمعية، في كليتها، وتحرز تمام عافيتها. هذا الوعي الكوني المتماسك، الذي لا يفصل بين الشخصي، والبيئوي، والكوني، هو الذي لخصته، في بساطةٍ شديدة، أحاديث نبي الإسلام العظيم، حين قال: ((لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه، ما يحب لنفسه)). وحين قال: ((والله لا يؤمن ... من بات شبعانَ وجارُه، جائعٌ، وهو يعلم)). فالذكاء الروحي هو الذي يدلك على مواطن الاختلال الفادح في التوازن في العلاقة مع الكون، (مع الله)، ومع الذات، ومع المجتمع، ويدفعك إلى العمل، وبإلحاح، لتصحيح الخلل في هذه المعادلة الثلاثية المركبة، التي لا يستقيم صلاح أمر الفرد، ولا صلاح أمر الجماعة، إلا بتوازنها. (يتواصل)